من مؤرِّخي القرن الثالث الهجري: الطبري، الدينوري
أولًا: الطبري:
هو: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. توفي في العام العاشر بعد المائة الثالثة من الهجرة النبوية.
مكانة الطبري:
بالنسبة لمكانة الطبري، فنحن حقيقةً نعجز عن تبيين وتوضيح مكانة الطبري في الدارسات التاريخية، أو في موضوع التدوين عند العرب والمسلمين؛ لأنه حقيقة قيمة عالية، تعجز الكتب والمؤلفات أن توضحها مهما حاولت أن تصل إلى ذلك، ونذكر في هذا المقام كلمة لأستاذ لنا وشيخ جليل قال فيها: لولا الطبري لجهلنا أحداث التاريخ الإسلامي؛ لأنَّ المرحلة التي كتبها الطبري وفَّاها حقها بالصورة التي وضعنا أيدينا فيها على مختلف تطورات وأفكار هذه المرحلة تمامًا، فلولا الطبري لكنا قد فقدنا- يعني: ما وجدنا التاريخ الإسلامي بهذا الزخم، وبهذا العطاء، وبهذه الكيفية الواسعة عن مختلف الكتابات، وعن مختلف المؤرخين الذين كتبوا فيها- كمًّا كبيرًا من تاريخنا الإسلامي، فيعود له الفضل في ذلك، فلله الحمد والمنة أولًا وأخيرًا قبل كل شيء وبعد كل شيء.
لا نستطيع أن ننكر أن الطبري وكتاباته وصلت قمة كتابة التاريخ عند العرب -في فترة التكوين- قمة ما وصلت إليه كتابة التاريخ، وبلغ علمه بالروايات التاريخية والروايات الفقهية منزلة لا تبارى، ووصلت قمة في الروايات التاريخية، والروايات الفقهية. بالرغم من أن الطبري لم يكن متخصصًا في التاريخ فقط، ولكن الطبري موسوعة علمية ضخمة تحوي جملة من العلوم والمعارف والفنون والأفكار، فهو فذ في علوم التفسير، فذ في الفقه، فذ في كتابة التاريخ … إلى آخر ذلك، فهناك الكثير من العلوم التي حواها الطبري، واستطاع أن يوظف هذه العلوم في كتابته للتاريخ؛ ولذلك كانت كتابته التاريخية قوية ومشبعة، وسدت فراغًا ضخمًا في كتباتنا ومكتباتنا التاريخية، خاصة وأنه كان على علاقة بالإسناد وبطرق الإسناد، وعلى علاقة بعلوم الفقه والحديث التفسير، واستطاع أن يستخدم هذه الروايات التاريخية بصورة لها وجه شبه من استخدامها عند كتاب الحديث.
ولذلك نقول: إنَّ نظرة الطبري للتاريخ وأسلوبه في كتابته كانت متأثرة بكتابته وثقافته، فهو محدث وفقيه، وكتب التاريخ، وفي كتابته للتاريخ تأثر بهذه الوجهات، فتأثر بكونه محدثًا وفقيهًا؛ ولذا فإن طريقته في نقد الروايات تتجه إلى الإسناد، والمعروف أن الإسناد مكون رئيس من مكونات علم الحديث، وهو مصطلح الحديث، فقد حاول أن يستعمل هذا الأسلوب -الإسناد- في حين أن مصادره هم مؤرخون عظام لهم قدرهم، ولهم مكانتهم ولهم منزلة موثوقة في حقولهم.
هدف الطبري:
إن هدف الطبري من ذلك فكرتان أساسيتان في التاريخ:
إحداهما: وحدة الرسالات كل الرسالات، والرسل جاءوا بالتوحيد.
الثانية: أهمية خبرات الأمة واتصالها على مر الزمان التاريخ نهرٌ جارٍ، فلا يمكن أن تأتي في نقطة من نقاط التاريخ وتضع خطًّا وتقول: إن التاريخ توقف هنا وسيبدأ هناك، التاريخ خط جار متصل، وهو تاريخ لكل الرسل والأنبياء والرسالات وموقف البشر من دعوة الله سبحانه وتعالى ومن دين الله سبحانه وتعالى. فوحدة الرسالات أمر يظهر جدًّا في كتابات الطبري، واتصال وحدة الأمة في الزمن من جهة أخرى من النقاط التي شغلت فكرة الطبري.
كذلك الخبرات العظيمة في تاريخ الأمة وفي سلوك الأمة، سواء في حالات الوحدة أو في حالات الاختلاف، فهو يبين من خلال تاريخه وضع الأمة وتأثر الأمة بهذه الظروف، وحالات الوحدة وحالات الاختلاف، كيف تتأثر الأمة بهذه الظروف؟
موقف الطبري من الإسناد:
الطبري في وجهة نظره للرواية تعتمد على قوة أسانيدها.
وكلما كان بدء السند أقرب إلى الحادثة كان أفضل، وهذا وضع طبيعي أيضًا، يعني: هو يريد أن يستفيد برواية معلومة السند الذي يروي الرواية، فبداية السند هو أقرب للحدث التاريخي؛ رآه شاهده سمعه، أو كان على صلة بمَن رآه؛ فهذا يعطينا شيئًا من الثقة في الروايات التاريخية. ووجدنا الطبري قد حاول جاهدًا أن يعتمد على أمثال هؤلاء الرواة ممن شاهدوا بأنفسهم، أو سمعوا بأنفسهم، أو كانوا أقربَ بما يكون لمن شاهد أو بمن سمع، فهدا أمر مهم فيمن يعتمد عليهم الطبري في رواته. وبهذه الصورة وصلتنا عن طريق الطبري كتابات تاريخية موثقة لم تحفظ ولم توجد إلا في تاريخه هو فقط.
أيضًا نجد الرواية عند الطبري قد تتأثر بعوامل مختلفة، مثل: الذاكرة، أو الميول، أو الرغبات، وبذلك لن نستطيع أن نجزم بدقة وضوح هذه الرواية، وسلامة هذه الرواية حتى بعد نقدها وتمحيصها، وهذا ما يجعل الرأي أو الحكم الفردي غير مأمون على أحداث التاريخ، فلا نستطيع أن نعتمد على حكم فردي في أحداث التاريخ بهذه الصورة، بل إن هذا الأمر قد يكون مربكًا؛ ولذلك نجد الطبري ينقل الروايات ممن يوثق بهم أو ممن نستطيع أن نثق بهم أو برواياتهم، ويجعل العهدة عليهم في صحة هذه المرويات.
ميول الطبري:
تظهر شخصية الطبري في تمحيصه للروايات والأخبار وأخذ البعض منها دون الآخر، في الوقت الذي يتجنب فيه إعطاء حكم من عنده، أو حكم نهائي على أي موضوع من الموضوعات، فهو يورد ما وصل إليه من معلومات ومن بيانات وخلافه، ومن أفكار، ويندر أن يفضل رواية على أخرى بهذه الصورة. ويعتمد على ذكاء القارئ، وعلى حِس القارئ، وعلى معلومات القارئ التاريخية، وعلى دور القارئ في التحليل والاستقراء، في الرفض والأخذ … إلى آخر كل ذلك، وعلى العموم هو يبدي حِيادًا واضحًا فيما يورد من روايات، هذا هو الحكم النهائي.
أسلوب الطبري في الكتابة:
تأثر الطبري في أسلوب كتابته بنظرته إلى الروايات، فهو في حرصه على إعطاء الروايات المختلفة حول حادث أو موضوع، لا يستطيع تقديم تاريخ متصل للحادث، ومن المعروف أن كتابة الطبري كانت تقوم على أسلوب الكتابة في السنين والحوليات، فهو يضطر إلى قطع الحدث بانتهاء السنة، ثم يعاود الكتابة عنه في السنة التالية؛ ولذلك الرواية التاريخية والقصة التاريخية لا تجدها متصلة ومتسلسلة عند الطبري؛ لاهتمامه بالكتابة على أساس التاريخ والسنين.
ويبدو أن الطبري أراد أن يصنف كافة الروايات التاريخية العربية في عصره بصورة تسير في منحنى يشبه أهل الحديث في كتاباتهم، بهذا نستطيع أن نفسر العدد الضخم لمصادره، ونقول: إن الطبري بأسلوبه هذا وبتصرفه هذا قدَّم خدمة كبرى للدراسات التاريخية، وهذه نقطة مهمة لا نستطيع أن ننكرها، وهو بذلك ينهي العصر الأول في تطور الكتابة التاريخية بأننا لا نرى أحدًا بعده حاول إعادة فحص المصادر التاريخية للفترات التي كتب عنها الطبري، وكأن الطبري قد أشبع هذه المرحلة دراسة وفحصًا وتحليلًا ونقدًا.
فَلِمَ إضاعة الوقت بعد ذلك في دراسة تلك المرحلة، بعد أن أشبعها الطبري من حيث الدراسة والعرض؟!
الموضوعات التي حاول الطبري أن يعرضها من خلال تاريخه:
كتاب الطبري -حقيقة- كتاب ضخم ومهم لا غنى للباحثين عنه.
وبالنسبة لموضوعات الكتاب الطبري؛ يبدأ بتاريخ الخليقة ويتناول الرسل والملوك في العصور القديمة، ثم بعد ذلك ينتقل إلى تاريخ الساسانيين والعرب، ثم يتناول التاريخ الإسلامي حتى عصره هو، فقد كتب التاريخ حتى عام اثنتين بعد المائة الثانية من الهجرة، وإن كان توفي في العام العاشر بعد المائة الثالثة من الهجرة، لكنه توقف في الكتابة عند هذا الحد كما ذكرنا.
ولعل نظرة الطبري للتاريخ فيها شيء من التعبير عن المشيئة الإلهية، وكذلك ينظر للتاريخ على أنه مستودع للخبرات، ونستطيع أن نفسر من خلال هذه النظرة للطبري أن الجزء الأخير من كتاباته كان فيها شيء من عدم الدقة -إن صح التعبير- فيها شيء من السرعة في التناول، فالكتابة في عصر من العصور -والتي يقول فيها المؤلف أو الكتاب المؤرخ يحياها بنفسه- غالبًا ما تكون الكتابة فيها غير دقيقة وغير سليمة وغير صحيحة إلى حد كبير؛ لأن مَن يكتب عنهم ما زالوا يحيون ويعيشون.
وما زالت لهم يد وإرادة وقدرة في تصريف الأحداث، أو لهم أقارب أو قبائل … أو إلى آخره.
من الممكن أن يكون المؤرخ عرضة لبطش هؤلاء الجبارين، إذا ما تعرض للحقائق التاريخية بكل صدق وبكل تجرد وبكل موضوعية.
ثانيًا: الدِّينوريُّ:
هو: أبو حنيفة الدينوري، توفي عام اثنتين وثمانين بعد المائة الثانية من الهجرة النبوية.
كتاب الدينوري، ومنهجه:
أما كتابه فقد أطلق عليه (الأخبار الطوال)، وهذا الكتاب يعد نموذجًا من تلك الكتب التي نطلق عليها أنها تناولت التاريخ العالمي.
وإذا لاحظنا منهج الدينوري في هذا الكتاب فسوف نلاحظ أنه راعى التسلسل التاريخي في كتابته، ولكنه حاول أن يركز على بعض الحوادث والحركات بتناولها بشيء من التفصيل؛ أي: أنه كان يكتب كتابة عامة لأحداث التاريخ.
ولكن يأتي عند مواقف معينة تدور حول حركات معينة أو حوادث معينة، فيتناولها بشيء من التفصيل.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن التاريخ عند الدينوري في (الأخبار الطوال) هو عبارة عن سلسلة من الأخبار المتصلة أو التي يربط بينها رابط.
موضوعات هذا الكتاب:
أما بالنسبة لموضوعات هذا الكتاب، فنستطيع أن نقول: إنَّه حاول أن يتعرض لفترة ما قبل الإسلام، وأن يقدم صورًا متوازية ومترابطة للحوادث في عدة مناطق، فلم يقتصر على منطقة الجزيرة العربية، أو المنطقة العربية فحسب، ولكنه تعرض لإيران واليمن والجزيرة العربية، والدولة البيزنطية الشرقية، كل هذه البقاع والأماكن كانت لها مكانتها في تاريخه.
ولكن يلاحظ أنَّ الغالب عليه هو الاهتمام بالتاريخ الإيراني، وكانت هذه نقطة أساسية في كتاباته.
كذلك يلاحظ أنه لم يبد اهتمامًا كبيرًا بمراحل تاريخ الرسل، ويمر بفترة الرسالة بسطور قليلة.
ولكنه في الفترة الإسلامية وجه كتاباته وجهده نحو مناطق معينة، فنجده يهتم بحوادث العراق وحوادث إيران، وكانت هذه المناطق هي موضع اهتمامه بالدرجة الأولى دون غيرها من المناطق الأخرى.
ميول أبي حنيفة الدينوري:
الواقع أنَّ الدينوري يبدي شيئًا من الميل للعباسيين في أخباره، وهذه حقيقة، ونحن نعرف أن العصر العباسي ينقسم قسمين؛ العصر العباسي الأول يبدأ من 132 إلى 232، والعصر العباسي الثاني يبدأ من 232.
وهذا معناه أن الدينوري هو من أبناء العصر العباسي الثاني، فهو متأثر بأحداث هذا العصر وبخلفاء هذا العصر، وما كان يدور فيه، ومن ثم فيه ميل نحو هذا العصر الذي كان يعيشه والذي كان يحيا فيه.
موقف الدينوري من الإسناد:
أما بالنسبة لقضية الإسناد عند أبي حنيفة الدينوري، فتتمثل في أمرين:
الأمر الأول: هو لم يهتم كثيرًا بعملية نقد مصادره، وهذا الموضوع تناوله آخرون بشيء من الاهتمام -كما ذكرنا في علماء آخرين-، لكن الدينوري لم يهتم كثيرًا بعملية النقد لمصادره ولكتابه.
الأمر الثاني: أنه كان لا يبدي اهتمامًا كبيرًا بموضوع الإسناد، وهذا نبَعَ من كونه أراد أن يعطي خلاصة المادة العلمية المأخوذة والمتوفرة في عصره، وأن يأخذ منها بعض الأفكار؛ ليكون منها تاريخًا متصلًا. ويلاحظ أيضًا أن من يفحص مادته التاريخية سيلاحظ أنه جمع بين أطراف علمية كثيرة في كتاباته، فنجده جمع بين الإسرائيليات هذا بالإضافة إلى المصادر الفارسية، كما أنه اهتم وتأثر بمدرسة المدينة -وهي مدرسة معروفة، وقد تحدثنا عن ذلك قبل سابق- وكذلك تأثر بمدرسة العراق بما لها من الاهتمام بالأيام والأنساب والشعر والتراجم، وخلاف ذلك من النقاط التي تمثل مدرسة العراق.