Top
Image Alt

موسيقى الشعر واللغة عند ميخائيل نعيمة

  /  موسيقى الشعر واللغة عند ميخائيل نعيمة

موسيقى الشعر واللغة عند ميخائيل نعيمة

قضية موسيقى الشعر هي أهم القضايا التي تضمنها كتاب (الغربال):

أما أهم القضايا التي تضمنها كتاب (الغربال)، فهي قضية موسيقى الشعر، وهجوم ميخائيل نعيمة على العروض العربي، وهذا الأمر لم يقبله أكثر النقاد، والشعراء المهجريين، ومنهم ميخائيل نعيمة نفسه لم يخرجوا خروجًا كاملًا عن إيقاع الشعر العربي، ونظامه الموسيقى، وإن جددوا فيه، وأي فنٍّ من الفنون لا بد أن تكون له قواعد تضبطه، ولا يمكن أن تلغى كل القيود، وكل القواعد في فن من الفنون.

والقضية الثانية هي قضية: اللغة؛ حيث إن ميخائيل نعيمة في مقاله نقيق الضفادع، هاجم الأدباء والنقاد، الذين وصفهم بأنهم متزمتون في اللغة وقواعدها وعلومها، ويرى في تزمتهم هذا ما يشبه نقيق الضفادع، ويرى أن اللغة ما هي إلا مجرد رموز، كغيرها من الرموز التي استخدمتها، ولا تزال تستخدمها الإنسانية كوسيلة للإفصاح عما يختلج في النفس من فكر أو إحساس، وحسبها أن تستطيع أداء هذه الوظيفة، بل من الخير تبسيط تلك الرموز إلى أقصى حد مستطاع؛ لأنها كلما ازدادت تبسيطًا، ازدادت قدرة على تحقيق وظيفتها في نقل الفكر، والإحساس من نفس إلى نفس.

وأيضًا من حسن الحظ أن ميخائيل نعيمة وإخوانه من شعراء المهجر، لم يخرجوا على اللغة العربية خروجًا كاملًا ولا واضحًا، وإنما كانت لهم جرأة في استخدام بعض التراكيب، أو بعض الألفاظ المخالفة للقياس أحيانًا، لكن لغتهم ظلت لغة عربية سليمة مشرقة في أغلب الأحوال، ووجدنا من العقاد موقفًا من هذه القضية في المقدمة، التي كتبها لـ(لغربال)، فمع ثنائه على المؤلف وثنائه على وجهته، قال: أما كلمتي أنا في خلاف صغير بيني وبين المؤلف، لا أعرضه للمناقشة إلا لأن الاتفاق بيننا في غير هذا الموضع عظيم.

وزبدة هذا الخلاف أن المؤلف يحسب العناية باللفظ فضولًا، ويرى أن الكاتب أو الشاعر في حل من الخطأ ما دام الغرض الذي يرمي إليه مفهومًا، واللفظ الذي يؤدي به معناه مفيدًا، ويعن له أن التطور يقضي بإطلاق التصرف للأدباء في اشتقاق المفردات وارتجالها، وقد تكون هذه الآراء صحيحة في نظر فريق من الزملاء الفضلاء، ولكنها في نظري تحتاج إلى تنقيح وتعديل، ويؤخذ فيها بمذهب وسط بين التحريم والتحليل.

ويضيف العقاد قائلًا: فرأيي أن الكتابة الأدبية فن، والفن لا يكتفى فيه بالإفادة، ولا يغني فيه مجرد الإفهام، وعندي أن الأديب في حل من الخطأ في بعض الأحيان، ولكن على شرط أن يكون الخطأ خيرًا وأجمل وأرقى من الصواب، وأن مجاراة التطوير فريضة وفضيلة، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة لم تخلق اليوم، فنخلق قواعدها وأصولها في طريقنا، وأن التطور إنما يكون في اللغات التي ليس لها ماضٍ وقواعد وأصول، ومتى وجدت القواعد والأصول، فلماذا نهملها أو نخالفها، إلا لضرورة قاصرة لا مناص منها، هذا كلام العقاد.

ثم يقول: ومع هذا يلوح لي أن الخلاف بيننا خلاف في التطبيق لا في الجوهر؛ لأن المؤلف الألمعي يعرف العلاقة بين اللفظ والمعنى أحسن تعريف، فلا يجور باللفظ ولا بالمعنى عن حده في البلاغة، وله في هذه المجموعة أقوال في هذا المعنى منها قوله في بلاغة شكسبير: إن بين أفكاره وأكسيتها اللغوية ترابط هو غاية في الدقة والفن، وهذا الترابط هو ما يكسبها جلالها الملوكي، وسلاستها السحرية، ورنتها الموسيقية، ومن ترجمها دون جلالها وسلاستها، ورنتها يكون كمن أخذ من الشجرة ساقها، بعد أن عراه من الفرع والغصون والأوراق، وليس يقول قائل من عشاق البلاغة اللفظية غير ذلك في هذا الصدد، ولا أكثر من ذلك.

وعن مشكلة اللغة الفصحى والعامية قال ميخائيل نعيمة: إن أكبر عقبة صادفتها في تأليف الآباء والبنين، وهي مسرحيته وسيصادفها كل من طرق هذا الباب سواي، هي اللغة العامية، والمقام الذي يجب أن تعطاه في مثل هذه الروايات يقول: وفي عرفي وأظن الكثيرين يوافقون على ذلك، أن أشخاص الرواية يجب أن يخاطبوا باللغة التي تعودوا أن يعبروا بها عن عواطفهم وأفكارهم، وأن الكاتب الذي يحاول أن يجعل فلاحًا أميًّا يتكلم بلغة الدواوين الشعرية، والمؤلفات اللغوية يظلم فلاحه، ونفسه، وقارئه، وسامعه، بل يظهر أشخاصه في مظهر الهزل؛ حيث لا يقصد الهزل، ويقترف جرمًا ضد فن جماله في تصوير الإنسان، حسبما نراه في مشاهد الحياة الحقيقية.

وهناك أمر آخر جدير بالاهتمام متلعق باللغة العامية، وهو أن هذه اللغة تستر تحت ثوبها الخشن، كثيرًا من فلسفة الشعب واختباراته في الحياة، وأمثاله واعتقاداته، التي لو حاولت أن تؤديها بلغة فصيحة، لكنت كمن يترجم أشعارًا وأمثالًا عن لغة أعجمية.

ثم يقول: وربما خالفنا في ذلك بعض الذين تأبطوا القواميس، وتسلحوا بكتب الصرف والنحو كلها قائلين: إن كل الصيد في جوف الفرى، وأن لا بلاغة أو طلاوة في اللغة العامية، لا يستطيع الكاتب أن يأتي بمثلها بلغة فصحى، يقول: فلهؤلاء ننصح أن يدرسوا حياة الشعب ولغته بإمعان وتدقيق.

ثم يقول ميخائيل نعيمة الرواية التمثيلية بين كل الأساليب الأدبية، لا تستطيع أن تستغني عن اللغة العامية، وإنما العقدة هي أننا لو اتبعنا هذه القاعدة، لوجب أن نكتب كل رواياتنا باللغة العامية؛ إذ ليس بيننا من يتكلم عربية الجاهلية، أو العصور الإسلامية الأولى.

وذلك يعني انقراض لغتنا الفصحى، ونحن بعيدون عن أن نبتغي هذه الملمة القومية، فأين المخرج يقول: وعبثًا بحثت عن حل لهذا المشكل، فهو أكبر من أن يحله عقل واحد، وجل ما توصلت إليه بعد التفكير، هو أن أجعل المتعلمين من أشخاص الرواية يتكلمون لغة معربة، والأميين اللغة العامية، لكنني أعترف بإخلاص أن هذا الأسلوب لا يحل العقدة الأساسية، فالمسألة لا تزال بحاجة إلى اعتناء أكبر من رجال اللغة وكتابها.

وحسب نعيمة في هذا الكلام أنه يشير إلى مشكلة وعقدة، تواجه من يكتبون الروايات، عندما يجعلون عامة الناس يتكلمون في رواياتهم، فهل ينطقونهم باللغة الفصحى، ويظهر هؤلاء العامة على نحو مخالف لحقيقتهم في الحياة، أم ينطقونهم باللغة العامية أو اللهجة العامية، وهو يدرك أن الروايات إذا تحولت كلها إلى لهجة عامية، أو كثرت فيها العامية كثرة مفرطة، فإن هذا يهدد اللغة الفصحى، ويرى أن في هذا مصيبة قومية لا يدعو هو إليها، ولا يريدها، ويدعو أصحاب العقول والمتخصصين أن يبحثوا معه عن حل لهذه المشكلة.

هذا هو كتاب (الغربال) وما تضمنه للناقد والشاعر المهجري ميخائيل نعيمة، وهناك كما قلت سابقًا مقالات وردود واجتهادات في النقد لآخرين من الآدباء والشعراء المهجريين، غير ميخائيل نعيمة، مثل: جورج صيده وعيسى الناعوري وغيرهما، وهذه الآراء لا تخرج، ولا تختلف كثيرًا عن ما جاء في (الغربال).

error: النص محمي !!