موقع خيبر، وخطر يهودها وحقدهم على المسلمين، وانضمام يهود بني النضير إليهم
بعد خروج بني النضير من المدينة، تمركزوا في موقع خيبر، وكان يهودها من أشد اليهود بلاءً في القتال، وكانوا أكثر استعدادًا له؛ لهذه الحصون التي أقاموها في بلاد العرب، والتي كانت حصونًا عسكرية في تخطيط بنائها وإعدادها، وتزويدها بالماء والطعام والسلاح وبكل ما يُعين أهلها على الصمود أمام أيّ غازٍ أو محاصِرٍ لها.
وإذا كان المشركون في مكة يعادون الإسلام بهذا الحماس وهذه الصلابة، فإنهم كانوا جهالًا بأمر هذه الدعوة لا يعرفون حقها كمعرفة اليهود العلماء، فالمشركون جادلوا في دعوة الإسلام بغير علم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيد} [الحج: 3]؛ ولذلك كان لهؤلاء عذرهم على الرغم من هذه المعاداة، وكان أمر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر عليهم وألا يدعو عليهم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف: 35].
أما اليهود فرفضوا هذه الدعوة عن علم، فهم يعلمون بنبوته صلى الله عليه وسلم بما ورثوه من مواثيق العهود في كتبهم، ووصايا أنبيائهم، ووصايا أحبارهم، وبخاصة يهود الجزيرة، كذلك يهود خيبر، وفدك، وتيماء، ووادي القرى، ويهود الشام، كل أهل الكتاب يعرفون صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يحاربون الله ورسوله عن علم علموه من قبل ذلك، وعهد نبذوه جاءت به كتبهم، ونزلت به آيات القرآن.
وبعد أن طهر الله المدينة من رجس هؤلاء اليهود، فكان هناك ما هو أشد خطرًا؛ لأن المدينة كانت على مقربة من موقع عسكري محصن وقوي في بنائه، وفي استعداد أهله، وفيمن أوى إليه وعاش فيه من عتاة اليهود، وهو: خيبر، التي كانت إلى الشمال من المدينة، والتي أوى إليها يهود بني النضير بعد خروجهم من المدينة.
كان يهودُ خيبر أصحابُ هذه الحصون المنيعةِ القويةِ أعظمَ خطرًا من يهود المدينة؛ لأنهم كانوا يعيشون وحدهم، فأعطاهم هذا الأمر قوةً وخصوصيةً، وسرِّية لا يعرفها غيرهم؛ لتدبير أمورهم وما كانوا يخططون له. فكان لا بد من توجه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم،؛ لمواصلة الجهاد والكفاح ضد هذا العدو الخطر في هذا المكان الخطير.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب وبني قريظة -وقبل صلح الحديبية- وجّه سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر نفسها.
وكذلك بعث صلى الله عليه وسلم سرية عليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه في شعبان من نفس السنة -سنة ست من الهجرة- بعثه إلى بني سعد بن بكر بـ”فدك”، وهي منازل ليهود من يهود الجزيرة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم هذه السرية لأنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من بني سعد بن بكر بـ”فدك” يريدون أن يمدُّوا يهود خيبر، ولما توجه علي بهذه السرية انتهى إلى مكان يسمى “الغمج”، وهو ماء بين “خيبر” و”فدك”، فوجدوا به رجلًا عَرَفوا منه أنه رسول لبني سعد إلى اليهود في خيبر يعرض عليهم نصرَهم؛ على أن يجعلوا لبني سعد من تمرهم كما جعلوا لغيرهم، هنا نرى بأن يهود خيبر يَجمعون الناس ويُعطونهم مما يحتاجون من التمر وثمر خيبر ما يضمنون به ولاءهم وتوجههم إلى قتال المسلمين، ثم إن عليًّا عَرَفَ من الرجل مكانَ سرح بني سعد وأماكنهم -أماكن نزولهم- فتمكنوا من ذلك كله بعد أن دلَّهم هذا الرجل، وعادوا بهذه الغنيمة التي كانت حلالًا لهم وعقابًا لأولئك الذين أرادوا أن يعينوا خيبر من بني سعد بـ”فدك”.
على كل حال: فحينما كانت تتوجه رسل النبي صلى الله عليه وسلم لنشر دعوة الحق إلى خارج الجزيرة، عزم صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى خيبر التي كان منها العداء والخطر، وعلى هذا فإن يهود خيبر لم يكن قد ظهر منهم عداء سافر تجاه المسلمين إلا بعد أن وصل إليهم بنو النضير.