Top
Image Alt

موقعة عين التمر، والفرات، واستخلاف المثنى على جيش العراق، ومسير خالد للشام

  /  موقعة عين التمر، والفرات، واستخلاف المثنى على جيش العراق، ومسير خالد للشام

موقعة عين التمر، والفرات، واستخلاف المثنى على جيش العراق، ومسير خالد للشام

. موقعة “عين التمر”:

إن خالد بن الوليد لما فرغ من موقعة الأنبار -التي تحدثنا عنها- استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وسار إلى عين التمر، كانت قوات الفرس في هذه اللحظة تحت قيادة “مهران بن بهرام”، وكان معه جَمْع عظيم من قوات الفرس وكذلك من القوات العربية، والقوات العربية كانت تحت شخصية تسمى “عقة”، ومعه مجموعة من القبائل العربية يحاولون أن يقاتلوا مع الفرس ضد العرب. لما سمعوا بخالد ومجيء خالد، قالوا للفرس: دعونا نحن نقاتل العربَ -أي: نقاتل خالد بن الوليد وقواته- فنحن أعلم بقتال العرب منكم، صدقهم قائد الفرس، وقال لهم: أنتم أعلم بقتال العرب مِنَّا، واكتفى بهذا الكلام. وهؤلاء العرب معكم دونكم فقاتلوهم، وإن احتجتم إلينا أعنَّاكم عليهم.

هنا تدخل جند الفرس ولاموا قائدَهم، كيف تترك هؤلاء العرب لقتال خالد بن الوليد؟ وكيف لا نقف معهم؟ فقال لهم قائدهم: دعوني، فأنا لم أُرد إلا الخيرَ لكم والشر لهم. قال: والله هذا القتال الذي سوف ينشب، إما أن ينتصر فيه هؤلاء العرب الذين يناصروننا على خالد بن الوليد، وهذا معناه أنهم كفونا مئونة قتال خالد بن الوليد، فبها ونعمت، وإما أن ينهزموا، ففي هذه الأثناء سوف نتمكن نحن بعد ذلك من الانتصار على خالد؛ لأن هذه القوات التي سوف تقاتل خالدًا سوف تضعضع قوات خالد بن الوليد، وسوف تكسِر شوكتها على الأقل، فيسهل علينا بعد ذلك قتال خالد بن الوليد، والقضاء على خالد بن الوليد.

هكذا كانت خطة هذا القائد، ومن ثم شكره الفرس على خطته، وارتضوا هذه الخطة التي وضعها.

فلما بدأت المعركة وبدأت القوات العربية تصطف ضد خالد بن الوليد، نفاجأ بأن خالد بن الوليد يحمل على قائد القوات العربية وهو “عقة” هذا ويحتضنه، ويأخذه أسيرًا من بين قواته بهذه الصورة، إلى أي مدى هذا الموقف يظهر شجاعةَ خالد بن الوليد، وإقدامَ خالد بن الوليد، وإنه بالحق يعد سيفًا من سيوف الله المسلولة، ومن ثم حقق هذه الانتصارات العظيمة.

ترتب على ذلك أن انهزمت القوات العربية من غير قتال، فَرَّت مسرعةً لَمَّا رأت هذه الجسارة وهذا الإقدام، وهذه العظمة من خالد بن الوليد، ففروا منهزمين. لما بلغ الخبر “مهران” هرَبَ هو في جنده وتركوا الحصنَ، وتحصَّنَ المنهزمون داخل الحصن، وراسلوا خالد بن الوليد؛ حتى يطلبوا الأمان، فرفض خالد بن الوليد أن يعطيهم الأمان وخاصة القوات العربية منهم، وأصرَّ على أن ينزلوا على حكمه، ولم يتركهم إلا بعد أن نزلوا على حكمه، وقد حقق فيهم خالد بن الوليد الكثيرَ من الأحكام الشديدة نظير تصرفهم هذا، وخاصة هؤلاء العرب الذين وقفوا ضد أبناء جِلدتهم -إن صح التعبير- وضد توجه الإسلام والمسلمين، وضد توجه العرب في الجزيرة العربية.

2. موقعة الفرات:

إن هذه الموقعة وهذا المكان يعد في تُخوم الشام والعراق والجزيرة، وهي منطقة الفرات، هذا هو المكان جغرافيا. أما بالنسبة للزمان: فقد دارت هذه المعركة إبَّان شهر رمضان المعظم، وكانت غزوة من تلك الغزوات التي خاض غِمارَها المقاتلُ العظيمُ خالدُ بنُ الوليدِ، حميت الروم واستعانوا بِمَن يليهم من مسالح الفرس، فعاونوهم واجتمعت معهم أيضًا قبائل عربية، وهذا معناه: أن هذه المعركة تجمَّع فيها قوات من قوات الروم، وكذلك قوات من قوات الفرس، بالإضافة إلى بعض القبائل العربية التي كانت تنتصر للفرس أو تنتصر للروم ضد المسلمين وقوات المسلمين، ومعنى ذلك: أن الجيش كان عظيمًا، وكان من الممكن لهذا الجيش أن يحقق انتصارًا باهرًا على المسلمين.

لما بلغوا نهر الفرات قالوا لخالد بن الوليد: إما أن تعبر إلينا، وإما أن نعبر إليك، فقال خالد: اعبروا أنتم، فقالوا له: تنحَّ عن طريقنا حتى نعبرَ، قال: لا أفعلُ، ولكن اعبروا أسفلَ مِنَّا من النهر، وتحدث الروم مع الفرس، وقالوا لبعضهم البعض: احْتَسِبُوا مُلْكَكم، هذا رَجَلٌ يقاتِلُ عَنْ دِينٍ، ولَهُ عَقْلٌ وعِلْمٌ، لِيُنْصَرَنَّ وَلَنُخْذَلَنَّ!!.

على أية حال، عبروا أسفل من خالد، وعظم خالد في أعينهم، وهنا قالوا: لا بد أن نمتاز، بمعنى: أن يظهر كلُّ جماعة بعلامة تخصهم، حتى يظهر أبناء معسكر الروم: يتضح موقعهم ومكانهم، الفرس يتضح موقعهم ومكانهم، العرب يتضح موقعهم ومكانهم، بحيث يقاتل كل قوم وهم يعرفون أنهم سوف يُفضحون إن ولَّوْا، أو إن جاءت الهزيمة من ناحيتهم أو من قبلهم. ومن ثَم حاولت كل فرقة وكل جيش وكل جماعة أن تصبر على القتال، وأن تشد أزرها؛ حتى لا تؤتَى الجماعة من ناحيتها.

هكذا صنعت هذه القوات، ففعلوا ذلك واقتتلوا قتالًا عظيمًا، ولكن عناية الله ونصر الله كان من نصيب المسلمين، ومن ثم انهزمت هذه القوات، وفروا، وأمر خالد بن الوليد المسلمين ألا يرفعوا عنهم القتل، وأن يتبعوهم ويطلبوهم، ومن ثم قتلت منهم مقتلة عظيمة. ثم أذِنَ خالد بن الوليد بالرجوع إلى الحيرة مرة أخرى.

3. مسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام:

إن المسلمين لما رأوا مطاولة الروم بعثوا إلى الخليفة أبي بكر الصديق يطلبون منه العون، فأمر الصديق خالدَ بن الوليد بالتحول من جبهة العراق إلى جبهة الشام، وطلب منه أن يأخذ نصف الناس الموجودة معه في جبهة العراق ويستخلف على النصف الآخر المثنى بن حارثة الشيباني، وطلب منه: لا يأخذ مَن فيه نجدة إلا ويترك عند المثنى مثله، يعني: إن كان سيأخذ معه مائة قائد، أو مائة مقاتلٍ من الأقوياء الأشداء، لا بد أن يترك مثلهم مع المثنى بن حارثة الشيباني، وإذا فتح الله عليهم يرجع مرةً أخرى إلى جبهة العراق.

هنا استأثر خالد بن الوليد بأصحاب النبي صلى الله عليه  وسلم على المثنى، يعني: هو أخذ أكبر كمية من الصحابة معه في جيشه، وترك للمثنى أعدادًا بسيطة، ومَن ليس لهم صحبة مع رسول الله صلى الله عليه  وسلم وقسَّمَ الجندَ نصفين. هنا توقف المثنى، وقال: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة -يعني: الصحابة يُقسمون نصفين؛ نصف مع خالد بن الوليد، ونصف يبقى مع المثنى في العراق- أَمَّا وَأَنْ تعريني من صحابة رسول الله صلى الله عليه  وسلم كلهم، فهذا لا يكون، ولا أرضى إطلاقًا، وقال له: بالله ما أرجو النصرَ إلا بأصحاب النبي صلى الله عليه  وسلم لما رأى خالد ذلك تابع المثنى وأرضاه، وأخذ جزءًا مَن هذه القوات، وتحرك بها، واختُلف في عدد هذه القوات؛ من المؤرخين من يقول: ثمانمائة، ومنهم من يقول: ستمائة، ومنهم من يقول: خمسة آلاف، ومنهم من يقول: تسعة آلاف… إلى آخر هذه الأقوال.

على أية حال، سار خالد بن الوليد إلى قراقر وماء لكلب، أغار على أهلها، وأراد أن يسير عنهم مسرعًا إلى القوات الإسلامية على الجبهة الرومية، ولكن هذه المناطق كانت مليئةً بقواتٍ من الروم، وهو لا يريد أن يصطدم بالروم في تلك المرحلة، هدفه كله تنفيذ أمر الصديق بالوصول إلى القوات الإسلامية على جبهة الروم؛ حتى لا يتمكن الروم -والعياذ بالله- من تحقيق النصر على المسلمين، فأتى بدليل له يسمَّى رافع بن عميرة الطائي، وطلب منه هذا الطلب، وقال له: اجمَعْ لي طريقًا صعبًا موحشًا لا يسلكها الناس، ونعبر من خلالها؛ حتى أتمكن من الوصول إلى المسلمين في الروم، فقال له رافع: إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال، فوالله إن الراكب المفردَ يخاف على نفسه من هذه الطريق الصعبة الموحشة البعيدة، لكن خالدًا قال له: لا بد لي من ذلك؛ لأخرج من وراء جموع الروم؛ لئلا تحبسني هذه الجموع عن غِياث المسلمين، والوصول إلى الجبهة الإسلامية في بلاد الروم.

وهنا وضع خالد بن الوليد خطة عظيمة كانت تقوم على أن يعطش الإبلَ الكبيرةَ في السن، وثم يسقيها بعد ذلك مرةً بعد مرةٍ بحيث تمتلئ كروشها وبطونها بكميات ضخمة من المياه، ثم يصروا آذانَ الإبل، ويشدوا مشافرها حتى لا تشتر؛ لأنها لو اشترت سوف تستهلك هذه المياه.

ثم ركبوا من “قراقر”، وساروا يومًا وليلةً، وساروا بعد ذلك يشقون بطونَ هذه الإبل، ويخلطون المياه الموجودة بها بألبان الإبل، ويسقون الخيل؛ لأنه الذي يعنيهم في تلك المرحلة أن هذه الخيل هي عدتهم للانتقال، وإلا هلكوا في الصحراء.

فكان ولا بد أن يسقوا الخيل، فكانت هذه هي خطة خالد بن الوليد لسقي الخيل، وفعلوا ذلك أربعةَ أيام.

وهنا كانت المياه التي مع جنود المسلمين أنفسهم بدأت تقل، وتخوَّف خالد على أصحابه، فقال لرافع: ويحك يا رافع، ما عندك، فقال رافع لخالد: أدركت الري إن شاء الله، فلما دَنوا من منطقة المعاينة، قال الدليل للناس: انظروا، هل ترون شجرة عوسج كقعدة الرجل؟ فقالوا: ما نراها، قال الدليل: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، هلكتم وهلكتُ معكم، وكان أرمدَ -يعني: لا يرى رؤيا قويةً- فقال لهم: انظروا، ويحَكم، فنظروا فرأوها قد قطعت، وبقيت منها بقية، فلما رأوها كبروا، قال رافع: احفروا في أصل هذه الشجرة، فحفروا، فاستخرجوا عينًا، فشربوا منها حتى روي الناس.

حقيقة بهذه الصورة تمكَّن خالد بن الوليد من تحقيق خطته، ومن تحقيق هذا السفر المُوجع الصعب الطويل، ودون أن يتعرض جيشه وجنده إلى هذه المخاطر والمهالك المحققة من خلال هذا الطريق الصعب الموحش.

وحقيقةً، فإن كل أفعال خالد بن الوليد في هذه المعارك تلفت الأنظارَ، وتدل وتؤكد بالفعل على أنه كما سمَّاه رسول الله صلى الله عليه  وسلم “سيف من سيوف الله المسلولة، وُجهت إلى الشرك والمشركين؛ لقتالهم واستئصالهم”. وحقيقة فتح الله على خالد بن الوليد في تلك الخطة التي وضعها، حتى تمكن من أن يعبر بالمسلمين دون أن تقع في جنده أية خسائر، ودون أن يتعرض هو وجنده للمهالك.

error: النص محمي !!