Top
Image Alt

موجب القتل العمد

  /  موجب القتل العمد

موجب القتل العمد

موجِب القتل العمد مقتضاه عقوبة؛ لأنه قتل بغير حق، ومن ثم فطالما أنه قتل بغير حق فلا بد أن يستوجب عقوبة، وقد اختلفت كلمة الفقهاء في موجب القتل العمد، أو في عقوبة القتل العمد على قولين:

القول الأول: أن موجب القتل العمد القصاص عينًا، أي: يتعين القصاص دون غيره كعقوبة للقتل العمد، ومن ثم فلا تجب الدية إلا بالاختيار، ويتحقق الاختيار بأن يختار ولي القتيل الدية مباشرة من غير أن يسقط القصاص مطلقًا، فله في تلك الحالة أن يقول: أختار الدية، أو يقول عفوت على الدية، أما إذا قال: عفوت عن القصاص مطلقا من غير تقييد، فليس له بعد ذلك شيء لا قصاص، ولا دية؛ لأنه -كما ذكرنا- موجب هذا النوع من القتل العمد عند أصحاب هذا القول يتعين في القصاص فقط، فإذا عفا عنه سقط كل حق له بعد ذلك في المطالبة بالقصاص، أو الدية، فلو عفا الولي عن القصاص مطلقًا سقط القصاص، ولم تجب الدية؛ لأنه لا يجب له إلا القصاص، وقد أسقطه بالعفو.

وقد استدل أصحاب هذا القول -الإمام أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية عنه، والثوري، والأوزاعي- على صحة ما ذهبوا إليه في تعين القصاص عقوبة لهذا النوع من القتل، بقول الله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [البقرة: 178]، وموضع الاستدلال في هذه الآية، أن الحق -تبارك وتعالى- لم يذكر الدية في الآية؛ فعُلم بذلك أنها لم تجب بهذا النوع من القتل، بل بالعفو، كما هو مبيَّن في بقية الآية الكريمة.

كما استدلوا على ما ذهبوا إليه من السنة أيضًا، بحديث أنس بن مالك في قصة سن الربيع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كتاب الله القصاص))، عندما جنت على أخرى، ووقعت الجناية على سِن الأخرى، فأوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن العقوبة تتعين في القصاص عند قوله: ((كتاب الله القصاص)) فعُلم بدليل الخطاب أنه ليس إلا القصاص، ويتأكد هذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل عمدًا فقَوَد)) أي: فقصاص.

وقالوا في بيان ذلك أيضًا: أن القصاص بمثابة بدل يجب حقًّا لآدمي، فوجب معينًا كبدل ماله، أو بعبارة أخرى، فإنما ضمن بالبدل في حق الآدمي ضمن ببدل معين كالمال، أي: أن القصاص في القتل العمد بدل عن الجريمة التي ارتكبت في حق المجني عليه، وتعين البدل في هذا القصاص.

إذا لا نترك هذا البدل طالما قد تعين في القرآن، وكذلك في السنة، لكن -كما نوهنا- المسألة محل خلاف؛ لذلك وجدنا أصحاب القول الثاني، يرون أن موجب هذا النوع من القتل أحد الأمرين؛ القصاص، أو الدية، وذلك على التخيير -أي: يخير بين القصاص، أو الدية- فأولياء المقتول لهم أن يختاروا إما القصاص من الجاني، وإما الدية.

ومن هنا يتضح لنا أن القصاص ليس بواجب على التعيين، كما هو الشأن في القول الأول، الذي عيَّن العقوبة في القصاص، بل الواجب أحد شيئين؛ إما القصاص، وإما الدية، وللولي خيار التعيين.

وعلى هذا، إذا مات القاتل يتعين المال واجبًا؛ فإن عفا الولي سقط الموجب أصلًا، وإن عفا عن القود على الدية علمنا أن الواجب كان هو الدية.

وقد استدل أصحاب هذا القول، بما رواه أبو شريح الكعبي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني أعقله، فمن قُتل له قتيل بعد اليوم فأهله -أي: أولياؤه- بين أمرين، أو بين خيرتين؛ إما أن يَقتلوا، أو يأخذوا العقل -أي: يأخذوا الدية)).

ويتأكد هذا المعنى أيضًا، بما ورد عن أبي هريرة: “من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، أي: بخير الأمرين إما العفو، وإما القتل”.

وفي تقديرنا عند التعرض لبيان الرأي الراجح -والكلام لصاحب الكتاب- حيث يرى: أن القول الثاني، هو الراجح للتحقق من أن ولي القتيل له الخيار بين القتل، أو العفو، ويتضمن العفو هنا أحد أمرين؛ أحدهما ما كان بإطلاق، كما لو عفا عن القصاص، والدية معًا، أو ما كان مقيدًا بالعفو عن القصاص وحده دون الدية، أي: أن العفو إما أن يكون عفوًا عامًّا شاملًا يشمل القصاص، والدية، أو يكون مقيدًا بالعفو عن القصاص دون الدية، ويعزِّز هذا الاختيار، ما رواه البيهقي: “كان في شرع موسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- تحتم القصاص لزامًا”.

وفي شرع عيسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- الدية فقط، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة، وخيَّرها بين الأمرين؛ وذلك لما في الإلزام بأحدهما من المشقة والحرج، ولأن الجاني محكوم عليه، فلا يعتبر رضاه كالمحال عليه والمضمون عنه.

وروى البيهقي، عن مقاتل في قوله تعالى: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، قال: كُتب على أهل التوراة من قتل نفسًا بغير نفس حق أن يقاد بها، ولا يعفى عنه، ولا يقبل منه الدية، وفُرض على أهل الإنجيل العفو، ورُخِّص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إن شاء قَتل، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا، أي: أن الخيار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بين القتل، والدية، والعفو؛ فذلك قوله: { تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178].

أيضًا لم يقف أصحاب هذا القول على ذلك، بل حاولوا أن يُفنِّدوا، ويضعفوا من القول الأول، حيث قالوا: ولا يستدل على تعيين القصاص وحده بقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، فإن عدم ذكر الدية في هذه الآية لا يستلزم النفي مطلقًا، أو لا يستلزم السقوط، ويؤيد عدم السقوط قول الله تعالى في بقية الآية { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة: 178].

والمراد بالتخفيف هنا: التخيير بين القصاص، والدية لهذه الأمة، بعد أن كان الواجب على بني إسرائيل هو القصاص فقط، ولم يكن فيهم الدية.

هذا؛ ومن مقتضيات القتل العمد وجوب الكفارة، وهي صنفان يَردان متتابعين، والتتابع واجب، وهما: الإعتاق، وصيام شهرين متتابعين، ويستفاد ذلك من قول الله تعالى: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92].

ومع ذلك فثمة تفصيل في الكفارة في القتل العمد؛ لذلك نرى إتمامًا للفائدة أن نتحدث عن أقوال العلماء في عجالة عن وجوب الكفارة في القتل العمد، والعلماء في وجوب الكفارة على قولين:

القول الأول للحنفية، والحنابلة؛ حيث قالوا: “لا وجوب للكفارة في القتل العمد”، وقد وجه الحنفية الكلام في هذا، وقالوا: إن الكفارة في الخطأ، إنما جعلت شكرًا لنعمة الله الذي مَنَّ عليه بسلامة الحياة مع جواز انعدامها بالقصاص، ولا شك أن هذه نعمة، والنعمة تستدعي الشكر، والشكر يتحقق في الكفارة، أيضًا رفعت عنه المؤاخذة في الآخرة مع جواز هذه العقوبة، ولم يكن شيء من ذلك في العمد، حيث الحياة عرضة للإزهاق، والذنب المقترف عظيم، ومن ثم فلا مجال بعد ذلك لقياس القتل العمد على الخطأ لثبوت الكفارة.

أما الحنابلة الذين قالوا أيضًا بعدم وجوب الكفارة؛ فقد استندوا إلى ظاهر النص الموجب للكفارة في القتل الخطأ، وهو قول الله تعالى: { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]

فتخصيصه بالكفارة هنا -أي: تخصيص هذا النوع، وهو القتل الخطأ بالكفارة- يدل على نفيها في غيره، أي: نفي الكفارة عن غير هذا النوع من القتل، وكذلك فإن الكفارة لو وجبت في العمد لمحت عقوبته في الآخرة؛ لأنها كما نعلم شرعت لستر الذنب، ومعلوم أن عقوبة القتل عمدًا ثابتة بالنص لا تُمحى بالكفارة، فوجب ألَّا تجب الكفارة فيه.

أما القول الثاني: وهو للمالكية، والشافعية، وأحمد في رواية؛ حيث قالوا: “كل قاتل عمدًا عُفي عنه، وأُخذت منه الدية، عليه الكفارة”، ووجه ذلك: أن الشارع إذا أوجبها في الخطأ الذي وضع عنه الإثم كان العمد أولى بها، ولا شك في أن هذا القول الثاني له وجاهته.

المستحقين للقصاص:

تفصيل للفقهاء في من يستحق القصاص، والقصاص في اللغة -كما نعلم- من اقتصاص الأثر، ثم غلب في القاتل، وعلى أية حال فقد اتفق الفقهاء على أنه إذا قتل إنسان استحق القصاص وورثته كلهم؛ ذلك أن القصاص موروث، فكان لورثة القتيل حق استيفاء القصاص؛ لأن هذا حقهم كالمال، فكما أن المال حق للورثة -أي: المال الذي تركه المقتول- فكذلك الحق في القصاص حكمه حكم المال فيورث، والورثة هم المستحقون.

ومما يؤيد ذلك، ما جاء في السنة، عن أبي داود بإسناده عن أبي هريرة، أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين -أي: بخير الأمرين- إما أن يودى، أو يقاد)) يعني: إما أن يختار القصاص، أو يختار الدية، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق حق الاختيار لكل من قتل له قتيل.

وبالرغم من أن الاتفاق حاصل على ذلك العموم، إلا أنه ثمة الخلاف لدى الفقهاء في ذلك حيث وجدنا من يرى أنه لا يرث القصاص إلا العصبات من الرجال؛ لأن القصاص يدفع العار عن ذوي النسب، فاختص به العصبات، فإن اقتصوا تم لهم ذلك، وإن عفوا على الدية كانت لجميع الورثة؛ هو قول الإمام مالك -رحمه الله- وخلاصته أن أولياء الدم هم العصبات، فيسقط بعفو بعضهم.

ووجدنا أيضًا من يرى أن القصاص حق من كان وارث بنسب لا بسبب، أي: لا يدخل في هذا الحق من كان وارثًا بسبب كالزوجة مثلًا، ووجه ذلك: أن القصاص يراد به التشفي، والزوجية تزول بالموت، فلم يعد الوارث بسبب الزوجية ذا حاجة للتشفي بعد انقطاع الزوجية، وهذا قول ابن شبرمة وآخرين.

ووجدنا أيضًا من يرى أن هذا الحق حق لجميع الورثة، ويستوي في ذلك من يرث بنسب، ومن يرث بسبب؛ وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، والثوري، وأحمد؛ حيث ذهبوا جميعًا إلى أن كل وارث يكون قوله معتبرًا في إسقاط القصاص، وفي إسقاط حظه من الدية؛ حيث وجدنا عن الشافعي -في هذا الصدد- أنه يستوي استيفاء حق القصاص من الورثة من كان فيهم غائبًا، أو حاضرًا، أو صغيرًا، أو كبيرًا.

كما استدلوا لذلك أيضًا، بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فمن قتل بعد قتيل فأهله بين خيرتين؛ إن أحبوا قَتلوا، وإن أحبوا أَخذوا الدية))، ومعلوم أن الأهل لغة يقع على الرجال والنساء.

error: النص محمي !!