Top
Image Alt

من عناصر الشكل في العمل الأدبي: الموسيقى

  /  من عناصر الشكل في العمل الأدبي: الموسيقى

من عناصر الشكل في العمل الأدبي: الموسيقى

العنصر الثالث من عناصر الشكل في العمل الأدبي: الموسيقى.

وهذا العنصر موجود في الأدب في النثر وفي الشعر، ففي النثر نجده في: التوازن بين الجمل، والقدرة على اختيار الألفاظ المناسبة والجمل الرشيقة، وأحيانًا ما يلم به الأديب من ألوان الجناس والسجع والتكرار؛ فهذا كله يحدث موسيقى في المقال أو الخطبة أو الرسالة، لكن الشعر يُلتزم فيه بنظام خاص للموسيقى، بينما النثر لا يُلتزم فيه بنظام خاص لها.

وهذه الموسيقى في الشعر مبنية على الوزن والقافية اللذين هما عماد الموسيقى الشعرية، ثم تأتي بعد ذلك أنواع أخرى من الموسيقى كالمشار إليها في النثر مثل: حسن اختيار الألفاظ، وحلاوة جرسها، وتلاؤمها مع بعضها، ورشاقة الجمل، وعذوبة التعبير، وما يمكن أن يتخلل البيت نفسه من حسن التقسيم.

وقد أشار النقاد إلى أهمية هذا العنصر في العمل الأدبي، ومن قولهم في هذا: أن الكلام إذا جاء في صورة من الوزن المحدد، بنغمات وإيقاعات صوتية على نمط منسق؛ فإن ذلك يعين على حفظه، ويجعله أسرع في تعلق الذاكرة به؛ فالكلام المنغم يُنبه الأجهزة السمعية في الجسم، ويجعلها أقدر على التلقي.

وقد ذكر الجاحظ أن بعض الأدباء سُئل عن التزامه الوزن والقافية والسجع، فقال: “إن كلامي لو كنت لا آمل فيه إلا سماع الشاهد؛ لقلَّ خلافي عليك، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابر، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلت، وما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره”.

فهذا يدل على أن الأذن تحتفظ بالكلام المنغم أكثر من احتفاظها بالكلام غير المنغم؛ ولهذا حفظ الناس الشعر أكثر من حفظهم للنثر، بل إن النقاد والشعراء أيضًا اعتمدوا على الالتزام بالوزن والقافية، وفوق هذا فإن النقاد جعلوا من التناسب زيادة في إبراز الإيقاع دخول الترصيع في الكلام، وهو أن تصير مقاطع الأجزاء في البيت، أو الفصل من الكلام المنثور مسجوعة، وكأن ذلك شبه بترصيع الجوهر في الحلي، ومن أمثلته قول الخنساء:

حامي الحقيقة، محمود الخليقة، مهدي*الطريقة، نفاع وضرار

جواب قاضية، جزاز ناصية

*عقاد ألوية، للخيل جرار

ومن أمثلته أيضًا قول أبي صخر الهذلي:

عذب مقبِّلها، جَذْل مخلخلها
 
*كالدِّعْص أسفلها، مخصورة القدم

سود ذوائبها، بيض ترائبها

*محض ضرائبها، صيغت على الكرم

عَبْل مقيَّدها، حالٍ مقلدها

*بض مجردها، لَفّاء في عَمَم

سمح خلائقها، دُرْم مرافقها

*يَروَى معانقها، من بارد الشَّبم

فنلاحظ أن هنا موسيقى إضافية غير الوزن والقافية، جاءت من التناسب بين الجمل، ومن التصريع، ومن التوافق في نهايات الجمل في داخل البيت الواحد، والشعراء يتفاوتون في قدرتهم على الوقوع على الوزن المتخير والقافية المناسبة.

والنقاد يدعون الشاعر إلى أن يتخير الوزن المناسب للغرض الذي يقول فيه، وأن يحسن اختيار قوافيه؛ بحيث تكون سهلة وعذبة ومقبولة للأذن، ومن هنا أشادوا بالأعشى الشاعر الجاهلي، ولقبوه بأنه صَنَّاجة العرب؛ وذلك لحسن موسيقى شعره.

ومن الشعراء الذين عُرفوا بجودة الموسيقى الشعرية وجودة قوافيهم، ومناسبة الأوزان للمعاني كثيرون، منهم: عنترة بن شداد، وكذلك المتنبي في العصر العباسي، وحسان بن ثابت، ومنهم في العصر الحديث: أحمد شوقي، وإبراهيم ناجي، وأحمد رامي، وعلي محمود طه.

والشعراء الذين يتفوّقون في هذا الجانب يكثر الغناء من شعرهم؛ لأن الغناء يعتمد على الموسيقى، فإذا كان الشعر حسن الموسيقى، يتوافر فيه الوزن المناسب والقافية العذبة، فإنه يكون أصلح للغناء؛ لأنه يستولي على الأذن، ويكون في استطاعة اللسان أن يردِّده بسهولة.

وبسبب هذه العلاقة بين الغناء والموسيقى الشعرية، خاصة القافية في الشعر العربي؛ وجدنا العقاد يعلل ضرورة التزام القافية الموحدة في الشعر العربي، بأن هذا من لوازم الشعر القائم على الإنشاد، فالأمم التي ينفرد فيها الشاعر بالإنشاد تظهر القافية في شعرها؛ لأن السامعين يحتاجون إلى الشعور بمواضع الوقوف والترديد، ولكن الجماعة إذا اشتركت في الغناء لم تكن بها حاجة إلى هذا التنبيه؛ لأن المغنين جميعًا يحفظون الغناء بفواصله ولوازمه، فينساقون مع الإيقاع بغير حاجة إلى القوافي عند السطور، وإنما تنشأ الحاجة إلى قافية، أو وقفة تشبه القافية عند تفاوت السطور وانقسام القوم إلى منشدين ومستمعين.

ويرى على هذا أن انتظام القافية متعة موسيقية حين تأتي في مكانها المتوقع، أما إهمالها فإنه يصدم السمع بخلاف ما يُنتظر، حين يُفاجأ بالنغمة التي تشذّ عن النغمة السابقة. ووجود القافية الموحدة في أواخر الأبيات مما يوثِّق وحدة النغم، ويتيح الفرصة للوقوف عند أي بيت، وترديده على السامع، فالقافية يتكامل عندها الرنين، وعندها يمكن الوقوف مع كل جزء، أو كل وحدة وقوفًا تتلاقى عنده أزمنة النغم المتساوية في إيقاع منتظم، يتكرر في كل بيت.

وقد أكد النقاد على ضرورة مراعاة الحروف التي لا يثقل النظم فيها، أو التي لا تصدم السمع، فعلى الشاعر أن يختار القوافي السهلة، فهناك قوافٍ عُرفت بأنها ثقيلة، ينبغي على الشاعر المُجيد أن يتجنبها.

وفي النقد الحديث التفت النقاد إلى هذا الأمر، فطه حسين مثلًا له نقد لإيليا أبي ماضي في قصيدته الدالية، التي جاء فيها:

نسي الطين ساعة أنه طين
 
*حقير، فصال تيهًا وعربدْ

حيث قال طه حسين: “إن إيليا أبا ماضي اختار الدال الساكنة قافية لهذه القصيدة، وسكون الدال ثقيل ينقطع عنده النفس، فإذا طال وتكرر في قصيدة غير قصيرة ضاق به السامع ضيقًا شديدًا”.

وأخذ طه حسين يأتي بالبيت بعد البيت؛ لبيان ثِقَل القافية، فأورد قوله:

لك في عالم النهار أمانٍ

*ورؤًى، والظلام فوقك ممتد

فالشاعر أضاف إلى الثقل الطبيعي في الدال الساكنة أثقالًا أخرى، حيث أضاف سكونًا إلى سكون، وانقطاع نفس إلى انقطاع نفس، فهذه الدال المدغمة لا تطاق، فنحن إن قبلناها على إدغامها كلفنا نفسنا جهدًا ثقيلًا، وإن خففنا الإدغام أفسدنا اللغة إفسادًا بغيضًا.

وفي قوله:

أنت مثلي من الثرى وإليه

* فلماذا يا صاحبي التِّيه والصَّدّ؟

يقول: “فالصد هنا مثل ممتد، ولكن قصر الكلمة يزيدها ثقلًا إلى ثقلها”.

ويخلص طه حسين من هذا إلى أن الدال من الحروف التي تكسب القافية متانة ورصانة وجمالًا، إذا تحركت بإحدى الحركات الثلاث، فإذا سكنت منحت القافية ثقلًا ثقيلًا لا يقبله السمع، ولا يطمئن إليه الذوق، وجمال الدال المتحركة يحسه مثلًا في قصيدة الحطيئة التي مطلعها:

ألا طرقَتْنا بعدما هجعوا هندُ

*…. …. …. ….. ….

وفي مطولة طرفة:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

*…. …. …. ….. ….

وفي مرثية دريد بن الصمة:

أرث جديد الحبل من أم معبد

*…. …. …. ….. ….

وهكذا يختلف الحرف في الإحساس بثقله إذا كان ساكنًا، ويكون غير ثقيل إذا كان متحركًا كما ضربنا الأمثلة بالدال، وهناك حروف مثل الطاء والظاء تكون ثقيلة بطبعها في القافية، والشاعر المجيد هو الذي يحسن اختيار قافيته كما سبق الإشارة إلى ذلك.

هذه هي إذًا العناصر التي يتكون منها ما يُسمى الشكل، أو القيم التعبيرية، أو أدوات البيان، أو الألفاظ والجمل، والخيال، والتصوير، هذا هو الشكل الذي يحمل المضمون.

error: النص محمي !!