موقف التّابعين من كتابة الحديث
لقد تلقَّى التّابعون علومَهم عن الصّحابة، وخالطوهم وعرفوا أحوالهم، وحملوا عنهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما اختلف الصحابة في أمر كتابة الحديث، وانقسموا ثلاثة أقسام: قِسْم منهم يرى المنْع، وقِسْم يرى الإباحة، وقِسْم ثالث روي عنه الأمْران.
كذلك فإنّ مِن الطبيعيّ أيضًا أن ينسحب هذا التقسيم إلى الجِيل الذي بعْده: جيل التّابعين… فإنّ الأسباب التي حملت الصحابة الكرام على الكراهة، هي نفسها التي حمَلت التابعين عليها؛ فيقف الجميع موقفًا واحدًا، ويكرهون الكتابة ما دامت أسباب الكراهة قائمة. ويُجمعون على الكتابة وجوازها، عند زوال تلك الأسباب؛ بل إنّ أكثرهم يحضّ على التدوين ويشجّع عليه. ولا نستغرب أن نرى خبريْن عن تابعيّ: أحدهما يَمنع الكتابة، والآخر يُبيحها. ولا نعجب مِن كثرة الأخبار التي تدلّ على الكراهة في مُختلَف أجيال التّابعين -كبارهم وأواسطهم وصغارهم-والأخبار التي تدل على الإباحة، ما دمنا نوجِّه كلّ مجموعة مِن هذه الأخبار وجْهة تلائم الأسباب التي أدّت إليها.
وقد ذكر الخطيب في (قيد العلْم) اثنيْ عشر تابعيًّا رُوي عنهم الكراهة، منهم:
- عبيدة بن عمرو السَّلْماني. قال إبراهيم بن يزيد: كنت أكتب عند عبيدة، فقال: “لا تخلدنّ عني كتابًا”. وكان يمنع مِن الكتابة عنه وقراءة الكُتب.
- القاسم بن محمد بن أبي بكر، كرِه كتابة الحديث.
- إبراهيم بن يزيد النخعي، ذكر له الخطيب أربعَ روايات يكْره فيها الكتابة.
- عمرو بن دينار، قيل له: “إنّ سفيان يكتب”، فاضطجع وبكَى، وقال: “أُحَرِّج على مَن يكتب عنِّي!”. قال سفيان: “وما كتبتُ عنه شيئًا، كنّا نحفظ”.
- الضحاك بن مزاحم الهلالي، قال: “لا تتّخذوا للحديث كراريس ككراريس المصاحف!”.
- أبو العالية الرِّياحي. فقد بعث بكر بن عبد الله إلى أبي العالية أنْ يكتب له حديثًا. قال: فجاء أبو العالية، فقال: “مرحبًا بك!” فقال: “لو كنت أكتب لأحد لكتبتُه لك”؛ فحدّثه حتى حفظه.
- أبو إدريس الخوْلاني. قال إدريس: “قال لي أبي: أتكتب شيئًا ممّا تسمع مني؟ فقلت: نعم، قال: فائتني به، قال: فأتيته به، فخَرَّقه”.
ومنهم: جابر بن يزيد، وإبراهيم بن يزيد التيمي، والشعبي، وغيرهم…
سبب امتناعهم؛ إن ذلك يعود إلى عدّة أسباب، هي:
- كراهية البعض تدوين آرائهم وفتاويهم مع الحديث، كما روي عن سعيد بن المسيِّب.
- الخشية مِن بقاء الكتاب بعد وفاتهم وقد دوَّنوا فيه آراءهم، فيأخذ به مَن بَعْدهم، ولعلّهم قد أخطئوا فيه، كما سبق عن عبيدة.
- مضاهاة كتاب الله المكتوب في المصاحف، حتى لا يظنّ الجاهل أنّ الجميع قرآن؛ وقد سبق عن الضحاك.
- الاعتماد على الكتاب وإهمال الحفْظ، كما يُشعر به ما جاء عن أبي العالية. وقد قال إبراهيم النخعي: “إنه قلّما كتب إنسان كتابًا إلاّ اتّكل عليه”.
اعتناء بعض التّابعين بتدوين الحديث، وأمْرُهم تلاميذهم بذلك:
ذكر الدكتور الأعظمي في كتابه (دراسات في الحديث النبوي) أكثر من مائة وخمسين تابعيًّا، كلّهم كانوا يرَوْن التّدوين، ويأمرون به. منهم:
- أبو سلمة بن عبد الرحمن. قال ابن إسحاق: رأيت أبا سلمة بن عبد الرحمن يأخذ بِيَد الصّبيِّ من الكُتّاب، فيذهب به إلى البيت، فيُملي عليه الحديث، يَكتُب له.
- سالم بن أبي الجَعْد. قال منصور: “قلت لإبراهيم النّخعي: ما لِسالم بن أبي الجعد أتمَّ حديثًا منك؟ قال: لأنه كان يكتب”.
- سعيد بن جبير. قال: “كنّا إذا اختلفنا بالكوفة في شيء، كتبتُه عندي حتّى ألقَى ابن عمر، فأسأله عنه”.
- عامر بن شُرَاحيل الشعبي، قال لطُلاّبه: “اكتبوا ما سمعتم منّي، ولو في جدار”.