Top
Image Alt

مواقف نقدية لعدد من الشعراء

  /  مواقف نقدية لعدد من الشعراء

مواقف نقدية لعدد من الشعراء

نتحدث هنا عن شيء مهم جدًّا، كان له أثر كبير في مسيرة النقد الأدبي في العصر العباسي، وفي بلورة الاتجاه الذي قلنا: إنه الاتجاه الذي ساد في القرن الرابع تقريبًا، وهو اتجاه الأدباء العلماء الذين لهم ذوق كبير وطبع سليم، ولهم بجانب ذلك ثقافة أدبية مكّنتهم -إلى جانب طبعهم وذوقهم- أن ينظروا في العمل الأدبي من جميع جوانبه.

 بطبيعة الحال كان للشعراء دور كبير في تقوية هذا الاتجاه؛ لأن الشعراء في هذا القرن من أصحاب الذوق العالي ومن أصحاب الثقافة العريضة، ونحن عرفنا مما سبق أن الشعراء كانوا يضيقون ذرعًا بعلماء اللغة الذين كانوا يتعقبونهم.

ولم يكن الناقد منهم يهتم بشيء من عناصر الشعر إلا اللغة، لم يكن ينظر في استواء الكلام ولا في صدق العاطفة، ولا في حسن التعبير والتصوير، وإنما كان كل الذي يلفت انتباهه لفظة أو كلمة يرى أن الشاعر أخطأ فيها فيتعقبه.

وكان الشعراء يضيقون ذرعًا بهذا، حتى إنهم كانوا يذهبون إلى أن هؤلاء العلماء ينبغي ألا يتعرضوا لنقد الشعر؛ لأن الذي يَعْلم الشعر هو من دُفع إلى مضايقه، أي: أن الشعراء هم أعلم الناس بهذا الفن؛ لأنهم هم الذين يمارسونه.

ولأهمية هذا الدور الذي كان للشعراء في مسيرة النقد الأدبي، وجدنا بعض الدارسين يخصصون ويفردون مؤلفات لهذا الأمر، من ذلك كتاب (الشعراء ونقد الشعر منذ الجاهلية حتى نهاية القرن الرابع الهجري)، وهذا الكتاب نشر بمساعدة الجامعة المستنصرية في بغداد، ومؤلفته الدكتورة هند حسين طه، وقد استعرضت هذه الباحثة دور الشعراء في نقد الشعر وتقويمه وتوجيهه منذ الجاهلية، حتى نهاية القرن الرابع الهجري.

ونحن في درسنا هذا لن نرجع إلى ما قبل العصر العباسي، وإنما سيكون اهتمامنا بما أضافه الشعراء إلى مسيرة النقد الأدبي في العصر العباسي:

لقد ظهر في هذا العصر شعراء كبار كثيرون، كان لهم دور مهم في مسيرة النقد الأدبي، من هؤلاء: عبد الله بن المعتز، وأبو تمام والبحتري، وأبو العلاء المعري، ودِعْبِل الخزاعي.

والشريف الرضي والشريف المرتضي، وغير هؤلاء، وسنقف عند نماذج من نقد هؤلاء الشعراء؛ للتدليل على الدور الذي أداه الشعراء للنقد.

كان ابن المعتز من الشعراء الكبار، وهو أيضًا من النقاد الذين يمكن أن نقول عنهم: نقاد متخصصون، فقد ترك لنا مؤلفات في النقد؛ أشهرها كتابه (البديع) وكتابه (طبقات الشعراء).

ومن المواقف التي تروى له، حكي الصولي قال: “كنت يومًا عند ابن المعتز، فقرئ لحضرته شعر لمُتَوَّج وكان رديئًا، فقال ابن المعتز: أأُشبه لكم شعر آل أبي حفصة وتَنَاقُصَه حالًا بعد حال؟

قلنا: نعم، قال: كأنه ماء سُخِّن لعليل في قدح، ثم استغني عنه فكان أيام مروان على حرارته -أي: مروان بن أبي حفصة- ثم انتهى إلى أبي الجنوب وقد نقص حره، ثم انتهى إلى مروان الثاني وقد فتر، ثم انتهى إلى يحيى وقد زاد فتوره، ثم انتهى إلى أبي الصمت وقد برد، ثم انتهى إلى محمود وقد ثَخُن لبرده، ثم انتهى إلى متوج هذا وقد جمد، فلم يبق بعد الجمود شيء”.

وهذا الكلام من ابن المعتز يستعرض فيه شعراء آل أبي حفصة، لينتهي إلى الحكم على شعر واحد منهم كان شعره رديئًا، اسمه متوج، فشبه شعر هؤلاء القوم بماء كان سُخنًا لعليل يستفيد منه، ثم استُغني عنه، فكان أيام مروان على حرارته، أي: أشعر هؤلاء القوم هو مروان بن حفصة في رأي ابن المعتز، وأردؤهم شعرًا في رأيه هو متوج، الذي صار الشعر على يده بمثابة الماء الذي تجمد بعد أن كان ساخنًا.

وكان ابن المعتز يستملح شعر العباس بن الأحنف الغَزَلِي، ويفضّله على شعر أبي نواس، وكان يقول: “إن في غزله -أي: في غزل أبي نواس- بردًا كثيرًا”.

وذكروا أن عبد الله بن المعتز كان يقول: “لو قيل: ما أحسن شيء تعرفه؟ لقلت: شعر العباس بن الأحنف الذي يقول فيه:

قد سَحَّب الناس أذيال الظنون بنا

*وفَرّق الناس فينا قولهم فِرَقا

فكاذب قد رمى بالظن غيركم

*وصادق ليس يدري أنه صدقا

وكان ابن المعتز يستحسن شعرًا لمحمد بن أمية في جارية له اسمها خِداع، ومن ذلك قول هذا الشاعر:

عجبًا عجبت لمذنب متغضِّبِ

*لولا قبيح فعاله لم أعجب

أخِداع طال على الفراش تقلبي

*وإليك طول تشوفي وتطربي

ويحكي الصولي أن ابن المعتز قال له: “إنما حداه على قول الشعر ورغبه فيه أنه رأى البحتري يومًا ينشد شعرًا، افتنّ فيه برقة النسيب وجودة المديح، ثم تخلص منهما إلى استهداء خاتم ياقوت، فأبدع في تخلصه، وأول الشعر هو:

بودِّي لو يهوى العذول ويعشق

*فيعلم أسباب الهوى كيف تعلق

أما الأبيات التي يستهدي بها الخاتم فهي:

فهل أنت يابن الراشدِين مُخَتِّمِي

*بياقوتة تبهى عليّ وتشرق

يغار احمرار الورد من حسن صبغها

*ويحكيه جادي الرحيق المعتق”

وقد تكلم ابن المعتز في كتابه (البديع) على أشعار المتقدمين، كما تكلم عن المُحْدَثين من أمثال بشار ومسلم وأبي نواس، وذكر أن حبيب بن أوس الطائي -أبا تمام- شغف بمذهب المحدثين حتى غلب عليه هذا المذهب، وتفرع فيه وأكثر منه، فأحسن في بعضه وأساء في بعضه الآخر، وأرجع ابن المعتز الإساءة التي وقع فيها أبو تمام في رأيه إلى إفراط أبي تمام وإسرافه في استعمال البديع.

ومن الشعراء الذين كان لهم إسهام في مسيرة النقد الأدبي وحركته كذلك: البحتري الشاعر المعروف، ويروى أنه كان في مجلس من مجالس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وسئل: “أمسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: أبو نواس؛ لأنه يتصرف في كل طريق ويبرع في كل مذهب، إن شاء جَدّ وإن شاء هزل، ومسلم يلزم طريقًا واحدًا لا يتعداه، ويتحقق بمذهب لا يتخطاه. ويقول له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلبًا لا يوافق على هذا! فيرد عليه البحتري قائلًا: ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله، إنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه”.

وفي هذا النص نرى أن البحتري عندما فضّل أبا نواس على مسلم بن الوليد علّل لحكمه؛ بأن أبا نواس يتصرف في كل طريق، أي: يبدع في كل أغراض الشعر ويبرع في كل مذهب، وأنه مجيد في جده وكذلك في هزله، فكثرة الفنون التي يتفوق فيها الشاعر كانت مقياس البحتري في تفضيله أبا نواس.

وقد كان هذا المقياس معتدًّا به في بيئات النقد، ففي تفضيلهم لجرير على الفرزدق ذكروا أن جريرًا يحسن من ضروب الشعر ما لا يحسنه الفرزدق، ولقد ماتت امرأة الفرزدق فناح عليها بمرثية لجرير، هي التي تبدأ بقوله:

لولا الحياء لعادني استعبار

*ولزرت قبرك، والحبيب يُزار

في إشارة إلى أن الفرزدق لم يكن يحسن الرثاء، ومن هذا أيضًا أنهم غضّوا من قيمة ذي الرمة؛ لأنه لم يكن يحسن الهجاء.

إذًا: المقياس الذي نظر إليه البحتري في تفضيله أبا نواس على مسلم بن الوليد، وهو كثرة الأغراض التي يجيد فيها الشاعر- مقياس صحيح ومعتبر.

وكان البحتري يفضل الشعر الذي يتّبع طريقة العرب في التعبير والبيان، فلما سئل عن دعبل الخزاعي فضله على مسلم بن الوليد.

وعلل ذلك التفضيل بأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، وأن مذهبه أشبه بمذاهبهم منه.

وكان البحتري معجبًا بأبي نواس، ومن كلامه الذي يروى عنه: “لو قُسِّم إحسان أبي نواس على جميع الناس لوسعهم، وإنّ لأَشْجَع السلمي لإحسانًا، وما علّم الشعراء أكل الخبز بالشعر -يعني: التكسب بالشعر- إلا أبو تمام، فلما سئل: إن كان هو أشعر أم أبو تمام؟

قال: جيد أبي تمام خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه”. ومن هنا يظهر أن الرجل كان منصفًا من نفسه، في تفضيل جيد أبي تمام على جيده.

وكان البحتري يعترف بفضل أبي تمام وكان يتخذ منه أستاذًا، وقيل له: قد عثرت باحتذائك أبا تمام في شعرك، فقال: “أيعاب علي أن أتبع أبا تمام، وأنا الذي ما عملت بيتًا قط حتى أخطر شعره ببالي؟!”.

وإذا تركنا البحتري إلى شاعر آخر من الشعراء العباسيين، الذين كان لهم دور واضح في حركة النقد الأدبي، فإننا نجد الشريف المرتضي الذي يرى أن البحتري أحسن في أغراض كثيرة، فمن إحسانه في ذم الدنيا قوله:

أُخَي متى خاصمت نفسك فاحتشد

*لها، ومتى حدثت نفسك فاصدقِ

أرى علل الأشياء شتى، ولا
 
*أرى التجمع إلا غاية للتفرق

 إذًا: الشريف المرتضي يستحسن هذا القول من شعر البحتري، وكان يقول معجبًا بالبحتري: “إنه أحسن غاية الإحسان في قوله:

أغشى الخطوب، فإما جئن مأربتي

*فيما أُسَيِّر أو أَحْكَمْن تأديبِ

إن تلتمس تمر أخلاف الخطوب، وإن

*تلبث مع الدهر تسمع بالأعاجيب

ويحكي الشريف المرتضي أن قومًا من أهل الأدب تذاكروا معه أشعار المحدثين وطبقاتهم، حتى انتهوا إلى مروان بن أبي حفصة، فأفرط بعضهم في وصفه وتقريره وآخرون في ذمه وتهجينه والإجراء على شعره وطريقته، ثم سألوا الشريف عن رأيه فيه فقال: “كان مروان متساوي الكلام، متشابه الألفاظ، غير متصرف في المعاني، ولا غوّاص عليها ولا مدقق لها”.

وكان الشريف المرتضي يؤخر مروان بن أبي حفصة عن مسلم بن الوليد، ويرى أنه كان أقل منه في تنقيح الألفاظ وتدقيق المعاني ووقوع التشبيهات، وأنه كان دون بشار بن برد في الأبيات النادرة السائرة.

وهذه النظرة في الشعر تنظر إلى عدة عناصر. ومع هذا الرأي في مروان بن أبي حفصة، فإن الشريف المرتضي كان يشيد بإجادته في بعض المواطن، ومن ذلك وصفه لحديقة وهبها له الخليفة المهدي، يذكر فيها نخلها وشجرها في أبيات تقول:

نواضر غلبًا قد تدانت رءوسها

*من النبت حتى ما يطير غرابها

ترى الباسقات العُمَّ فيها كأنها

*ظعائن مضروب عليها قبابها

ترى بابها سهلًا لكل مُدَفَّع

* إذا أينعت نخل فأغلق بابها

يكون لنا ما نجتني من ثمارها

*ربيعًا إلى الآفاق قَلّ سحابها

وهي أبيات جميلة في الوصف، وقد استحسنها الشريف المرتضي وأثنى عليها.

وحكى الشريف المرتضي عن المرزباني، عن سلسلة رواة عن رجل من بني غنم بن عبد القيس، أنه قال: “ورد منصور بن سلمة النمري على البرامكة وهو شيخ كبير، وكان مروان بن أبي حفصة صديقًا لي، على أني كنت أبغضه وأمقته، فشكا إلي وقال: دخل علينا اليوم رجل وأظنه شاميًّا، وقد تقدمته البرامكة في الذكر عند الرشيد، فأذن له فدخل وسلم وأجاد، فأوجست منه خوفًا وطمأنت نفسي: حجازي ونجدي وشافهت العرب وشافهتني، وهذا شامي فلن يكون أشعر مني.

ويقول مروان: فاستنشده الرشيد، فإذا هو والله من أفصح الناس، فدخلني له حسد وتمنيت لو أن قصيدته لي وأن علي غُرْمًا. ومن أبيات القصيدة:

أمير المؤمنين إليك خُضْنا

*غمار الموت من بلد شَطِير

بخوص كالأهلة جانفات

*تميل على الثرى، وعلى الهجير

حملنا إليك آمالًا عظامًا

*ومثل الصخر والدر النخيل

قال مروان: فعجبت من تخلصه إلى تلك القوافي، وعجبت أكثر حينما ذكر ولد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فأحسن التخلص، ورأيت هارون يعجب بذلك، ومن تخلصه:

يد لك في رقاب بني عليٍّ

*ومَنٌّ ليس بالمن اليسير

فإن شكروا فقد أنعمت فيهم

*وإلا، فالندامة للكفور

وقد سخطت لسخطتك المنايا

*عليه، فهي حائمة النسور

 حتى انتهى إلى قوله:

وإنك حين تبلغهم أذاة

*وإن ظلموا لمحترق الضمير

قال الرشيد: هذا والله، معنى كان في نفسي”.

وكان الشريف المرتضي يؤكد على الفصاحة والطلاوة، وأنها في الأعراب دون غيرهم، ويعلق على أبيات لأبي نواس بقوله: “وعلى هذا الكلام طلاوة ومسحة أعرابية، ليستا لغيره”. ومن هذه الأبيات قول أبي نواس:

كان الشباب مطية الجهل

*ومُحَسِّن الضحكات والهزل

كان الجميل إذا ارتديت به

*ومشيت أخطر صيت النعل

ومن كلامه عن الشعر الذي قاله في مدح الشيب، يظهر أنه كان معجبًا بأبي تمام والبحتري في هذا المقام؛ لأنهما أتيا في هذا المعنى بكل غريب وعجيب، ومن ذلك في رأيه قول أبي تمام:

غدا الهم مختطًّا بفَوْدِي خطة

*طريق الردى منها إلى الموت مَهْيَع



هو الزَّوْر يُجْفَى، والمعاشِر يُجْتَوى

*وذو الإلف يُقْلَى، والجديد يُرَقَّع

وكثيرة هي اللمحات النقدية التي رويت عن الشاعر والعالم، والناقد الأديب الشريف المرتضي.

error: النص محمي !!