من مؤرخي القرن الثاني الهجري: أبو مخنف، وعوانة بن الحكم
أولًا: أبو مخنف:
هو لوط بن يحيى الأزدي الكوفي، وتوفي عام سبعة وخمسين بعد المائة الأولى من الهجرة النبوية.
كان إخباريًّا، ولا يعد من النسابة أو من غيرهم، وينسب إلى مدينة الكوفة، ومن ثم فهو إخباري كوفي.
ولكن نلاحظ: أنه بالرغم من اهتمامه في الخبر وهو مؤرخ، فهو له اهتمام بالأنساب، وهذه سمة مهمة في كتابات أمثال هؤلاء؛ لأنه يجمع بين الحديث عن الخبر التاريخي والحديث عن الأنساب.
نتاج أبي مخنف:
كتَبَ أبو مخنف عن الردة، كذلك كتب عن فتوح الشام والعراق، كذلك كتب عن الشورى، وكتب عن صفين، وكتب عن الحوادث التالية في العراق حتى نهاية العصر الأموي، ونجده تحدث عن الثورات والمعارك التي دارت في تلك الحقب والأزمان، كذلك تحدث عن الخوارج، وهي كتابات شاملة حقيقة وكتابات مهمة لا غنى للمؤرخين عنها.
ترك أبو مخنف مجموعة من الكتب تجاوزت الثلاثين كتابًا، ومن ثمَّ يعتبر أبو مخنف من أميز الإخباريين في العراق، وهذه نقطة مهمة؛ لأن معنى ذلك: أن أبا مخنف يمثل مدرسة العراق، وروايات مدرسة العراق في مواجهة وفي مجابهة مدرسة المدينة.
ماذا كان موقف أبي مخنف من الإسناد؟
هل استعمل الإسناد، هل أهمله؟ هل كان متساهلًا متسامحًا في قضية الإسناد؟ هذه هي النقاط التي نريد أن نبينها.
إن أبا مخنف استخدم الإسناد واستعمله أيضًا، ولكن بشيء من التسامح، كان متساهلًا في موضوع الإسناد، ونراه أيضًا استعمل الروايات العائلية خاصةً عن صفين، وكنا قد بينا أنه أزدي -من قبيلة الأزد؛ ولذلك اعتمد على كثير من روايات قبيلته، ولكن هذا لم يمنعه من الأخذ من روايات مدن أخرى، ورواة آخرين مثل رواياته عن الكوفة ورواة الكوفة، وبذلك نوع رواته ومَن أخذ عنهم، ونجده أخذ عن تميم وعن همدان وعن طيئ، وعن كِندة… إلى آخر تلك القبائل التي كان لها رواتها، وأخذ منهم أبو مخنف بعض هذه الروايات.
هل اهتم بروايات المدينة؟
نعم، هذه الروايات كان يتمها في نهاية الأمر بذكر رواة المدينة وروايات المدينة، وهذا أمر جيد، أن يعرض لك روايات متنوعة من مدرسة العراق وإخباري العراق، من الكوفة من الكندة، من طيئ، من همدان، إلى آخر هذه الأشياء.
ثم يذكر لك بعض روايات من مدرسة المدينة، بل ويتمم رواياته بذكر رواة مدرسة المدينة وروايات مدرسة المدينة، فهذا أمر يحسب له، ويجعلنا على صلة بكتاباته، وبذا يكون هناك شيء من الثقة في هذه الكتابات.
ولكن يلاحظ في موضوع الإسناد أيضًا: أن سلاسل رواياته كثيرة فلم يعتمد على راوٍ واحد أو سلسلة واحدة من السلاسل في ذكر الروايات التاريخية، وكانت تتبدل هذه السلاسل بتبدل الحوادث التاريخية، وطبعًا هذا أمر يحسب له في كتاباته التاريخية.
ميول أبي مخنف:
هل كان لأبي مخنف ميول؟ وما هي ؟ يعني: هل نستطيع أن نقيمه في اتجاه مدرسة معينة، ويعبر عنها إن صح التعبير؟
إن أبا مخنف يورد عادةً الصورة العراقية، فهو يمثل مدرسة العراق، وهذه نقطة لا نستطيع أن ننكرها، وخاصة الكوفة باعتبار أنه إخباري كوفي له اهتمام بالأنساب؛ ولذلك عند تقييمنا له نضعه في خانة ممثل مدرسة العراق، ولا أريد أن أترك هذه النقطة دون أن أبين أن الشام أيضًا حمل بعض الرواة وبعض المؤرخين.
وهذا معناه: أن الشام أيضًا كانت لها -لا أقول: مدرستها وإن كنا نستطيع أن نقول ذلك- لكن لها توجهها، ولها رواتها، ولها الإخباريون الذين يهتمون بها، ولها ميول نحو بني أمية، وخلفاء بني أمية، ورواة بني أمية، هذه نقطة مهمة يجب ألا تغيب عنا.
فأبو مخنف بهذه الصورة يمثل مدرسة العراق في مقابلة الشام وأهل الشام واتجاه الشام، وهذه النقطة ظهرت أو نتجت من نتيجة اعتزاز القبائل بمصرها، كذلك نستطيع في تقييمنا لميول أبي مخنف أن نقول: إنه أميل للحزب العلوي، وكلنا يعرف أنه كان هناك صراع بين العلويين والأمويين إبَّان الدولة الأموية، وفي رواياته ينتصر للعلويين، ويميل لهم في مقابل الأمويين.
كذلك نستطيع أن نجد أثر اعتزاز القبائل بمآثرها، وهذا ينعكس في كتاباته، ويبدو في بعض الروايات.
وإذا أردنا أن نستخرج قاعدة عامة على أخبار أبي مخنف، نستطيع أن نقول: إن أخباره على العموم ليست متحزبة، لكن قد نجد بعض الآراء، والمواقف، والروايات، تميل في هذه الناحية أو في هذه الناحية، ولكن على الإجمال نجد أن أخباره ليست متحزبة، وهذا أمر مهم يجب ألا يغيب عن أذهاننا ونحن نتحدث عن أبي مخنف.
أسلوب أبي مخنف:
هل تأثر أبو مخنف بمدرسة المدينة؟، دعاه لأن يقف موقفًا معينًا تجاه الأنساب والشعر والقصص -وهو من مقومات مدرسة العراق- أم لا؟
نقول: نرى في كتابة أبي مخنف تسلسلًا متصلًا، ولكن التماسك ضعيف في بعض الأحيان، كذلك رواية أبي مخنف تقدم صورة أخاذة للحوادث، ونجد فيها الكثير من الخطب والمحاورات.
بدأت الآن تظهر ملامح لمدرسة العراق، وهي موضوع الخطب والمحاضرات. كذلك نجد الشعر، يستعمل الشعر في بعض المناسبات، وهذه من سمات مدرسة العراق، وكذلك نجده يعكس أثر مجالس السمر، وشيئًا من قصص الأيام نجده أيضًا موجودًا في أسلوبه، وكل هذه السمات تعد وتقيم في اتجاه مدرسة العراق التي تقابل مدرسة المدينة.
ثانيًا: عوانة بن الحكم:
هو عوانة بن الحكم بن عياض بن عبد الحارث الكلبي.
توفي عام سبعة وأربعين بعد المائة الأولى من الهجرة النبوية.
وهو إخباري، كوفي، ومعنى ذلك: أنَّه إلى حد ما سوف يمثل مدرسة العراق، وهذا يتضح أكثر عندما نعرف أنه كان متضلعًا في الشعر والأنساب، وبهذه الصورة هو يميل لمدرسة العراق أكثر من غيره.
نتاجه التاريخي:
كتب سيرة معاوية -الخليفة الأول من خلفاء بني أمية- كذلك كتب عن بني أمية عامةً، ونستطيع أن نرجح أنه كتب تاريخًا للأمويين يتناول الخلفاء الأمويين على التوالي، يعني: الواحد تلو الآخر.
وله مؤلف آخر، وهو كتاب (التاريخ).
ماذا تناول في هذا المؤلف (التاريخ)؟
الواقع أنه تناول التاريخ الإسلامي في القرن الأول الهجري، كذلك تدلنا المقتبسات المأخوذة عنه أنه كتب عن الخلفاء الراشدين، وكتب عن الردة، وكتب عن الفتوحات الإسلامية التي تمت في عصر الخلفاء الراشدين، والنقطة المهمة: أنه كان ثقة في هذه الأشياء،.
وخاصة في حديثه عن الصراع بين الإمام علي وخصومه، يعني: معلوماته مهمة في هذا الإطار، وهو ثقة فيها، كذلك كتب معلومات مهمة في قضية تنازل الحسن عن الخلافة، وكتب عن شئون العراق والشام حتى نهاية فترة عبد الملك بن مروان.
الآن نود أن نتحدث عن تحليل صحة هذه الروايات، هل نستطيع أن نستشف منها شيئًا؟ الواقع أن تحليل الروايات تدلنا على أنه كان على معرفة داخلية بشئون الأمويين.
وكان على صلة بهم وعلى معرفة بأحوالهم، وتطور هذه الأحوال، ونستطيع أن نقول: لعله أخذ هذه المعلومات من خلال قبيلته -قبيلة كلب- وهذه القبيلة كانت موالية لبني أمية، وخاصة أنه يفخر بهذه القبيلة وبعلومها.
ميول عوانة بن الحكم:
يظهر هذا في تفضيله وذكره للرواية الأموية، وتفضيلها على غيرها من الروايات العراقية، أو في مقابلة الروايات العراقية، فهو يمثل مدرسة الشام -إن صح التعبير بهذه الصورة- والتأكيد على فكرة الجبر في تفسير الحوادث، وهذا الأمر ينعكس في رواياته بصورة عامة، بالرغم من هذه الميول إلا أنه ذكر الرواية العراقية، وذكر الرواية المدنية، وعرَضَ لكل هؤلاء، ولذلك نستطيع أن نحكم عليه بأنه لم يكن متحيزًا لجهة خاصة.
الرواة عن عوانة:
نقول: إنه وصلتنا رواياته عن طريق ابن الكلبي، والمدائني، والهيثم بن عدي، وهؤلاء جميعًا أخذوها عنه مباشرةً، أو من خلال كتبه. يعني: إما بالمشافهة والسماع، أو من الكتاب.
خطته في الكتابة:
– اعتمد على أساس التسلسل التاريخي، أو على سير الخلفاء، يعني: إما أن يكتب القصص بتسلسلها التاريخي كما وردت وكما حدثت، وإما يعتمد على ذكر الخليفة.
ثم يذكر كل الأحداث المتعلقة بهذا الخليفة، وما تم في عصره، وهذا الأمر يمثل خطوة لها دَلالاتها في تطور الكتابة التاريخية، وهذه النقطة مهمة.
– أيضًا: استعمل عوانة الإسناد، ولكن بصورة مفككة، أي: لم تكن صورة قوية نستطيع أن نطمئن لها.
– وبالنسبة للشعر: فطريقة إيراده له في أخباره تعكس أثر أسلوب القصص، وقصص الأيام.
وهذه سمات مدرسة العراق. ولكنا وضحنا أنه كان إلى حد ما في رواياته يميل للشام، ولروايات أهل الشام، ويعكس فكرَهم، وإن كان في تقييمه العام لم يكن متحيزًا لجهة ما، أو يقف ضد جهة أخرى على حساب غيرها.
فهذا أمر مهم في كتابات عوانة بن الحكم، يدعونا للأخذ منه دون أن نتخوف؛ نظرًا لأن أسلوبه لم يكن متحيزًا.