من حقوق المرأة في الإسلام حق العمل 9.2
لا شك أن مؤتمرات كثيرة عقدت تتناول حقوق المرأة من ذلك ما جاء في التقرير المؤتمر العالمي الذي عُقِدَ باسم الأمم المتحدة عام ألف وتسعمائة وثمانين ميلاديًّا ألف وأربعمائة هجرية، والذي وردَ في ثنايَاهُ من البنود التي تؤكد على حقِّ المرأة في العمل، وجاء أيضًا في تقرير المؤتمر العالمي الرابع المعني بالسكان، والذي كان سنة ألف وتسعمائة وأربعٍ وثمانين ميلاديًّا ما يدل ويفيد: أن الدول عليها أن تكفل للمرأة حريةَ الاشتراك في القوى العاملة، وأن لا تقيدها عن الاشتراك في العمل، أو أن تكرهها عليه لأسباب تتعلق بالسياسية الديموغرافية، أو التقاليد الثقافية.
ولقد خرجت المرأة الغربية إلى ميادين العمل المتنوعة والمتعددة بلا ضابط ولا رابط خاصة بعد قيام الثورة الفرنسية التي كانت عام ألف وسبعمائة وتسع وثمانين ميلادية، ومع تكون الرأسمالية، وانهيار النظام الإقطاع الذي كان سائدًا آنذاك اضطرت النساء، والأطفال الذين كانوا يقبعون في مناطق كثيرة؛ لاسيما في المناطق القروية إلى أن يزحفوا إلى المدن بحثًا عن لقمة العيش بأيِّ وسيلةٍ وأي ثمنٍ، فتلقفهم الأغنياء؛ ليدفعوا بهم إلى أطول المصانع بأقل رِيعٍ، وبأقل أجر، حتى أن المرأة كانت تستعمل بأقل من ربع أجر الرجل في بعض الأحيان.
ساعد على ذلك العوز الشديد الذي حل بالأسر التي قدمت من تلك الأرياف وساعدت هذه الظروف الشديدةُ الصعبةُ على المرأةِ التي لم تكن لتُكْفَل في أوروبا من قبل أهلها وذويها، وإنما كان عليها أن تكد لتجد لقمة عيشها ساعد ذلك على رواج تجارة البغاء، فتحولت كثيرٌ من النسوة من العمل في مواطن الصناعة والتجارة إلى احتراف البغاء.
ومنذ خروجها من بيتها في أوروبا، وهي تدور في تلك الدوامة الرهيبة، تلهث وراء لقمة عيشها، وتجتذب الجميلات من تلك النسوة لتجارة الرقيق الأبيض الذي يعتبر من أخطر هذه المهن، حتى إن بعض رجال البرلمان الفرنسي قال: إن حرفةَ البغَاءِ لم تعد الآن عملًا شخصيًّا، بل لقد أصبحت تجارة واسعة وحرفة منظمة بفضل ما تجلب وكالاتها من الأرباح.
وتجارة الدعارة التي تقوم في أوروبا الغربية شرقًا وغربًا اليوم تُعَدُّ من أكبر مصادر الدخول لديهم في الحضارة الغربية المعاصرة، ويمكن تلخيص أسباب خروجها من بيتها للعمل في الأمور التالية:
الأول: المرأة في الغرب لا تكفل إلا من نفسها وبنفسها؛ فالأب غير مكلف بالإنفاق على ابنته إذا بلغت الثامنة عشرة من عمرها، فهي مجبرةٌ أن تجِدَّ وأن تَكِّدَّ في البحثِ عن عملٍ لتنفق على نفسها، بل الأب أحيانًا يكلفها بأن تدفع أجرةَ الغرفة التي تسكنها في بيته، ثم إن الرجل الغربي، وهذا من الأسباب تسيطر عليه آفة الأنانية والبخل؛ إذ إنه لا يقبل أن ينفق على من لا يعمل؛ لأنه لا يرى تربية الأولاد أمرًا مهمًّا، ولا عملًا فاضلًا لماذا؟ لأنه يعيش في مجتمع غير ديني غالبًا.
ومن الأسباب: أن الرجال عمدوا إلى إشباع شهواتهم وغرائزهم على حساب حاجةِ المرأة المادية، فهم يريدون المرأة في كل مكان لتكون معهم ولهم، ويدل على ذلك تسخيرهم لها في شهواتهم الدنيئةِ من خلال أفلام داعرة، وصور عارية، ثم إن المرأة التي عانت كثيرًا تحت ظل نصرانية محرفة أو يهودية محرفة عانت وهي تبحث عن حرية تجعلها في مقامِ البشرية والإنسانية، وهذا دفعها إلى أن تحاول أن تثبتَ وجودها، وكينونتها من خلال استقلالٍ اقتصادي، يجعلها مستغنيةً عن الرجل.
وإلى يوم الناس هذا فإن المرأة التي يتراوح عمرها بين خمس وعشرين سنة، وخمس وستين سنة لا تحصل إلا على نحو خمس وستين بالمائة من أجر الرجل، وأما المرأةُ إذا كانت متزوجةً فإنها لا تحصل على أكثر من ست وخمسين بالمائة من أجر الرجل الذي يتقاضاه حاليًّا.
وإذا أردنا أن نتحدث عن عمل المرأة في الإسلام: فإننا يجب أن نقدر أن للمرأة أعمالًا، لكنها لا تقابل بالمال، ولا تقدر بالمال أصلًا، وفي تقرير للأمم المتحدة صدر عام خمس وثمانين وتسعمائة وألف: تناول القيمة الاقتصادية لعمل المرأة في بيتها، وقيامها على شئون أولادها، فقال ذلك التقرير -وهو تقرير لم تكتبه أياد مسلمة، ولا عرف أن الذين شاركوا في إعداده أو صنعه من المسلمين: لو أن نساءَ العالم تلقَيْنَ أجورَ نظير القيام بالأعمال المنزلية، لبلغ ذلك نصف الدخل القومي لكل بلد، ولو قامت الزوجات بالاضطراب عن القيام بأعمال المنزل؛ لعَمَّتْ الفوضى العالم سيسير الأطفال في الشوارع، ويركض الرضع في أسرهم جياعًا تحت وطأة البرد القارص وستتراكم جبال من الملابس القذرة دون غسيل، ولن يكون هناك طعام للأكل، ولا ماء للشرب، ولو حدث هذا الاضطراب فسيقدر العالم أجمع القيمة الهائلة لعمل المرأة في بيتها.
إن المرأة لو تقاضت أجرًا لقاء القيام بالأعمال المنزلية؛ لكان أجرها أكثر من مائة وخمس وأربعين ألف دولار في السنة، ويمضي التقرير فيقول: وإن النساء الآن في المجتمعات الصناعية يساهمن بأكثر من خمس وعشرين بالمائة إلى أربعين بالمائة من منتجاتِ الدخلِ القومي بأعمالهِنَّ المنزليةِ.
وفي تقرير آخر صدر في الولايات المتحدة عن لجنةٍ مكونةٍ من دائرةِ الصحةِ والتربية، والرعاية الاجتماعية لدراسة شئون العاملين في ميادين العمل، ومن ذلك عن المرأة الأمريكية، وانعكاساته على أسرتها وأطفالها، وما يتعلق بهذا الشأن من هذا التقرير نقتبس بعض الفقرات حين يقول مُعِدُّوهُ حين ننظر إلى عمل المرأة في بيتها نجد أنه من السخافة أن يقتصر تعريفِ العملِ على الذي يتقاضى صاحبه عنه أجرًا؛ فالمرأة في بيتها لا تعتبر عاملةً طبقًا للتعريف المشار إليه، ولكن عملها في تربية الآخرين يعتبر عملًا، وإن أجورهن تسهم في زيادة الدخل القومي بآلاف الدولارات.
وجاء في نفس هذا التقرير والحقيقة الواضحة: أن رعاية الأطفال يعتبر عملًا بكل ما يفيده مفهوم العمل؛ لأن هذه الرعاية مهمة صعبة، وذات أثر خطير على المجتمع الكبير أكثر من أيِّ عملٍ آخر تدفع له الأجور إن المشكلة ليست في قبول الناس في مجتمعنا الأمريكي بهذه الحقيقة أو عدم قبولهم، وإنما المشكلة هي في معتقداتنا وثقافتنا الخاصة، هكذا يتحدث الأمريكيون عن أنفسهم حتى إنه لا يمكن القول.
كما قال الإنجليزي صمويل إسمايلس، وهو من أركان النهضة الإنجليزية: إن نظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة؛ فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه يهاجم هيكلَ المنزل ويقوض أركان الأسرة، ويمزق الروابط الاجتماعية، ويسلب الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم، وصار لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة؛ إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية، من ترتيب مسكنها وتربية أولادها، والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام باحتياجاتها البيتية، لكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات؛ بحيث أصبحت المنازل غير المنازل وأضحت المواليد تشب على عدم التربية، وتلقى في زوايا الإهمال، وانطفأت المحبة الزوجية.
وعليه فإن البطالة الحقيقية تتمثل في خروجها للعمل، وبقاء الرجال عاطلين بلا عمل؛ مع أن الرجل مُلْزَمٌ بالنفقة على المرأة في شريعة الإسلام.
ولقد أثبتت دراسة ميدانية أجراها الدكتور حسين شحاتة، أستاذ المحاسبة بكلية التجارة جامعة الأزهر: أن المرأة العاملةَ خارجَ بيتها تنفق من دخلها أربعين بالمائة على مظهرها، وعلى وسائل المواصلات، أما تلك التي تعمل في بيتها فهي توفر من تكلفةِ الطعامِ والشرابِ ما لا يقل عن ثلاثين بالمائة.
وخلصت الدراسة إلى أن المرأة التي تمكث في البيت توفر ما لا يقل عن سبعين بالمائة من الدخل الذي كان بالإمكان أن تحصل عليه، بل يمكنها أن تحقق دخلًا أكثرَ من ما تحققه الموظفة؛ إذ تستطيع أن تحول بيتها إلى ورشةٍ إنتاجية بأن تصنع في وقت فراغها ما يحتاج إليه بيتها، ومجتمعها.
والإسلام قد حَثَّ المرأة بالجملة على لزوم بيتها، وعلى القيام بتربية أولادها إلى أن يعارض أن تعمل المرأة إذا كان عملها عملًا مشروعًا، وبضوابطه والسنة، والسيرة تشهدان على هذا، والأدلة عليه متوافرة متكاثرة.
فقد أخرج مسلم في (صحيحه) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: طُلِّقَت خالتي، فأرادت أن تَجُدَّ دخلها، فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت تستأذنه، فقال: ((بلى فجدي نخْلَكِ؛ فإنك عسى أن تصدَّقِي أو تفعلي معروفًا)) ومعنى “تجد نخلها” أي: تقوم على صرام النخل أي: اجتناء ثماره، وهو قطع الثمار؛ فأذن النبي -عليه الصلاة والسلام- لامرأة كانت معتدة من طلائق بائن للخروج؛ لتأخذ ثمار نخلها، ولم ينكر ذلك عليها.
علق الإمام النووي بقوله: وفيه استحباب الصدقة من التمر عند جُدَادِه والهدية، واستحباب التعريض لصاحب التمر لفعل ذلك، وتذكير المعروف والبر.
وقد أخرج البخاري في (صحيحه) في كتاب الجهاد، في باب: مداواة الجرحى في الغزو، وفي كتاب الطب، باب: هل يداوي الرجل المرأةَ، أو المرأة الرجل من حديث الربيع بنت معوز -رضي الله تعالى عنها- قالت: ((كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- نسقي، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة)) وعلَّق على هذا الحديث الحافظ ابن حجر فقال: وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجلَ الأجنبي للضرورة.
وقال ابن بطال: ويختص بذلك ذوات المحارم، ثم بالمتجالَّات منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد؛ فإن دعت الضرورة لغير المتجالَّات، فليكن بغيرِ مباشرةٍ ولمس، ويدل على ذلك اتفاقهم: على أن المرأة إذا ماتت، ولا يوجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس ليغسلها من وراءِ حائلٍ في قول بعضهم كالزهري.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد من حديث محمود بن لبيد، قال: لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق، فثقل حَوَّلُوه عند امرأة، يقال لها: رفيدة، وكانت تداوي الجرحى؛ ((فكان النبي -صلى الله عليه وآله- إذا مَرَّ بِهِ يقول: كيف أمسيت وإذا أصبح، قال: كيف أصبحت؟)) وفي هذه الأحاديث مزاولة المرأة لمهنة التطبيب، وما تقدم من أحاديث في إثباتِ حقِّ المرأةِ في العلمِ، والدعوة والبيع، والشراء، ونحو ذلك ما يدل على واقعيةِ هذا الدينِ، ودعوته أفراده للمشاركة لتقدم المجتمع، والعمل على رُقِيِّهِ مع المحافظة عَلَى الأولويات، وترتيب المهمات من غير إخلالٍ بالواجبات والأساسيات.
وإذا كان الإسلام لم يمنع المرأة منعًا مطلقًا من أن تعمل، وإنما أباح لها أن تعمل متى احتاجت إلى هذا العمل من غير إخلالٍ بواجباتها، ومهماتها الأساسية؛ فإنه أيضًا وضع لها ضوابط تضبط لها عملها.
ومن هذه الضوابط أن يأذن لها وليها؛ فلا تخرج المرأةُ إلى عملٍ إلا بإذن وليها سواء أكان الولي زوجًا، أم كان أبًا؛ فلا بد من إذنه لها بالعمل؛ لأن الرجال يقومون على أمر النساء، كما قال الله: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)) (النساء: 34).
الضابط الثاني: أن لا يكون هذا العمل الذي تزاوله صارفًا لها عن الزواج الذي حثَّ عليه الإسلام، وأكده، أو مؤخِّرًا للزواج من غير حاجة إلى تأخيره.
الضابط الثالث: أن الإسلام يحثُّ على الإنجاب، وكثرة النسل، والأدلة على ذلك كثيرة، والله تعالى قال في سياق الامتنان بنعمة الزواج: ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) (النحل: 72).
فلا ينبغي أن يكون العمل شاغلًا للمرأةِ عن القيام بمهمتها من إنجابِ الذرية والقيام على هذه الذريةِ.
وهذا ضابطٌ رابعٌ: ألا يكون هذا العمل الذي تعمله على حسابِ واجباتِها نحو زوجها وولدها، فعمل المرأةِ أصلًا في بيتها، والعملُ خارج البيت أمر طارئ. وفي حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها، وهي مسئولةٌ عن رعيتها)).
والضابط الخامس: أن يكون العمل في ذاته عملًا مشروعًا مباحًا، والعمل المشروع ما كان مأذونًا فيه من كتاب ربنا، أو من سنة نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- وأما الأعمال المنهي عنها: التي نُهِيَت المرأة عنها بخصوصها ونهي الرجل عنها، فهذا لا يجوز بحال، فلا يجوز لامرأة كائنة من كانت أن تعمل في مؤسسة ربوية، أو أن تعمل في ماخورٍ، أو مرقصٍ، أو مكان لبيعِ المحرماتِ -والعياذ بالله تعالى.
الضابط السادس: أن يتفق عمل المرأة مع طبيعتها: فالمرأة بأنوثتها وخصائصها البدنية، لا تتحمل الأعمال الشاقة، ولا الأعمال المكروهة، فلا يليق بامرأة أن تعمل في تنظيفِ الشارعِ، ولا أن تعمل في بناء العمارات، ولا في شق الطرق، ولا في مصانعِ الحديدِ والصلبِ، والصناعات الثقيلة، وغير ذلك من الأعمال التي لا تليق إلا بأشداءِ الرجال؛ فالعمل فيها وبها عندئذٍ خروجٌ عن الفطرة، ودخولٌ في التكَلُّف الذي نهينا عنه، والله -تبارك وتعالى- جعل من قواعد التكليف: ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) (البقرة: 286).
ومن ضوابط خروج المرأة للعمل، وهو الضابط السابع: أن تخرج المرأة إلى عملها متسترة بلباسها، وبزيِّهَا الشرعي.
ومن شروط هذا اللباس: أن يكون ساترًا لجميع البدن؛ وذلك لقولِ الله تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)) (الأحزاب: 59) والجلباب تلك العباءة أو الملاءة التي تلتفُّ بها المرأة، أو تلتحفَ بها المرأةُ فتكون فوقَ ثيابِهَا فتغطيها من رأسها إلى أخمص قدميها، وأن لا يكون هذا الثوب الذي تلبسه المرأة زينةً في نفسه، فيشترط فيه: أولًا: أن يكون ساترًا لجميع البدن.
ويشترط فيه ثانيًا: ألا يكون زينةً في نفسه؛ لقول الله تعالى: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)) (النور: 31) فإنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت نظر الرجال إليها وقد قال الله تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)) (الأحزاب: 33) فالتبرج أن تبدي المرأة من زينتها. ومن محاسنها: ما يجب عليها ستره مما تفتن به الرجال.
وقد بالغ الإسلام في التحذير من التبرج إلى درجة أن قرنه بالشرك والزنا، والسرقة، وغير ذلك من المحرمات؛ وذلك حين بايع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- النساءَ على أن لا يفْعَلْنَ ذلك فقال عبد الله بن عمرو: ((جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبايعه على الإسلام، فقال: أبايعكِ على أن لا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتانٍ تفترينه بين يديكِ ورجليكِ، ولا تنوحِي، ولا تتبرجي تبرجَ الجاهلية الأولى)).
يقول الآلوسي في (روح المعاني): ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عنها إبداؤها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن ويستترن به إذا خرجن من بيوتهن، وهو غطاء منسوجٌ من حريرٍ ذي عدة ألوان، وفيه من النقوشِ الذهبيةِ والفضية ما يبهر العيون. ويرى: أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك، ومشيهِنَّ به بين الأجانب من قلة الغيرة. وقد عمَّت به البلوى.
ويشترط في هذا الذي الذي تخرج به المرأة من بيتها أن يكون صفيقًا لا يشف؛ لأن الستر لا يتحقق إلا به. أما الشفاف فيزيد المرأةَ فتنةً وزينةً، وقد أخرج مسلم في (صحيحه) من كتاب اللباس والزينة: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال في حديث أبي هريرة: ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجنةَ لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)).
ومن شروط هذا الحجاب: أن يكون فضفاضًا غير ضيق. فلا يجوز أن يصف شيئًا من جسدها؛ لأن الغرض من الثوب، إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع.
وأما الضيق: إنه وإن ستر لون البشرة فإنه يصف حجم جسمها أو حجم عظامها أو بعض ذلك، ويصوره للرجال. وقد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أسامة أن يأمر زوجته أن تجعل تحت القبطية غلالة، وهي شعارٌ يلبس تحت الثوب؛ ليمنع به وصف بدنها، والأمر يفيد الوجوب، وينبغي ألا يكون هذا الثوب الذي تلبسه المرأة عند خروجها مُبَخَّرًا، ولا مُطَيَّبًا؛ لأحاديث كثيرة نهت النساء عن التطيب، وجعلت ذلك في حكم الكبائر إذا تطيبت المرأة فخرجت.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال في حديث أبي موسى الأشعري: ((أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم؛ ليجدوا ريحها؛ فهي زانية)) وأخرج مسلم أيضًا في (صحيحه) أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال للنساء: ((إذا شهدت إحداكُنَّ المسجدَ؛ فلا تمس طيبًا)).
ومن شروط هذا الحجاب أيضًا: أن لا يشبه لباس الرجل؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث بن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((لعن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: أخْرِجُوهُم من بيوتكم، وأخرج فلانًا، وأخرج عمر فلانًا)).
ومن الشروط أيضًا: أن لا يشبه لباسُ المرأة لباسَ الكافرات؛ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حذر من التشبه بالكفار، كما أخرج ذلك مسلم في (صحيحه) من حديث عبد الله بن عمرو قال: ((رأى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه من ثياب الكفار؛ فلا تلبسها)).
ومن الشروط أيضًا: ألا يكون لباس شهرة، وقد أخرج الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عمر قال: قال نبينا -صلى الله عليه وآله: ((من لبسَ ثوبَ شَهْرَةٍ ألبسهُ اللهُ ثوبَ مذلةٍ يومَ القِيَامَة)).
ومن الضوابط المهمة في عمل المرأة: ألا تخلو بأجنبي أو لا يخلو بها أجنبي وألا تزاحمه، وألا تخالطه مخالطةً مستهترةً، تتضمن خلوةً محرمة، أو نظرًا محرما، أو مصافحةً محرمةً، أو سفرًا محرمًا، أو أيَّ نوعٍ من أنواع التبرج بزينتها بين الرجال.
وقد منع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- النساء من مخالطة الرجال في الطريق، ومنعهن أيضًا من مخالطةِ الرجال في المسجد؛ فرأينا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول لهن: ((استأخرن؛ فإنه ليس لَكُنَّ أن تحقُقْنَ الطريق)) ورأيناه -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((خيرُ صفوفِ الرجال أولها، وشرها آخرها، وخيرُ صفوف النساء آخرُهَا، وشرها أولها))، لأن الصفوف المؤخرة من الرجال والمقدمة من النساء، هي مظنة وقوع شيء من الاختلاط، أو حصولُ شيءٍ من الكلام، أو السلام، أو النظر، أو ما يشبه أن يكون مقدمةً لأمرٍ غير مَرْضِي.
وقد قال ابن القيم -رحمه الله: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة، والخاصة، فاختلاط الرجال بالنساء؛ سببًا لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة، قال -رحمه الله: ولما اختلط البغايا بعسكر موسى، وفشَتْ فيهم الفاحشة أرسل الله عليهما الطاعون، فمات في يوم واحدٍ سبعون ألفًا. والقصة مشهورة في كتب التفاسير.
قال ابن القيم: فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا؛ بسبب تمكين النساء من اختلاطِهِنَّ بالرجال، والمشي بينهم متبرجاتٍ متجملات، ولو علم أولياء الأمور ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية قبل الدين؛ لكانوا أشد شيء منعًا لذلك.
وإذا أردنا أن نقف على خطر الاختلاط، وآثاره الوخيمة، وعواقبه الذميمة؛ فإننا نقول: إن تلك المجتمعات الغربية التي سبقت إلى الاختلاط المستهتر، وأسست له، كأمريكا وأوروبا؛ وجدنا آثارًا منكرة، وثمارًا مذمومة لهذا الاختلاط.
فمن ذلك أن نسبة الحبالى من تلميذاتِ المدارس الثانوية في أمريكا بلغت في إحدى المدن ثمانية وأربعين بالمائة، أي: أن ثمانية وأربعين بالمائة من تلميذات تلك المدارس كنَّ حبالى جراء الاختلاط، ووقوع الزنا -والعياذ بالله- ودلت الإحصاءات أن مائة وعشرين ألفًا من الأطفال أنجبتهم فتيات لم تكن أعمارهن تزيد عن عشرين سنة، وأن أكثرهُنَّ كنَّ طالبات في الكليات والمدارس الثانوية.
وفي بريطانيا: واجهت جمعيةٌ هناك ظاهرةَ انتشار التلميذات الحوامل سفاحًا بشرط أن يكونَ عمرهن أقل من ستة عشر عامًا، كما تبين أن استخدام الفتيات لحبوب منع الحمل في المدارس يتزايد كمحاولةٍ للحدِّ من هذه الظاهرة؛ ثم إن الاغتصاب غدا شيئًا فاشيًا في تلك المجتمعات.
وقد نشرت مجلةُ الطب النفسي الأمريكي عن الاعتداء الجنسي خلال العمل؛ فقالت: إن اثنين وأربعين بالمائة من النساء العاملات يتعرضن له، وأن أقل من سبعة في المائة فقط من الحوادث هي التي يرفع أمرها إلى الجهات المسئولة، وأن تسعين بالمائة من المعتدَى عليهم يتأثرن نفسيًّا، وأن اثنا عشر بالمائة منهن يذهبن لطلبِ المعونةِ النفسية.
والأمر قريب من هذا في النمسا؛ فقد وُجِدَ ثلاثين بالمائة من النساء قد أبلغن عن تعرضهن لاغتصابٍ، وأعمال غير أخلاقية، وأن هذه النسبة قريب منها في فرنسا، وقريب منها في هولندا وألمانيا، وهكذا دلَّتْ هذه الإحصاءات على وجودِ ما هو أعم من الاغتصاب كالتحرشات الجنسية؛ فالبريطانيات يتعرض أربعة وسبعون بالمائة منهن للتحرش الجنسي، وغير الأخلاقي في أماكن العمل؛ ولهذا صار الابتزاز الجنسي من أخطر ما تواجه المرأة من عقبات وصعوبات.
وقد قدم استفتاء إلى السكرتيرات في الأمم المتحدة حول الابتزاز الجنسي لهن أثناء العمل، فتمَّ استجواب أكثر من ثمانمائة وخمس وسبعين امرأة منهن، فأفادت خمسون بالمائة من تلك النسوة أنهن قد وقعنَ فريسة هذا الابتزاز الجنسي، أثناء قيامهن بأعمالهن في الغرب، ومثل ذلك في الخطورة، وأشد ما يسمى بالشذوذِ الجنسي فرغم كثرة النساء، وسهولة العثور عليهن، وشيوع الزنا لدرجةٍ مخيفةٍ في المجتمعات الغربية.
فإننا رأينا هذا الشذوذَ ينتشرُ بشكلٍ غير مسبوقٍ في تلك المجتمعات حتى صارَ الشذوذُ بين الرجال، وبين النساء أمرًا مألوفًا في تلك البلاد، وتكونت آلاف الجمعيات التي ترعى شئون الشاذين جنسيًّا -والعياذ بالله تعالى- فقد بلغ عددهم في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها سبعة عشر مليونًا من الشواذِّ جنسيًّا، وانتشر ما هو أقبح من ذلك، وأنكى من نكاحِ المحارمِ -والعياذ بالله.
ففي دولة كالسويد التي تعتبر في الذروة من تلك البلاد حضارةً وَرُقِيًّا ماديًّا ويبلغ مستوى المعيشة في تلك البلاد أشده وأوْجَهُ؛ فإن الدولة تدرس الآن قانونًا يبيح العلاقة الجنسية بين الأخ وأخته، حتى نشرت صحيفة (الهيرلد تريبيون) في عددها الصادر سنة تسع وسبعين وتسعمائة وألف في التاسع والعشرين من شهر يونيو؛ ملخصًا لأبحاث قام بها مجموعةٌ من الإحصائيين من القضاة والأطباء حول ظاهرة غريبة بدأ انتشارها في المجتمع الأمريكي. وفي المجتمعات الغربية بصورة عامة وهي ظاهرة نكاح المحارم.
يقول الباحثون: إن هذا الأمر لم يعد نادرَ الحدوث، وإنما هو منتشر لدرجة يصعب تصديقها؛ فهناك عائلة من كلِّ عشر عائلات أمريكية يمارس فيها الشذوذ، والأغرب من هذا: أن الغالبية العظمى، أي: خمسٌ وثمانون بالمائة من الذين يمارسون هذه العلاقات الشاذة يمارسونها مع بناتهم، وأولادهم، أو بين الأخوة والأخوات، أو بين الابن والأم، هؤلاء يقولون: هذه عائلات محترمة في مجتمعاتهم، وناجحة في عمالهم، ولا تعاني أمراض نفسية، وليسوا من المجرمين، ولا من العتاة هكذا انتكست البشرية عند هؤلاء القوم الذين يدَّعُون مدنية -عياذًا بالله- من اختلاط أدَّى إلى بغاءٍ، وقاد إلى فواحش، وأفضى إلى زنا، واغتصاب، وشذوذ، ونكاح للمحارم وويلات تتبعها ويلات فهل من مدكر.