Top
Image Alt

من خصائص الإسلام: الوسطية

  /  من خصائص الإسلام: الوسطية

من خصائص الإسلام: الوسطية

الخاصية الثانية من خصائص الإسلام: الوسطية:

قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] الوسط: اسم لما بين طرفي الشيء، وقد يطلق على ما له طرفان مذمومان كالجود بين البخل والسرف، وقد يطلق على ما له طرف محمود، وآخر مذموم كالجودة، والرداءة تقول في الشيء: هذا وسط بين الحسن، والرديء فالوسط الخيار فوسط الوادي خير مكان فيه، ويقال: فلان وسط في قومه إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعهم مجدًا.

وقد جاء في صفة نبينا -صلى الله عليه وسلم أنه كان من أوسط قومه أي: خيارهم، وقد جعل الله تعالى أمته وسطًا أي خيارًا، والمقصود بالتوسط أن يتحرى المسلم الاعتدال، ويبتعد عن التطرف في الأقوال، والأفعال بحيث لا يغلو، ولا يقصر، ولا إفرِاط، ولا تفريط فإن الإفراط، والتفريط مذمومان، وقد نهى الله عنهما، وذم أهلهما قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ} [هود: 112].

وعن ابن عباس -رضي الله عنه-قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ الْقُطْ لِي فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ -يعني: بأمثال هذه الحصى ارموا الجمرات- وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))، وقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُون} [الأنعام: 31]، وقد نهى الله تعالى عن طاعة هؤلاء، وأمر بمخالفتهم فقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

فمتى ابتعد الإنسان عن الإفراط، والتفريط فقد اعتدل على أوسط الطريق، واستقام على الصراط المستقيم كما أمر الله حيث قال: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يسألوه في صلواتهم: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} [الفاتحة: 6، 7] “فالمغضوب عليهم”: الذين فرطوا، وقصروا، تعلموا، ولم يعملوا، و”الضالون”: الذين غلوا وأفرطوا، وتشددوا حتى ابتدعوا، و”الصراط المستقيم”: الذي هدى الله إليه النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين وهو العمل بالعلم في غير إفراط، ولا تفريط.

وقد أنعم الله تعالى على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم بالهداية إلى هذا الصراط المستقيم؛ فكانوا بذلك أمة، وسطًا كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 142، 143] فالوسطية: تعني اتباع الصراط المستقيم، والثبات عليه، والحذر من الميل إلى أحد جانبيه.

ولقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم لذلك مثلًا محسوسًا، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-قال: ((كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم فخط خطًّا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

قال ابن القيم: “وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا الله تعالى باتباعه هو الصراط الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو قصد السبيل، وما خرج عنه؛ فهو من السبل الجائرة لكن الجور قد يكون جورًا عظيمًا عن الصراط، وقد يكون يسيرًا، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، وهذا كالطريق الحسي؛ فإن السالك قد يعدل عنه، ويجور جورًا فاحشًا، وقد يجور دون ذلك، فالميزان الذي تعرف به الاستقامة على الطريق، والجور عنه هو ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليه، والجائر عنه إما مفرط ظالم أو مجتهد متأول أو مقلد جاهل، وكل ذلك قد نهى الله عنه فلم يبق إلا الاقتصاد، والاعتصام بالسنة، وعليهما مدار الدين”.

وقد كثرت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في الأمر بالوسطية، والحث عليها، ومدح أهلها قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف: 31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُون} [المائدة: 87، 88]. وقال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [الأعراف: 55]، وقال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].

وعن بريدة الأسلمي قال: ((خرجتُ ذات يوم لحاجة؛ فإذا أنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم يمشي بين يدي، فأخذ بيدي فانطلقنا نمشي جميعًا فإذا نحن بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع، والسجود فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: أتراه يرائي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فترك يدي من يده، ثم جمع بين يديه فجعل يصوبهما، ويرفعهما، ويقول: عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه)).

وعن عبد الله بن عمرو قال: ((ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم رجال يجتهدون في العبادة اجتهادًا شديدًا؛ فقال: تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد وسنة فلأم ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فذلك الهالك)).

وعن مقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ملأ آدمي، وعاء شرًّا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))، وعن جابر بن سمرة قال: ((كنت أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا))، وعن أبي هريرة أراه رفعه قال: ((أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما)).

وعن حُميد الحميري، وهو ابن عبد الرحمن قال: “لقيت رجلًا صحب النبي -صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة قال: ((نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله))”، وعن ابن مسعود قال: “الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة”، وعن أبي بن كعب قال: “عليكم بالسبيل، والسنة فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسه النار، وإن اقتصادًا في سبيل، وسنة خير من اجتهاد في إضلال”.

والذي يمعن النظر في هذه النصوص يرى أنها تدل على أن وسطية الإسلام عامة جامعة شاملة للعقيدة والأحكام، والعبادات والمعاملات، والأخلاق، والعادات، والعواطف، وفي ذلك يقول الإمام الطحاوي -رحمه الله: “ودين الله في الأرض، والسماء واحد، وهو دين الإسلام كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، وهو بين الغلو، والتقصير، وبين التشبيه، والتعطيل، وبين الجبر، والقدر، وبين الأمن، والإياس”.

ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: “المسلمون وسط في أنبياء الله، ورسله، وعباده الصالحين لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، ولم يجفوا كما جفت اليهود، وهم وسط في شرائع دين الله فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء، ويثبت ما شاء كما قالته اليهود، ولا جوزوا لأكابر علمائهم، وعبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا، وينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى، وهم كذلك، وسط في باب صفات الله تعالى فإن اليهود، وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به.

وأما أهل السنة والجماعة فوسط في باب الأسماء، والصفات بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله تعالى وآياته، ويعطلون صفاته، وبين أهل التمثيل، والتشبيه الذين يضربون له الأمثال، ويشبهونه بالمخلوقات، وأما أهل السنة والجماعة؛ فيؤمنون بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهم وسط في سائر أبواب السنة، ووسطيتهم فيها راجعة لتمسكهم بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين”.

إن الوسطية من خصائص هذه الأمة، وهي سبب خيريتها، ولا تزال الأمة بخير ما حافظت على هذه الخاصية التي تتميز بها خاصية الوسطية التي تمثل الاعتدال، والاستقامة على صراط الله -عز وجل-، فإذا خرجت عن الوسط إلى أحد جانبيه ففرطت أو أفرطت فقد هلكت فإن التطرف مهلكة، فالتطرف لا يختص بالغلو والإفراط، وإنما الغلو، والإفراط تطرف، والتقصير، والتفريط تطرف أيضًا، وكلاهما مهلكة للفرد، وللمجتمع. يقول وهب بن منبه: “إن لكل شيء طرفين، ووسطًا فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، فإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان فعليكم بالوسط من الأشياء”.

وقال ابن القيم: “من كيد الشيطان العجيب أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها أقوة الإقدام أم قوة الانكفاف، والإحجام، والمهانة، وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة، والتعدي، والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم وهو الوسط”.

error: النص محمي !!