من عناصر الشكل في العمل الأدبي: الخيال
العنصر الثاني من عناصر الشكل في النص الأدبي هو: الخيال.
والخيال: هو الملكة التي تمدُّ الأديب بالصور المبنية على العلاقات المتخيلة بين الأشياء، فيظهر المعنوي في صورة المحسوس، ويظهر الجماد في صورة الحي، فبهذا الخيال تخرج المعاني في معارض فنية تصويرية، تجعل النفس أكثر قبولًا لها، وتجعل أثر التعبير أقوى في ضمير القارئ أو السامع، وينتج عن ذلك وضوح المعاني واستقرارها، فمثلًا عندما نقول: إن امرأ القيس في الشعر القديم، عندما أراد أن يعبر عن إحساسه بطول الليل قال:
وليل كموج البحر أرخى سدوله | * | عليّ بأنواع الهموم ليبتلي |
فقلت له لما تمطى بصُلْبه | * | وأردف أعجازًا، وناء بكلكل |
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي | * | بصبح، وما الإصباح منك بأمثل |
فالمعنى هنا هو الإحساس بطول الليل، وكل واحد من الناس يستطيع أن يحس أو يشعر بأن الوقت لا يمر، والوقت في حقيقته يمر فلا فرق بين ساعة وساعة، ولكن إحساس الناس بالوقت ومروره يختلف، فأوقات السرور نشعر أنها تمر بسرعة، والأوقات العصيبة نشعر أنها تمر علينا ببطء، ولما أراد امرؤ القيس أن يعبر عن إحساسه بطول الليل، أو عدم سرعة مرور الوقت شبّه الليل بموج البحر الذي لا ينتهي، فقال: “وليل كموج البحر”، ثم قال: “أرخى سدوله”، فهذا الليل أرخى أستاره علي، أي: على الشاعر، بأنواع الهموم.
فلننظر إلى هذا التخييل: ليل مثل موج البحر يرخي أستاره وسدوله، والأستار والسدول ليست أستارًا من القماش، وإنما هي بأنواع الهموم، ثم يشبه مرة ثانية هذا الليل فيقول:
فقلت له لما تمطى بصلبه | * | …. …. …. …. …. ….. |
فالليل ليس له صلب، وإنما هو هنا شبهه بالجمل على سبيل الاستعارة.
فقلت له لما تمطى بصلبه | * | وأردف أعجازًا، وناء بكلكل |
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل | * | بصبح، وما الإصباح منك بأمثل |
فالخيال هو الذي يمد الشاعر أو الأديب بصفة عامة بهذه الصور المبنية على التشبيه، أو الاستعارة، أو المجاز، أو الكناية؛ فتظهر الأشياء المعنوية في التعبير بصورة حسية، وتكتسب الأشياء صفة التجسيد أحيانًا، وصفة التشخيص أحيانًا أخرى.
وهذا التصوير الخيالي يستخدمه الأديب لتكثير القليل كما قالوا، وذلك كما في قول المتنبي في وصف جيش، حيث يقول:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه | * | وفي أذن الجوزاء منه زمازم |
فالشاعر يريد أن يصف هذا الجيش بأنه كثير وعظيم، فسماه خميسًا، وسُمي الجيش العظيم خميسًا؛ لأن له ميمنة وميسرة وقلبًا وجناحين، وزحفًا يتقدم، وجعل هذا الجيش العظيم يُحدث في زحفه وتقدمه جَلَبَة وصوتًا، يصل هذا الصوت إلى أذن الجوزاء، والجوزاء: نجمان معترضان في جوز السماء، أي: وسطها.
وشبيه بهذا قول عمرو بن كلثوم في الفخر:
ملأنا البر حتى ضاق عنا | * | وظهر البحر نملؤه سفينا |
أيضًا من أغراض الخيال: تكبير الصغير، ومثلوا له بقول بشر يصف وقعته مع الأسد حين صرعه بضربة من سيفه:
فخرّ مدرجًا بدم كأني | * | هدمت به بناء مشمخرا |
فصور الأسد على أنه مثل البناء الضخم الذي سقط.
ومن أغراض الخيال أيضًا: تصغير الكبير عكس ما تقدم، وذلك كما في قول الأعشى:
فلو أن ما أبقيت مني معلق | * | بعود ثمام ما تأوَّد عودها |
وكذلك قول المتنبي:
كفى بجسمي نحولًا أنني رجل | * | لولا مخاطبتي إياك لم ترني |
ومنه قول البارودي:
انظر إليّ تجد خيالًا باليًا | * | تحت الثياب، يكاد ألا ينعت |
أمّا جعل المعنوي محسوسًا، فكما في قول امرئ القيس السابق في وصف الليل.
ومن أمثلة التجسيد وإظهار الجماد أو النبات في صورة الإنسان، قول الشاعر:
الورد يضحك، والأوتار تصطخب | * | والناي يندب أشجانًا، وينتحب |
والراح تعرض في نور الربيع كما | * | تجلى العروس عليها الدر والذهب |
وكلما انسكبت في الكأس آونة | * | أقسمت أن شعاع الشمس ينسكب |
وجمال الصور البيانية كالتشبيه، والاستعارة، والمجاز المرسل، والكناية يتوقف على قدرة الخيال وبراعته، والنقاد يستحسنون الخيال القريب الذي يعتمد التصوير فيه على علاقات يمكن للقارئ أو السامع أن يتخيلها.
وأن يتجاوب معها، وأن يتصورها، وإذا كان الخيال غريبًا أو بعيدًا عن العلاقات التي يمكن تصورها؛ فإنه يخرج من الخيال إلى الوهم.
والأديب ينشط خياله ويوسع من هذا الخيال عن طريق تنشيط مخيلته، وتغذيتها بالصور الكثيرة والمشاهد المتنوعة، والتجول في الرياض المعشبة والحقول الناضرة، والتأمل في مشاهد الكون ومظاهر الحياة، ومن المعروف أن البيئة التي ينشأ فيها الأديب تؤثر في خياله، وكذلك رحلاته وقراءاته، فكل ذلك يؤثر في الخيال.
هذا، ويحتلُّ الخيال مكانه المهم بين عناصر الشكل في العمل الأدبي.