موقف أوربا من المسيحية
أنتقل إلى قضية أخرى أعتبرها نتيجة ومحصلة لقصة الصراع بين الفكر الاستشراقي وبين الفكر الإسلامي، التي تجسّدت في أكذوبة طرحوها على العقلية العربية في نهاية القرن العشرين، وللأسف الشديد لاكَتها بعض الأقلام في كثير من البلاد العربية. تتجسد هذه القضية في الدعوة القائلة بأنّ أوربا تقدّمت؛ لأنها نفَضت يدها من المسيحية، وأنّ الشرق تأخّر وسيظلّ متأخِّرًا ما دام متمسِّكًا بالإسلام. هذه القضية قضية ربط تقدّم الأمّة أو تأخّر الأمّة بتديّنِها أو عدم تديّنها تحتاج منا إلى وقفة نوضّح فيها الموقف لأنفسنا حتى نكون على بيِّنة من أمْرنا.
إنهم يقولون: إنَّ سبب تأخُّر الشرق الإسلامي ماديًّا وعلميًّا يرجع إلى تمسُّك العرب بالدِّين الإسلامي، وتنفيذ تعاليم الإسلام. ثم يوصوننا بقولهم: لا مناص للشعوب الإسلامية إذا أرادوا أن يتغلّبوا على التخلف الحضاري، إلا أن يتخلّصوا أولًا من تعاليم الإسلام، ومن لغة القرآن، وأن يُنَحُّوا الإسلام بعيدًا عن شئون حياتهم اليومية، حتى إذا ما حاولوا أن يمارسوه فيكون قضية شخصية يمارس الإنسان طقوسه، وشعائره الدينية داخل البيت، داخل المسجد، هذا إذا أراد، أمّا الوصية الأساسية: أن يتخلَّصوا من الإسلام تمامًا.
وينتقل المستشرقون من هذا إلى المقارنة بين تقدّم الغرب، وتأخُّر الشرق. ويطرحون على الشباب في كتابات كثيرة: هذه المقارنة الظالمة ليبيِّنوا فيها أنّ تقدّم الغرب كان سببه هو التخلص من المسيحية، والتمسك بمنطق العلم فقط، وليس أمام الشرق إلا أن يسْلك مسْلك الغرب؛ لأن الغرب هو النموذج الأفضل للتقدم ومواكبة علوم العصر. هذا تجسيد أو بلورة لأهداف المستشرقين. وإن شئت فقل: هي تمثِّل بؤرة الحوار أو بؤرة الصراع بين الذين حملوا القضية عن أكتاف المستشرقين وتولّوا هم الدعوة إليها، من العلمانيِّين الموجودين في عالمنا العربي وبين المسلمين.
لا يغيب عن حضراتكم: أنّ المستشرقين قد جنّدوا كثيرًا من حمَلة الأقلام، وسخّروهم للترويج لهذه الأكذوبة في البلاد الإسلامية. وأصبح يتولى عبء الدفاع عن هذه القضية بعضُ المحترفين للكتابة من المسلمين، نيابة أو وكلاء عن الاستعمار. فعَل ذلك بعضُ حمَلة الأقلام في مصر، في بيروت، في سوريا، في العراق، في تونس، في الجزائر، في المغرب، ولا أريد أن أسمِّيَ أسماءً.
كما شغلت هذه الدعوة أيضًا كثيرًا من وقت أجهزة الإعلام صحافة، وإذاعة، وتلفازًا، ولا أبالغ إذا قلت أيضًا: المسرح العربي شُغل بها، وعُقدت من أجلها الندوات، وأقيمت المؤتمرات والمناظرات، ووصل الأمر بهذه الدعوة إلى أن تسلّلت إلى بعض قاعات الدّرس الجامعي تحت ستار المصطلحات المضلِّلة: مصطلح “التنوير”، مصطلح “المعاصرة”، مصطلح “التقدم”. واستغل بعضهم الوضع المتردِّي للمسلمين في وقتنا الحاضر، ليلقّن الشباب -زورًا وبهتانًا: أن سبب هزائمنا المتكررة هو: التمسك بالإسلام. وتناسى هؤلاء وأولئك: أن للنصر أسبابه، وأن للنهضة أسبابها، وأن للهزيمة أسبابها، وللتأخر أيضًا أسبابه، وأنّ إقحام القضية الدينية في ذلك هو تضليل وافتراء وتعمِية، وإن شئت فقل: تزييف للواقع على عقول الشباب.
كنت أتمنّى أن يقارن هؤلاء -بدلًا من المقارنة بين تقدّم أوربا وتخلّف المسلمين، وربطها بالدين- أن يقارنوا بين نُظم الحُكم في الغرب ونظيرها في الشرق، ولماذا لم يقارنوا بين ما يتمتع به الغرب من حرية وديمقراطية وما هو واقع في بلاد الشرق من نُظم حُكم؟ لا أريد أن أصفها بكذا وكذا، وإنما هي أحد الأسباب التي أخّرت المسلمين.
إن أسباب التقدم تَكْمن في احترام الأسباب الضرورية لنهضة كل أمّة، وهي: العلم، والمنهج العلمي، واحترام العلماء الذين أفنَوا أعمارهم في الكشف عن الحقائق العلمية، والتنبيه إليها. ولعلَّ المفكِّرين المسلمين هم الذين قد نبّهوا إلى هذه القضية، فإننا نجد مفكرًا كابن خلدون نبّه إلى ذلك قديمًا، كما نبّه إليها المفكرون حديثًا، وهي قضية: أن السُّنن الكونية لا تتخلّف آثارها أبدًا.
ومن السُّنن الكونية: أنّ العلْم محايد لا يجامل أحدًا؛ فمَن أخَذ بمنطق العلْم جنى ثمرته، ومن لم يأخذ بمنطق العلْم يجْنِ النتيجة مَرارةً وتخلفًا. إن السُّنن الكونية لا تتخلف إذا ما وُجدت الأسباب، سواء تعلقت هذه السُّنن بالأفراد أم بالجماعات. فللنّصر أسبابه وللهزائم أسبابها، كما أنَّ لقيام الحضارة أسبابها ولانهيار الحضارات أيضًا أسبابها؛ وتلك سنن الله في كونه، لا فرقَ فيها بين مسلم وكافر. أُريد أن أوضّح أو أجسِّد هذه القضية لحضراتكم في مجموعة من الأسئلة:
هل حقيقة أنّ أوربا قد نفضَتْ يدها من قضايا الدِّين المسيحي ومن المسيحية، فلم تَعُد تعبأ بالدين ولا تحتفل بالمسيحية؟ هذا سؤال لا بدّ من الإجابة عليه؛ لأنه يطرح علينا وكأنها حقيقة علمية.
سؤال آخَر: هل حقيقة أنّ أوربا تقدمت؛ لأنها نفضت يدها من الدين؟ سؤالان مهمان، هل هي نفضت يدها من الدين أو لا؟
السؤال الثاني: هل هي تقدّمت؛ لأنها نفضت يدها من الدِّين؟
سؤال ثالث: وهل حقيقة أنّ سبب تأخّر الشرق العربي يرجع إلى تمسُّكه بالإسلام وأخذه به؟ وهل الشَّرق متمسِّك بالإسلام؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة ، أجد عندي سؤالًا لا بد من طرْحه:
هل الإسلام يتعارض مع الأخذ بأسباب التقدم وبأسباب النهضة حتى يُدَّعى أنَّه سبب تأخّرنا؟
وفي رأيي: أن وضع هذه القضية أمام حضراتكم بهذا الشكل يكون أكثر تحديدًا وموضوعية، بدلًا من أن نتلاعب بالألفاظ بوضْعها في غير موضعها الحقيقي، أو أن نلجأ إلى أسلوب الوعظ والإرشاد، وهو لا يفيد في مثل هذه المواقف. ولعلّ الإجابة عن السؤال الأخير -من وجهة نظري- تعطينا المفتاح الحقيقي للإجابة على بقية الأسئلة؛ لأن الأخذ بالمفاهيم الدينية الصحيحة لا يتعارض أبدًا مع الأخذ بأسباب التقدم. لماذا؟
لأن العلاقة بين الدين والتقدم ليست علاقة تناقض، ولا علاقة تضادّ حتى نظن أو نتوهم أن التمسك بالدين الصحيح هو سبب التأخر؛ وإنما هي علاقة اشتمال وتداخل. فكلّ ما هو دين صحيح لا بدّ وبالضرورة أن يكون فيه تقدم للبشرية، ولا بد أن يكون فيه أمن وأمان للبشرية. وكلمة “دين صحيح” هنا أنا أقصدها بالذات؛ لأن ليس كلّ ما يمارسه المسلمون هو دين صحيح، وحتى لا يُعَدّ من الدِّين ما ليس منه، وحتى لا يُرتكب باسم الدِّين ما لا يمتّ إلى الدِّين بسبب. كما أن التقدم الذي ينشده الإسلام بالذات لأهله هو: تقدّم لا يقتصر على تقدّم الأشياء في ذاتها -كما هو الحال في أوربا- فتكون الحضارة الناتجة عن هذا اللون من التقدم حضارة مادية، أو حضارة شيئية، لا تُعنى بصالح الأشياء ولا بصالح الإنسان قدْر عنايتها بالأشياء في ذاتها، ذلك أنّ هذا اللون من التحضّر المادي يوجّه كلّ اهتمامه إلى الوسائل، فيقْلبها إلى غايات، ويهمل الغايات الحقيقية التي يجب أن يتوجّه لخدمتها وتحصيلها كل همّ الإنسان أيًّا كانت ثقافته ودينه.
والأديان كلّها خلاف ذلك تمامًا؛ لأن الأديان تجعل الإنسان غاية، غاية في ذاته، غاية لكلّ تقدم، غاية لكل حضارة، وغاية لكل نهضة. ولا يمكن أن يكون الإنسان وسيلة لغيره أبدًا، وإلا انقلبت الموازين؛ بل لا بدّ أن يكون كلّ ما في هذا العالم مسخرًا لخدمة الإنسان. ومن هنا، نجد الأديان كلّها قد وجّهت عنايتها إلى الإنسان باعتباره غاية مقصودة، وفي الوقت نفسه لم تطلب من الإنسان أن يهمل الوسائل باعتبارها مرآةَ وجوده وعنوان تحضّره؛ وهذا هو الفارق الدقيق بين موقف الأديان من معنى التّحضّر، وموقف أولئك الذين يرفضون الدِّين بدعوى أنه يعوق التقدم. فإن أولئك يهتمّون بتقدم الأشياء في ذاتها على حساب التقدم الإنساني. فإنّ تقدّم الإنسان في ذاته شيء، وتقدّم الأشياء المحيطة بالإنسان شيء آخَر. وفي هذا خلْط للأوراق، وجعْل الوسائل غايات، والغايات وسائل؛ وهذا في حد ذاته يحمل معنى الإفلاس لأية حضارة، حتى وإن طال زمنها.
ولذلك نجد أن بعض المستشرقين أنفسهم قد بشّروا ببوادر الإفلاس لبعض الحضارات المادية المعاصرة، ويرَوْن أنها قد بدَت واضحة في كثير من دول أوربا؛ حيث ظهرت حركات التمرد التي تعبِّر عن روح الإفلاس وروح الشباب الثائر على كل شيء، مع أنه في الوقت نفسه يملك ويتمتّع بكل شيء؛ هذه قضية.
قضية أخرى: أن أوربا لم تتقدم؛ لأنها أهملت الدّين أو نفضت يدها من الدِّين، كما يُصدِّر إلينا المستشرقون هذه الأكذوبة لكي نتخلّص نحن من ديننا؛ بل تقدّمت أوربا؛ لأنها أخذت بأسباب التقدم، وملَكت ناصية العلْم. كما أن الشرق لم يتخلّف بسبب تمسّكه بدِينه ولا بسبب أخذْه بمفاهيمه، وإنما يرجع تأخّر الشرق؛ لأنه أهمل الأخذ بأسباب العلم، وأهمل الأخذ بأسباب التقدم وعوامل النهضة -التي حثه عليها الإسلام- ولم يسْعَ إليها. وهذا قانون عام ينطبق على المسلم وعلى غير المسلم؛ فمن يأخذ بأسباب التقدم يَصل ضرورة إلى النتائج إذا توفرت العوامل المساعدة.
ومن يهمل الأخذ بأسباب التقدم لا ينبغي أن يُمنِّي نفسه بالوصول إلى النتائج أبدًا؛ فالدِّين مفترًى عليه في هذه المقارنة. فليس إهمالُ الدِّين في أوربا كان سبب تقدّمها، وليس التمسك بالدين في بلاد العرب والمسلمين كان سببًا لتأخّرهم؛ بل ينبغي أن نتلمّس أسباب تقدم الغرب وأسباب تأخر الشرق بعيدًا كلّ البعد عن هذه الأكذوبة التي يُروِّج لها الاستشراق والاستعمار ومَن يدور في فلَكهم.
أودّ أن أُلقي معكم نظرة سريعة على موقف أوربا من المسيحية؛ لأننا سوف نجد أمامنا الآن ما يدعو إلى الدهشة والعجب؛ لأن موقف حكومات أوربا يختلف تمامًا عمّا يُشيعه المستشرقون عنها في العالم الإسلامي، من أنها تخلّصت من المسيحية. وسوف أضع أمامكم بعض المواقف لبعض دول أوربا على سبيل التمثيل وليس على سبيل الحصر؛ لنعرف هل هذه الدولة أو تلك تخلّصت من المسيحية، أم أن المسيحية تمثّل جوهر الثقافة الأوربية على امتداد تاريخها؟
وليكُن المثَل الأوّل من إنجلترا، فلا يشك أحد أنّ الشعب الإنجليزي -بمنطق العصر- شعب متقدّم، وشعب متحضر -بالإضافة إلى ذلك- فإننا نراه على المستوى الحكومي من أكثر الشعوب الأوربية تمسكًا وحفاظًا على دينه، ومعتقداته، وكنيسته، ومسيحيته. وسوف أضع أمامكم مثالًا واحدًا يبيِّن مدى تمسك الحكومة الإنجليزية بالمسيحية:
فلقد أثير في الحكومة أو بين أعضاء الحكومة في إنجلترا خلاف حول قضية دينية مائة في المائة، وهي: قضية تتصل بقصة العشاء الأخير الموجودة في العقيدة المسيحية، وأن الخبز والخمر الذي أوصى به المسيح في قصة العشاء الأخير، هل هو خبز حقيقي وخمر حقيقي حتى يتحوّل إلى جسد المسيح، أم أن العبارات الواردة في كلام المسيح عن هذه القضية كلام من باب الأسلوب المجازي، وليس الأسلوب الحقيقي.
هذه مسألة معروفة في الدِّين المسيحي. فالمحافظون في الحكومة الإنجليزية يروْن ويعتقدون أنه بمجرد أن يقف القسيس، ويقرأ بعض التراتيل على الخبز وعلى الخمر، ينقلب الخبز إلى جسد المسيح، وينقلب الخمر إلى دم المسيح، بناء على أن المسيح قد قال في العشاء الأخير السري لحواريِّيه: “إن هذا الخبز جسدي، وإن هذه الخمر دمي”، وقدّم لهم الخبز والخمر معًا.
أرجو أن تكونوا معي، وتفهموا هذه القصة جيدًا. فالكاثوليكيون يقولون: إنّه كلّما قدَّس الكاهن على الخبز والخمر، ودعا بالدُّعاء المعروف الذي قاله السيد المسيح، ينقلب الخبز إلى جسد المسيح، وينقلب الخمر إلى دم المسيح، حقيقة، وليس مجازًا؛ ولذلك كل من يأكل الخبز، ويشرب الخمر من يد الكاهن في هذه الليلة، فكأنه قد حلّت فيه بركة المسيح.
وأمّا الطرف الآخر -الذين هم اليساريون- فيرون: أنّ هذه عبارات مجازية. غير معقول أن ينقلب الخمر والخبز إلى جسد ودم المسيح حقيقة. فحدث خلاف بين الطرفيْن، واحتدم الخلاف بين اليسار واليمين حول هذه المشكلة. واستدلّ اليسار بما في كتاب الصلاة الذي يمثل عقيدة الكنيسة الإنجليكانية. وفي هذا الكتاب ما يدل على: أن كلام المسيح ليس إلا رمزًا فقط، وتعبيرًا مجازيًّا فقط، وليس حقيقة ولا عبارة حقيقية؛ وبالتالي لا يجوز تعديله. اعترض اليمين على النص المقدّس، وطلبوا تعديله وحذفه من كتاب الصلاة. وقف أمامهم الطرف الآخَر. ومن هنا دخلت هذه المشكلة -وهي مشكلة دينية مائة في المائة- إلى مجلس العموم البريطاني. وانتقلت منه إلى مجلس اللوردات. وشكلت الحكومة البريطانية لذلك مجلسًا مؤلفًا من كبار المطارنة لِحَسْم هذه المشكلة. ولكن هذا المجلس المؤلّف انقسم على نفسه أيضًا، ولم يتّفق على رأي واحد، إلا بعد نقاش طويل ترتّب عليه أن وزير الداخلية الإنجليزي في هذا الوقت قدّم استقالته احتجاجًا على تعديل النص.
هذه قضية دينيّة أم قضية سياسية؟ واضح أنها قضية دينية مائة في المائة، ونوقشت في أعلى مستويات المجالس النيابية والتشريعية في إنجلترا؛ فهل يُفهم من هذا: أن إنجلترا نفضت يدها من المسيحية، ومن الدين المسيحي؟ هذا بعد عرض القضية على مجلس اللوردات، وبعد مناقشات طويلة وعنيفة قرر المجلس تنفيذ قرار الأباطرة الذي كان يرأسه حينذاك رئيس أساقفة “كانتربري” أكبر أساقفة إنجلترا. ولما طلبوا تعديل كتاب الصلاة من موافقة مجلس العموم البريطاني، دخلت القضية مرة ثانية إلى مجلس العموم، ووقف وزير الداخلية البريطاني معترضًا على قرار التعديل في الكتاب المقدس، وقال: “إن كتاب الصلاة هو دستور كنيستنا في إنجلترا، ولا يمكن تعديله”.
هذا موقف إنجلترا من المسيحية، ومن قضية واحدة فقط في الدين المسيحي.
مثال آخر: لقد وضعتْ بلجيكا في برنامج حكومتها الرسمي العمل على تنصير زنوج مستعمراتها في الكونغو، وتمّ لها ما أرادت؛ فأصبح أكثر نصف سكان الكونغو يدينون بالمسيحية بعد أن كانوا يعيشون حياة البداوة، وذلك بتبني بلجيكا نشر المنصرين في هذه البلاد لتحويلهم إلى النصرانية. هذا كلام معروف.
إيطاليا بعد أن غلب عليها حُكم الفاشية أعادت إلى المدارس الحكومية التعليم الديني الخاص الكاثوليكي، وأقامت الصلبان في المدارس، وعدّلت قوانين البلاد تعديلًا موافقًا لمبادئ الكنيسة، وأعلنت أنها دولة مسيحية كاثوليكية، وأرسلت القساوسة والمنصرين إلى مستعمراتها، وزادت على غيرها من دول الاستعمار النصراني: أنها أخذت أطفال المسلمين قهرًا من حجور أمهاتهم في ليبيا لكي تنصِّرهم على الكاثوليكية في إيطاليا. أيضًا هذا كلام معروف، وموثّق، وله وثائق في خزائن السفارات لهذه الدول. هذا شيء قد سجله التاريخ.
جميع الدول البروتستانتية بلا استثناء في أوربا تعلن أنها دول مسيحية، وأن ثقافتها ثقافة إنجيلية. وكثيرًا ما أعلنت هذه الدول في برامج حكومتها أمام المجالس النيابية: أنها دول ملتزمة بالثقافة الإنجيلية، وبتعاليم الإنجيل.
ولا يخفى على أحد ممّن يقرأ تاريخ العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني: أن وزير معارف هولندا افتتح مؤتمر المستشرقين في “لايدن” سنة 1931م بخطاب صرّح فيه بأن هولندا لم تذهب إلى الشرق لأجل التجارة، وإنما ذهبت إلى الشرق لنشر الدين النصراني. كما صرّح وزير خارجية ألمانيا في كثير من خُطبه أمام الرخستاج: أن ثقافة ألمانيا قائمة على الدِّين المسيحي. بل أكثر من هذا: هتلر المعروف بدمويّته صرّح في فبراير سنة 1933م حين تولّى الحزب القومي الاشتراكي الحُكم في ألمانيا، ماذا فعل؟ وضع برنامجًا لوزارته صدّق عليه جميع وزراء ألمانيا المشتركين في الوزارة، بدأ هتلر هذا البرنامج بقوله: “إن أول واجب ستقوم به الحكومة القومية الألمانية هو: العمل لأجْل الوحدة الروحية، وإحياء العقيدة النصرانية في الأمّة، وإحياء التقاليد الجيدة الماضية”.
وهناك كتاب يسمّى: (الأديان في ألمانيا) ينبغي أن يقرأه أولئك الذين يتزعّمون عن جهل دعوى فصْل الدين عن الدولة، ليعلموا ما للدِّين من قوة في هذه البلاد، وخاصة في ألمانيا، وكيف يقترن التعليم الديني بالتعليم المدني في ممارسته؟
مثال آخَر -معذرة أيها الإخوة. لنعرف الفَرْق بين ما يقال لنا، والواقع الذي تعيشه أوربا: المصلح المسيحي وهو (كلفين) كان أساس برنامجه الإصلاحي هذه العبارة جعلها شعارًا لدولته: “أن الدولة المسيحية رأسها هو: الله، ولأجل أن يكون الإنسان تابعًا لهذه الدولة ينبغي له عدم الحيْدة عن خطّة الإنجيل، والمواظبة على إقامة الشعائر المسيحية، وأن يتناول القربان أربع مرات في العام؛ ذلك أنّ الاشتراك في المائدة الإلهية هو عبادة لله الذي هو رأس الدولة المسيحية”.
ولا تنسوا أن فرنسا قد أعلنت في أكثر من مرة: أنها حامية المذهب الكاثوليكي في العالم. هذه بعض نماذج لمواقف دول أوربا من الديانة المسيحية، فهل بعد هذا يصحّ أن يقول أحد: إن أوربا تخلّصت من المسيحية، وتخلّصُ أوربا من المسيحية كان سببًا في تقدمها؟
أردتُ من هذا فقط: أن أبيِّن ما في الأقوال التي تُطرح علينا من قِبَل المستشرقين من تزوير وتضليل وتدليس. لعل هذا هو آخر درس يتعلق بقضية الاستشراق، وموقف المستشرقين من الفكر الإسلامي. وأودّ أن أضع أمامكم أهمّ الكتب التي تحدثت عن هذه القضية لتعودوا إليها إذا شئتم:
- كتاب (تيارات فكرية معاصرة) لمحدّثكم: محمد السيد الجليند، أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ورئيس قسم الفلسفة بها سابقًا.
- كتاب (الاستشراق والتبشير) لمحدّثكم أيضًا: محمد السيد الجليند.
- كتاب (الفكر الإسلامي وصِلته بالاستعمار الحديث) للدكتور محمد البهي -رحمه الله.
- كتاب (أجنحة المكر الثلاثة) للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني.
وهناك كتب كثيرة أكثر تفصيلًا، ولكن أهمية هذه الكتب: أنها موجزة ومحدّدة، وتنهج نهجًا أكاديميًّا علميًّا.