Top
Image Alt

من مؤرخي القرن الثالث الهجري: ابن الأثير، ابن الجوزي، ابن خلدون

  /  من مؤرخي القرن الثالث الهجري: ابن الأثير، ابن الجوزي، ابن خلدون

من مؤرخي القرن الثالث الهجري: ابن الأثير، ابن الجوزي، ابن خلدون

أولًا: ابن الأثير:

هو: عز الدين أبو الحسن علي بن محمد، ولد عام خمسة وخمسين بعد المائة الخامسة من الهجرة، وتوفي عام ثلاثين بعد المائة السادسة من الهجرة النبوية.

حياته ومعيشته:

أما بالنسبة لحياته ومعيشته فقد كان يعيش في الموصل، واستقرت أسرته هناك في هذه المدينة المعروفة بمدينة الموصل، وهو أوسط الأخوة الثلاثة الذين نبغوا في ميادين الدراسات العربية والإسلامية، وهذه نقطة مهمة، كانوا ثلاثة إخوة من بينهم ابن الأثير هذا، وكلهم عُرفوا في التاريخ بباع شاسع وبيد طولى في العلوم والمعارف العربية والإسلامية، وكان على رأسهم عالمنا هذا، وهو ابن الأثير. ونبغوا في جميع هذه الميادين.

ولكن يلاحظ أن ابن الأثير كان حافظًا بالتواريخ المتقدمة والمتأخرة كما كان خبيرًا بأنساب العرب وأيامهم ووقائعهم؛ ولذلك كان أكثر ما اشتهر به هو دراسة التاريخ؛ يعني: هو عرف في مجموعة من العلوم والمعارف، ولكن أكثر ما عرف عرف في دراسة التاريخ.

أهمية كتاب (الكامل) لابن الأثير:

هذا كتاب مهم ولا غنى للدارس والباحث في التاريخ عن هذا الكتاب، وهو (الكامل في التاريخ)، وأهم مؤلفات ابن الأثير قاطبةً كان هذا الكتاب (الكامل في التاريخ)، وهو يعد أيضًا من الكتب التي تدور حول فكرة التاريخ العالمي، منذ الحديث عن بداية الخلق والنشأة والتطور، وتاريخ الأنبياء والرسل حتى نصل إلى مرحلة العرب قبل الإسلام، ثم فترة النبوة والرسالة حتى وفاة الرسول صلى الله عليه  وسلم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى تاريخ الإسلام منذ عصر الخلفاء الراشدين، ومرورًا بالدولة الأموية والدولة العباسية وهكذا، حتى تاريخ وفاة ابن الأثير، فهو كتاب يدور في أطر كتب التاريخ العالمي محاولة كتابة تاريخ عالمي من وجهة النظر الإسلامية -كما ذكرنا- ابتدأ فيه بتاريخ الخليقة، وانتهى عنده في آخر سنة ثمانية وعشرين بعد المائة السادسة من الهجرة النبوية.

منهج ابن الأثير في كتابه (الكامل):

التزم ابن الأثير في منهجه عدة أمور:

الأمر الأول: التزم منهج التوازن بين أقاليم العالم الإسلامي؛أي: إنهنهأ لم يخص منطقة معينة بحديث أكثر من غيرها، ولكنه حاول قدر الإمكان أن يتوازن في عرض مادته التاريخية بالنسبة لجميع بلدان العالم الإسلامي هذا أمر.

الأمر الثاني: مقارنة ما يقع من الأحداث في كلٍّ من هذه الأقاليم عامًا بعد عام.

الأمر الثالث: أنه اعتمد على المتخصصين في تأريخ كل إقليم؛ يعني: عندما يكتب عن مصر -مثلًا- يحاول أن يأخذ عن رواة مصر ومؤرخي مصر، مثل ابن عبد الحكم وغيرهم، وهذه ميزة مهمة؛ لأنه كما يقال: “أهل مكة أدرى بشعابها”، فهو يعتمد على المتخصصين في كل إقليم.

وفي طريقة عرضه للحقائق: حذف المعلومات والتفاصيل التي لا لزوم لها، والتي لا تؤثر في بناء الحدث التاريخي، واكتفى بأصل المعلومة أو بأصل المادة العلمية التي لا بد من ذكرها، وركَّب من كل هذا مادة علمية متصلة ومتكاملة، فأعطى قصة تاريخية واقعية مقنعة، ومتصلة ومتسلسلة.

وبهذه الصورة الحقيقة يعتبر ابن الأثير كتب كتابة قيمة لا غنى للدارسين والباحثين عنها.

الأمر الرابع: أنه أمعن في فحص المصادر؛ يعني: لم يأخذ مادة من أي كتاب أو ما يتوفر له، ولكنه أمعن في فحص مصادره والتعرف عليها ونقدها، كذلك اختار من النصوص ما يتناسب مع الحقائق؛ يعني: حاول أن يترك ما يدخل في إطار الخرافات والأساطير وخلافه، وفي نهاية الأمر استطاع أن يؤلف من جملة ومن مجموع هذه الأفكار خلاصةً لكل ما وقع من الأحداث سنةً بعد سنةٍ، وكتب تاريخًا متسلسلًا وهو متصل، ولكنه أيضًا فيه شكل، وفيه معنى الكتابة على السنين أو الحوليات.

أهمية الكتاب:

هناك أهمية لهذا الكتاب عامة، ولكن هناك أهمية خاصة بداية من الجزء العاشر في هذا الكتاب؛ لأنَّ ابن الأثير يؤرخ لأحداث قريبة العهد من زمنه، وعندما تكون الأحداث قريبة العهد من زمن المؤرخ بهذه الصورة، فسوف يأخذ معلومات أوفى وأوسع وأشمل، وأقرب ما تكون إلى الحقائق، فهو تقريبًا معاصر لها وقريب منها، فهذه الأحداث على الأقل قد سمِعَ بها، إن لم يكن قد شارك فيها.

فهذه نقاط حقيقة لها قيمتها في الكتابة التاريخية.

كذلك أهمية المادة العلمية بداية من الجزء العاشر، ونقول: إنَّ بداية من عام خمسين بعد المائة الرابعة من الهجرة، وقع هذا الصدام الرهيب الذي اصطدم فيه الشرق الإسلامي بالغرب المسيحي الصليبي بالأخص، وهذا ما عرف في التاريخ باسم الحركة الصليبية أو الحروب الصليبية، والواقع أنها “حروب الصليبية” وليست حركة الصليبية، وهذه الفترة عاشها ابن الأثير وكتب عنها كتابات قيمة، ومن ثم نستطيع أن نعتمد على ابن الأثير في الكتابة عن الحروب الصليبية.

ميول ابن الأثير:

كذلك يلفت النظر حقيقة في شخصية ابن الأثير، ما كان من اهتمامه البالغ بأخبار الدولة “الأتابكية” بالموصل؛ لأنَّ ابن الأثير يعتبر تابعًا لهم ويميل إليهم، وتأثر في كتاباته بهم؛ ولذلك موضوع الميول عند ابن الأثير سوف نجده واضحًا في هذه النقطة وهو عطفه على الدولة الأتابكية وتأثره بالدولة الأتابكية، حتى إنَّ هذا الأمر دعاه لِأَن يأخذ موقفًا من المقاتل العظيم والمجاهد الكبير صلاح الدين الأيوبي، فعندما يعرض ابن الأثير لصلاح الدين نجد أنَّ كتابات ابن الأثير تنطوي على بعض الكراهية له، مع أنَّه أشاد ببطولته ودوره في الحروب الصليبية، ولم ينكر هذا، ولكنه إلى حد ما جَارَ عليه بعض الشيء عندما تعرض له؛ لأنَّه اعتبره خدم أسرته وأهله، ووفى لهم بعض المطامع.

فموضوع الميول والأهواء عند ابن الأثير، سوف نجدها واضحةً عنده في تأثره بالدولة الأتابكية.

وأخيرًا نقول:

تعرض ابن الأثير في كتابه للأمور التي حدثت بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي، وكيف كانت، حيث تفكك العالم الإسلامي وعاد مرة أخرى دويلاتٍ متناحرة ومتقاتلة، وما ترتب على ذلك من تعرض المسلمين لأخطار الصليبيين والتتار، وبهذه الصورة نقول: إنَّ الكتاب وفَّى حقه وأعطى صورة متكاملة لهذا الموضوع، ولا غِنًى لِمَن يدرس تلك المرحلة في التاريخ -مرحلة الحروب الصليبية- عن كتاب (الكامل)؛ خاصةً وأنَّه يعرض وجهة نظر إسلامية في مقابلة الكتب التي بدأت تظهر والتي ترجمت وتحدثت عن الغرب الأوربي، وتحدث أيضًا عن الحروب الصليبية.

ثانيًا: ابن الجوزي:

هو: عبد الرحمن بن علي بن محمد، ولد عام عشرة بعد المائة الخامسة من الهجرة، وتُوفي عام سبعة وتسعين بعد المائة الخامسة من الهجرة النبوية.

وهذا الرجل عرف في مجموعة علوم ومعارف اشتهر بها وتخصص فيها، مثل: علوم الفقه والحديث والتاريخ.

رحلته في طلب العلم:

ولد في بغداد واستقر في بغداد بعد أن طاف ببلاد عديدة، وهذا يدل على أن الرحلة في طلب العلم كان لها أثرها في شخصية ابن الجوزي، ولكن يلاحظ أن ابن الجوزي كان حنبلي المذهب، وأن هذه النقطة أثرت على شخصيته وعلى علاقاته؛ مما أدى إلى حدوث كثير من الجدل والمناظرات والتي قامت بينه وبين أصحاب مذهب الأحناف؛ وهذا الأمر من الأمور التي عرفت عنه والتي ذكرها في التاريخ.

ولابن الجوزي مجموعة من المؤلفات والتصانيف المختلفة، وله كتب ورسائل عديدة، ودارت حولها حول مجموعة من العلوم والفنون والمعارف، فله كتب في الفقه، وكتب في الحديث، وكتب في التاريخ … إلى آخر كل ذلك، إلا أنَّ أشهر كتبه في التاريخ (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)، واتخذ فيه نهج الطبري أكثر من غيره في الكتابة؛ وكان له منهج معين في هذا الكتاب تمثلت في تسجيل ما جرى من الأحداث في كل سنة، وكذلك عرض فيه لِمَا حدث من وفيات لأكابر الدولة وأعيانها.

وقد أسهم ابن الجوزي في هذه التراجم لكبار الفقهاء والمحدَّثين وأهل العلم الذين كانوا معروفين في عصره.

ثالثًا: ابن خلدون:

هو: عبد الرحمن أبو زيد ولي الدين المعروف بابن خلدون، أو ابن خلدون المغربي، وكتابه هو كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر).

وُلِدَ عام اثنتين وثلاثين بعد المائة السابعة من الهجرة، وتوفي عام ثمانية بعد المائة الثامنة من الهجرة النبوية.

معيشته وحياته:

ينتمي ابن خلدون إلى أسرة استقرت بإشبيلية، هاجر جده من اليمن إلى الأندلس، ثم انتقلت الأسرة بعد ذلك إلى تونس واستقرت بهذه المدينة، وتلقى العلم على طائفة من علماء تونس والمغرب، وتقلد عدة وظائف في بلاط ملك تونس، ولم يلبس أن ارتحل إلى مناطق أخرى بعد نشوب الاضطرابات في تونس، وتنقل في مجموعة من الوظائف المهمة عند السلاطين في عدة مدن شهيرة، مثل: فارس، وغرناطة، وتلمسان… وغير ذلك.

ولكن يلاحظ في ابن خلدون أنه كانت له بعض الأيادي الخفية في بعض المؤامرات والدسائس التي كانت تحدث، وهذه الأمور أدت في نهاية الأمر إلى نفيه، ولكنه ما لبث أن ظهر مرة أخرى، إذ استطاع أن يرتحل ويأتي إلى القاهرة، ويستقر فيها، وكان سبب الرحلة في هذه المرحلة هي الذهاب إلى الحج، ولكنه عندما وصل إلى القاهرة توقف في مصر، وتولى التدريس بالجامع الأزهر في تلك المدرسة، ولكن حدث تطور آخر وهو أنه تعرف على السلطان برقوق في مصر، والسلطان برقوق عيَّنَه قاضي قضاة المالكية في تلك المرحلة، ولكن معروف عنه أنه لم يغادر مصر إلا للحج؛ يعني: استقر في مصر، ولكن حدث أن السلطان برقوق أخذه معه إلى دمشق، حيث التقى هناك بتيمور لانك وعاد مرة أخرى إلى القاهرة. وتوفي بها -كما ذكرنا- عام ثمانية بعد المائة الثامنة من الهجرة النبوية. هذه فكرة عامة عن ابن خلدون المغربي.

منهج ابن خلدون في عرض هذا الكتاب:

يقع كتاب ابن خلدون في سبعة مجلدات، المجلد الأول من المجلدات يدور حول المقدمة التي تدرس ظواهر الاجتماع، والدراسات التاريخية فيه شملت ستة مجلدات أخرى، على أن ابن خلدون جعل التقسيم قائمًا على المقدمة، وثلاثة كتب، والمقدمة تناولت فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإشارة إلى مغالطات المؤخرين، وجعل الكتاب الأول من هذا المؤلف في العمران والملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم، ويلاحظ أن المقدمة جمعت مع الكتاب الأول والخطبة في مجلد واحد، وهو ما نسميه الآن أو المعروف الآن بـ(مقدمة ابن خلدون)، وهو كتاب العبر، والمعروف بهذا الاسم بكتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر) وهذا هو الجزء الأول.

أما المادة التاريخية فهي تشمل الستة أجزاء الأخرى من الكتاب، هذه المادة تاريخية صرفة.

والكتاب انقسم حاليًا بقسمين؛ المقدمة والتاريخ، المقدمة شملت فعلًا مقدمة الكتاب والكتاب الأول والخطبة، كل هذا عرف حاليًا باسم (مقدمة ابن خلدون)، أما الستة أجزاء الأخرى فهي التي تتعرض للمادة العلمية التاريخية الصرفة.

قيمة كتاب ابن خلدون:

إن قيمة الكتاب أو دراسات الكتاب عن المشرق كانت ضعيفة؛ لأنه لم تكن له صلة حقيقة، وأخباره عن المشرق كانت تتسم بالضعف كأنه لم يكن له دراية تامة بها ولم ينزل بها إلا على فترات متقطعة، ويعتبر غريبًا عنها، إنما كتاباته عن شمال أفريقية والمغرب والأندلس بالغة القيمة والأهمية، وهذه نقطة خطيرة ومهمة، لماذا؟

لأن بحوثه عن هذه المناطق استمدها من مشاهداته وتجاربه وقراءاته الخاصة، التي لم يطلع عليها أحد من المؤرخين العرب قبله، وهو يعيش في هذه المناطق، واستطاع أن يطلع على المؤلفات الشهيرة في هذه المناطق والكتابات المعروفة في هذه المناطق.

ومن ثم فإن بعض المصادر التي كانت معروفة في هذه المناطق توفرت له ولم تتوفر لباقي العرب والمسلمين في بعض البقاع، وخاصة في المشرق، يتجلى هذا أيضًا فيما كتبه عن صقلية، وعن تاريخ الطوائف، والممالك النصرانية في إسبانيا، وتاريخ دولة بني الأحمر.

ولقد نوَّه بكتابات ابن خلدون كثيرٌ من العلماء؛ منهم علماء الغرب، وأشاروا إلى هذه الكتابات، وخاصة ما كتبه ابن خلدون عن المسيحيين في إسبانيا.

وهذه المعلومات كانت غير متوفرة وغير دقيقة، فقد كتب الكتابات قوية عن المسيحيين في إسبانيا، وكانت كتابات منقطعة النظير ولا يضارعه فيها ما كتبه أحد من علماء الغرب المسيحي في العصور الوسطى؛ فهي كتابات متخصصة وقوية تفيد الباحثين في هذا الإطار.

كذلك يعد ما كتبه ابن خلدون عن البربر قمة في الكتابة والعرض ولا غِنًى للباحثين عنه، أما القسم الخاص بتاريخ البربر أكثر فهو الأقسام أصالةً، هكذا يقول عنه عمر فاروق.

والمادة العلمية الموجودة بين أيدينا الآن هي من وحي كتابات العالم الكبير الدكتور عمر فاروق في كتابه (تاريخ العلوم عند العرب).

وكما ذكرنا أنَّ المادة المعروضة المتعلقة بتاريخ البربر كانت مادة قوية، وأكثر الأقسام أصالةً؛ لأنه كانوا على صلة قوية بهؤلاء الناس، فاستطاع أن يكتب عنهم.

وقد كان نهج ابن خلدون نهجًا جديدًا ويختلف عن السابقين؛ لأنه قسم هذا المؤلف إلى كتب وفصول متصلة، وتتبع تاريخ كل دولة على حدة من البداية إلى النهاية، وامتاز بالوضوح والدقة في تدوين الموضوعات والفهارس، كما إنه التزم الإيجاز في التواريخ القديمة.

وأخيرًا، يعتبر ابن خلدون رائد علم الاجتماع عالميًّا، لا ينازعه في ذلك أحد مهما حاول الغربُ أن ينزع عنه هذه الصفة، لكن الواقع أن ما كتبه في المقدمة يؤكد على أن ابن خلدون هو مؤسس ورائد علم الاجتماع الأول.

وأن هذه الكتابات هي التي مهدت بعد ذلك لِأَن يكتب علماء الغرب الأوربي ما كتبوه عن علم الاجتماع.

error: النص محمي !!