موقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، إسلام كعب بن زهير
. موقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة:
بعد فتح مكة، أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من العطايا للمؤلفة قلوبهم، والذين كانوا وشيكي عهد بإسلام، وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن عطاءه الكثير إنما كان لمناسبة هذا الأمر، وأنه صلى الله عليه وسلم ترك أُناسًا لم يعطهم لثقته في إيمانهم بالله عز وجل.
وكان للأنصار موقفًا من هذا العطاء الذين لم ينلهم شيء منه،يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه مبينًا هذا الموقف: “لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء- وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة -أي: الكلام- حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ثم إن سعد بن عبادة دخل عليه وقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: يا رسول الله، ما أنا إلا رجلًا من قومي. فقال صلى الله عليه وسلم: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)).
فجمع سعد الأنصار، وجاء رجال من المهاجرين، فدخلوا معهم، ثم جاء آخرون فردهم -وذلك لحكمة أرادها النبي صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن دخل من المهاجرين، ورده غيرهم- فلما اجتمعوا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، واجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم)) قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثم قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟)) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل. قال صلى الله عليه وسلم -اعترافًا منه صلى الله عليه وسلم بدورهم-: ((أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم، ولصدقتم، آتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا)) واللعاعة هي الأمر اليسير ((تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ والذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، ثم دعا لهم ولأبنائهم، فقال: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)).
فأثَّرت هذه الكلمات الصادقة في نفوسهم، فبكوا حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا، ثم انصرفوا وتفرقوا.
وهكذا تم الأمر فيما تعلق بغزوة حنين والطائف، وما تم من قسم الفيء على النحو الذي رأينا ورضي كل أناس، حتى مَنْ لم ينل شيئًا من هذا العطاء، ثم إنه صلى الله عليه وسلم -بعد هذا كله- خرج في عمرة من الجعرانة، وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنة.
ثم إنه لما فرغ صلى الله عليه وسلم من هذه العمرة انصرف راجعًا إلى المدينة، بعد أن استخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين، ويعلمهم القرآن، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لمعاذ اختيارًا صائبًا، حتى يفقه أهل مكة وهو الفقيه ويعلمهم.
وهكذا رد الله على أهل مكة ذلك الفضل الذي قام به رجل منهم يعلم الأنصار ويفقههم في الدين -أول الأمر- وهو مصعب بن عمير رضي الله عنه في إسلام أهل المدينة وتعليمهم الدين والقرآن، ثم هذا رجل من أهل المدينة يأتي ليعلم أهل مكة الدين والقرآن، وكان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد هذا الجهاد كله في بقية ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة، وإن كان ابن هشام يحدد هذا الرجوع بأنه كان لستِّ ليالٍ بقين من ذي القعدة.
ولما دخل موسم الحج كان من حكمته صلى الله عليه وسلم أن يدع العرب يحجون على ما كان عليه أمرهم؛ ولذلك حج بالناس عتاب بن أسيد، وحج العرب على ما كان عليه أمرهم من قبل.
2. إسلام كعب بن زهير:
على أنه من الأحداث التي كانت خلال هذه الفترة إسلام كعب بن زهير، وهو من الشعراء المجيدين، وابن زهير بن أبي سلمى الشاعر المعروف، وكان أخوه بجير قد أسلم، فلما علم كعب بإسلام أخيه قال شعرًا، أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه من أجله.
فلما علم أخوه بذلك بعث إليه ينصحه بأن: يأتي تائبًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل من جاءه تائبًا مسلمًا، فجاء كعب بن زهير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخل المدينة، ونزل على رجل من جهينة صديق له، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمسجد بعد أن صلى الصبح، وقال له: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبًا مسلمًا فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) فقال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، ثم إنه أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته التي مدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فيها المهاجرين بكل خير، ولم يشر إلى الأنصار فيها، ذلك أن رجلًا من الأنصار لما عرف به -وهو يصافح النبي صلى الله عليه وسلم قال: مرني يا رسول الله أضرب عنق هذا الكافر فكان لهذا القول أثره في نفس كعب فلم يذكر الأنصار في قصيدته.
ولذلك فإنه بعد أن أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته التي تسمى بانت سعاد، وذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدح عظيم يليق بانتساب هذا الرجل إلى بيت الشعر العريق -بيت زهير بن أبي سلمى- وكانت القصيدة تسجل ما كان فيه كعب من الخوف ومن إرجاف الناس به، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
نبئت أن رسول الله أوعدني | * | والعفو عند رسول الله مأمول |
وكان مما قاله فيه صلى الله عليه وسلم:
إن الرسول لنور يستضاء به | * | مهند من سيوف الله مسلول |
ولما انتهى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا ذكرت الأنصار بخير، فإنهم لذلك أهل))، فأنشد كعب هذه القصيدة في مدح الأنصار، والتي منها:
من سره كرم الحياة فلا يزل | * | في مقنبٍ من صالح الأنصار |
ورثوا المكارم كابرًا عن كابر | إن الخيار هم بنو الأخيار |
وإلى غير ذلك مما استرضى به الأنصار في قصيدته بإيعاز منه صلى الله عليه وسلم.
ومما لا شك فيه أن دخول أمثال هؤلاء الشعراء المجيدين في الإسلام إنما هو كسب عظيم لهذا الدين.