(موطأ الإمام مالك)
صرَّح الخطيب وغيرُه بأنَّ الموطأ مقدَّمٌ على كل كتاب من الجوامع والمسانيد. فعلى هذا، هو بعد صحيح الحاكم.
وهو روايات كثيرة، وطبع منها: رواية مصعب، وروايةُ يحيى بن يحيى، وجزءٌ من رواية القعنبي، وجزءٌ من رواية ابن زياد، وموطأ سويد بن سعيد. هذه على ما نعلم هي الرِّوايات التي هي بين أيدينا الآن، لكن الروايات كثيرة. كما طُبع أيضًا مسند الموطإ للغافقي، جمع فيه بين روايات (الموطَّإ) التي هي لديه.
قال السيوطي: وأكبرها رواية القعنبي.
وقال العلائي: روى (الموطَّأ) عن مالك جماعات كثيرة، وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص. ومن أكبرها وأكثرها زياداتٍ: روايةُ أبي مصعب. قال ابن حزم: في موطإ أبي مصعب هذا زيادةٌ على سائر الموطّآت نحو مائة حديث.
وأمَّا ابن حزم فإنه قال: أولى الكتب: الصَّحيحان، ثم (صحيح ابن السكن)، و(المنتقى لابن الجارود) وهو مطبوع، و(المنتقى لقاسم بن أصبغ)، ثم بعد هذه الكتب كتاب أبي داود وكتاب النَّسائي، ومصنّف قاسم بن أصبغ، والذي كان قبل ذلك هو المنتقى الذي هو أعلى درجة، و(مصنّف الطحاوي)، ومسانيد مصنّف الطَّحاوي وهو (شرح معاني الآثار) أو (مشكل الآثار)، ومسانيد أحمد، والبزار، وابني أبي شيبة -أبي بكر وعثمان- وابن راهويه، والطَّيالسي، والحسن بن سفيان، والمسندي، وابن سنجر، ويعقوب بن شيبة، وعليِّ بن المديني، وابن أبي غرزة، وما جرى مجراها، التي أُفردت لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم صرفًا.
ثم بعدها الكتب التي فيها كلامه وكلام غيره، ثم ما كان فيه الصحيح فهو أجل، مثل: مصنّف عبد الرزاق ومصنّف ابن أبي شيبة، والذي فات قبل ذلك إنما هو (مسند ابن أبي شيبة) الذي هو أرفع درجة، و(مصنّف بقيِّ بن مخلد)، وكتاب محمد بن نصر المروزي، وكتاب ابن المنذر وأظنه يُريد بذلك: الوسيط وقد طُبع منه أجزاء، ثمَّ (مصنَّف حماد بن سلمة)، و(مصنَّف سعيد بن منصور) وطبع منه جزءٌ، و(مصنَّف وكيع)، و(مصنّف الفريابي)، و(موطأ مالك)، و(موطأ ابن أبي ذئب)، و(موطأ ابن وهب)، و(مسائل ابن حنبل)، وفقه أبي عبيد، وفقه أبي ثور.
وما كان من هذا النَّمط مشهورًا كحديث: شعبة، وسفيان، والليث، والأوزاعي، والحميدي، وابن مهدي، ومسدَّد، وما جرى مجراها.
فهذه طبقة (موطأ مالك)، بعضها أجمع للصحيح منه، وبعضها مثله، وبعضها دونه.
قال: ولقد أحصيتُ ما في حديث شعبة من الصحيح فوجدته (300). وأحصيتُ ما في (موطإ مالك)، وما في حديث سفيان بن عيينة، فوجدتُ في كل واحدٍ منهما من المسند خمسمائة ونيِّفًا مسندًا، وثلاثمائة ونيِّفًا مرسلًا.
وقال قبل ذلك في حديث شعبة: ثمانمائة حديث ونيِّفًا مسندًا، ومرسلًا يزيد على المائتيْن.
قال في (الموطإ) وفيه نيِّف وسبعون حديثًا، قد ترك مالكٌ نفسُه العملَ بها، وفيه أحاديث ضعيفة وهّاها جمهور العلماء. انتهى ملخصًا من كتابه أي: من كتاب ابن حزم (مراتب الديانة).
وربما كان هناك تجنٍّ من ابن حزم في ذلك، في تفضيله بعض ذلك على الموطإ.
درجة أحاديث (الموطَّإ):
إذا نظرنا إلى شروط مالك في الرواة والرواية، فإنَّه يمكننا أن نحكم على أحاديث الموطَّإ:
إنَّ الإمام مالكًا لا يأخذ الحديث إلا من العدول، المستقيمين في سلوكهم ومعتقدهم، المتَّزنين في عقولهم وتصرُّفاتهم.
يقول الإمام مالك: لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممَّن سوى ذلك. لا تأخذ من سفيه معلِن بالسّفه، وإن كان أروى الناس. ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس، إذا جُرّب عليه ذلك، وإن كان لا يتَّهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من صاحب هوىً يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخٍ له فضل وعبادة إن كان لا يعرف ما يُحدِّث.
ويقصد بصاحب الهوى يعني: صاحب بدعة، كالفِرق المختلفة المنتشرة في عصره من الخوارج وغيرهم…
وقد سأله بعض المحدِّثين عن رجل ليعرفَ ما إذا كان ثقةً أو لا، فأجاب الإمامُ مالك: هل رأيته في كتبي؟ فقال السائل: لا. فقال مالك: لو كان ثقةً رأيتَه في كتبي. وانظر في ذلك تقدمة المعرفة لكتاب (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم (ص24)، و(التَّمهيد) لابن عبد البر (ج1 ص68).
إذًا، فمالك لا يحكم على الرواة فقط، ولكنه يرى أيضًا ألاّ يدوِّن أحاديث من هو غير ثقة منهم، ويجعل هذا بمثابة الحكم على ثقة الراوي أو عدم ثقته؛ ولهذا يقول الإمام أحمد بن حنبل: لا تبالِ ألا تسأل عن رجلٍ روى عنه مالك.
ومظاهرُ احتياطه في اختيار الرُّواة الثقاة، قوله: إنَّه أدرك سبعين راويًا، ممَّن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أمناء، حتى لو اؤتمن أحدهم على بيت مالك لكان أمينًا، يعني عنده عدالة، ولكنه لم يأخذ العلم منه، لأنَّهم ليسوا من أهل هذا الشأن. ويقول: وهذا الشأن –يعني: التَّحديث والفُتيا- يحتاج إلى رجل معه تقىً وورع، وصيانة وإتقان، وعلم وفهم، فيَعلمُ ما يخرُج من رأسه، وما يصلُ إليه غدًا. فأمَّا رجلٌ بلا إتقانٍ ولا معرفةٍ، فلا يُنتفع به، ولا هو حُجة ولا يؤخذ عنه.
وإذا كان المحدِّث يعتمد في كثير من الأحوال على كتابه، ويحفظه من أن يُحرِّف فيه أحد، حتى يُمكن أن يعتمدَ عليه في الرِّواية، فإنَّ الإمام مالكًا تشدَّد في هذا أيضًا، ورأى أنه لا بد في هذه الحالة من حفْظ الكتاب، حتى يتأكَّد أنَّ ما فيه هو حديثُه. فقد سُئل: أيؤخذ ممَّن لا يحفظ، ويأتي بكتب فيقول: قد سمعتها، وهو ثقة؟ قال: لا يؤخذ عنه، أخاف أن يُزاد في كتبه بالليل. وهذا احتمال ضعيف، ولكنَّه التَّشديد والحيطة والحذر في توثيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يدلُّ على رفعة درجة (الموطإ):
– أنَّ جُلّ ما فيه من الأحاديث المسندة هي عند البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، أو عند أحدهما؛ فهو يكاد يكونُ المصدرَ المُقدَّم عند الشَّيخيْن.
– والأمر الثاني: أنه قامت المقارنات بين الصحيحيْن والموطَّإ بغيةَ الوصول إلى أيِّ كتب السُّنَّة هو أصَحُّ.
أمّا بالنّسبة للمقارنة بين (الموطَّإ) و(صحيح البخاري):
– فالبعض يَخرج من هذه المقارنة بتقرير: أنَّ كتاب البخاري هو أوّل كتاب صحيح في السُّنة، وبالتالي فهو أصحُّ من الموطَّإ.
– والبعض الآخَر يقرِّر: أنَّ أوّل كتاب صحيح في السُّنَّة هو: الموطَّأ، نظرًا لصحة أحاديثه، وكونِه أسبقَ من صحيح البخاري زمنًا.
وممَّن ذهب إلى الرأي الثاني: ابنُ العربيِّ، حيث يقول: والموطَّأ هو الأوَّل واللُّباب، وعليه بناء الجميع كالقشيري. وممَّن ذهب إلى ذلك أيضًا: الحافظ مُغلطاي؛ حيث قال: أوّل من صنّف الصحيح: مالك.
وممَّن ذهب إلى الرأي الأول: الإمام النووي حيث قال: أوّل من صنّف في الصحيح المجرّد: البخاري. ويعني بالمجرّد: الاحترازُ عما اعتُرض عليه من أنَّ مالكًا أولُ من صنّف الصحيح، لأن مالكًا لم يفرد الصحيح، بل أدخل فيه المراسيل والمنقطعات والبلاغات.
ولكن يُعترض عليه بأنّ في كتاب البخاري المرسل والمنقطع والبلاغات مثل الموطَّإ. ويجاب عن ذلك بأنَّ مالكًا أدخل هذه في مُوَطَّئِه، وهي كذلك عنده مرسلة أو منقطعة أو بلاغات، ويحتجُّ هو بها على هذه الصورة؛ ولذلك أدخلها في موطّئِه. أما البخاريُّ -كما يقول ابن حجر، وكما عرفنا، فقد حذف إسناده عمدًا لقصد التخفيف إن كان ذكَره في موضع آخَر موصولًا، أو لقصد التَّنويع إن كان على غير شرطه ليُخرجه عن موضوع كتابه؛ وهو يذكر ذلك تنبيهًا، واستشهادًا، واستئناسًا، وتفسيرًا لبعض الآيات، وغير ذلك…
والحق أنه: ما ينبغي لنا أن نفضِّل أحد الكتابيْن العظيميْن على الآخَر، على هذا النحو، وأن ننسب إلى أحدهما الأولويّة المطلقة من حيث الصحة، مادامت الأحاديث فيهما صحيحة كما عرفنا.
والحق كذلك: أنَّ لكلٍّ منهما أولويةً نسبيَّة؛ فالموطأ أول كتاب نعرفه في الأحاديث الصحيحة، ولكنَّه كان في بداية تقعيد القواعد الَّتي توثَّق بها الأحاديث، فلم يكن من هدف صاحبه تطبيقُ هذه القواعد، وإن كانت توجهه؛ وإنما هدفه وضع كتاب يضمّ جملة من الأحاديث والفقه، ولهذا لم يحتوِِ إلا على القليل من الأحاديث.
على كل حال، الذي نريد أن نقوله: إنَّ في المقارنة بين الصَّحيحيْن والموطَّإ لهي اعتراف بأن أحاديث الموطَّإ المسندة وهي مصدر من مصادر البخاري ومسلم، هذه المقارنة تبيِّن لنا أن هذه الأحاديث التي في الموطَّإ تتسامى وتتوازى مع أحاديث الصَّحيحيْن، وكفى بالموطإ في ذلك منزلةً ودرجةً.