Top
Image Alt

موقف القرآن الكريم من العمل العقلي والرد على اتهامات المستشرقين

  /  موقف القرآن الكريم من العمل العقلي والرد على اتهامات المستشرقين

موقف القرآن الكريم من العمل العقلي والرد على اتهامات المستشرقين

أنتقل بعد ذلك إلى ما يدّعيه المستشرقون من اتّهام الفلسفة الإسلامية والعقلية العربية بأنها عقلية جزئية، واتّهامهم للقرآن بأنه يعوق العمل العقلي عن التفكير. وهذه من أخطر القضايا التي أثارها المستشرقون، وللأسف الشديد يردّدها كثير ممّن يحملون الأقلام في عالمنا العربي وعالمنا الإسلامي. وقد أُرجئ الحديث عن العقلية العربية والفلسفة الإسلامية إلى ما بعد مناقشة هذه الدعوى الكاذبة: أنّ القرآن يعوق العقل عن التفكير. هذه القضية ينبغي أن نفرِّق فيها بين أمريْن: بين الواقع المعاصر الذي يَعيشه المسلم الآن ويعيشه العالم الإسلامي: هل حقيقة أنّ القرآن الكريم يعوق العقل عن النظر وعن التفكير والتأمّل؟ أو إن شئت فقل: يعوق العقل عن التفلسف؟

أقول: ينبغي أن نفرِّق هنا بين أمريْن، بين واقع المسلمين، بين واقع العالَم الإسلامي المعاصر الآن، وبين ما جاء في القرآن الكريم من قضايا عقلية وأوامر إلهية تحفز العقل وتحثّه حثًّا على النظر والتأمل والتفكر. وسوف أستعرض هذا بشيء من التفصيل الآن لأهمِّيته من جانب، ولخطورة هذه الدعوى من جانب آخر، ولأن المستشرقين يربطون تخلّف المسلمين الآن بتمسكهم بالقرآن الكريم.

تعالوا نستقرئ واقع القرآن الكريم وموقفَه من التأمّل والعمل العقلي. اقرءوا معي: أوّل آية نزلت من القرآن الكريم في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ}(1) {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}  [العلق: 1، 2]. إذا رجعنا أو إذا عُدنا إلى كتب التفسير، نجد جمهرة كبيرة من علماء التفسير. فبعضهم يقول: {اقْرَأْ}  هنا لا مفعول لها، لا تحتاج لمفعول. وبعضهم يقول: إن المفعول محذوف. والجمهور الأعظم يستدلّ بهذه الآية على: أنّ القرآن نزل ليحثّ الإنسان على التعلّم، ويقصدون بالتعلّم هنا: التعلّم الأبجدي: القراءة والكتابة. ولكن أنا ألفت النظر إلى أمْر آخَر: {اقْرَأْ}  هنا: فعْل، ونحن نعلم: أنّ اللغة العربية الفعل فيها إمّا متعدٍّ يحتاج إلى مفعول، وإمّا لازم لا يحتاج إلى مفعول. والفعل {اقْرَأْ}  الذي معنا الآن من نوع الأفعال المتعدِّية التي تحتاج إلى مفعول، ومفعول الفعل هنا هو عبارة: { الّذِي خَلَقَ }  : اسم الموصول وصِلته.

يريد الحق -تبارك وتعالى: أن يبيّن لنا في أوّل آية خاطبَت الإنسان، أوّل آية نزلت من القرآن الكريم، أن يلفت نظرنا إلى القراءة العقلية، ولا أقول القراءة البصرية، أو أنّ هذه القراءة تتعلّق بمقروء، وهو هنا: الذي خلق المخلوقات، الكون وما فيه. فاسم الصلة -الاسم الموصول: { الّذِي}  ، وجملة الصلة كلّها تؤوّل أو تفسّر بأن المقروء هنا هو: المخلوق. عليك -أيها المسلم- أن تُعمل عقلك في المخلوقات { الّذِي خَلَقَ }  ، لكن بشرط أن تكون هذه القراءة باسم الله، وليست باسم الشيطان، ولا باسم الإلحاد، ولا باسم العلْم، ولا باسم العقل؛ وإنما يجب أن تكون باسم الله الخالق. فكأنّ القرآن يلفت نظرنا في أوّل آية إلى أنْ نقرأ الكون وما فيه، وأن تكون قراءتنا للكون الهدف منها: ربْط المخلوق بالخالق، ربْط الكون بخالقه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ}  ، اقرأ ماذا؟ الَّذِي خَلَقَ: المخلوقات. فكأنّ القراءة هنا قراءة عقلية. وهذا لا ينفي أن تكون إحدى المعاني المرادة أيضًا: قراءة بصرية، لكن لنا أن نتجوّل في القرآن الكريم لنرى كيف أشار القرآن، وكيف أمَر القرآن العقل الإنساني بقراءة هذا الكون وما فيه.

القرآن نزل في بيئة مكية كما نعلم، وبيئة بدويّة كما نعلم، ولكي يُعَلّم القرآن العقل الإنساني أن يتأمل هذا الكون وما فيه نجد القرآن المكي يلفت نظر الإنسان إلى البيئة المحيطة به من سماء، وأرض، وجبال، ووديان، وأنهار، وأشجار، وإبل، و … و … باعتبار أنّ هذه هي العناصر المكوّنة للبيئة، ويتأمل فيها من خلقها؟ نقرأ في سورة “الغاشية” قوله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}(17) {وَإِلَى السّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ}(18) {وَإِلَىَ الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}(19) {وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}(20) {فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ} [الغاشية: 17 – 21].

تأمّل معي هذه الآيات، وهذه الأسئلة العقلية المطروحة في هذه الآيات: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْل}ِ ؟ ليس النظر هنا أيضًا نظرًا بصريًّا؛ لأن السؤال عن {كَيْفَ} ؟، والسؤال عن كيفية خلْق الشيء غير السؤال عن وجود الشيء. الإبل موجودة، الأرض موجودة، السماء موجودة، لكن السؤال هنا ليس عن وجود هذه الأشياء، وإنما هو عن كيفية وجود هذه الأشياء، وهذه هي وظائف العلم؛ لأن العلم البشري هو الذي يفسر لنا كيف تقع الظاهرة، كيف توجد الظاهرة، لكن لا يفسر لنا لماذا توجد الظاهرة؟ ولا لماذا يوجد المخلوق؟ هذه وظيفة العلم: الإجابة على السؤال” كيف؟ وليس الإجابة على السؤال: لماذا؟ ولذلك تجدون هذه الآيات تطرح هذه المجموعة من الأسئلة.

تأملوا هذه الآيات جيدًا: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْل}؟ {وَإِلَى السّمَآءِ} ؟. {وَإِلَى الْجِبَالِ } ؟ {وَإِلَى الأرْضِ } ؟ السؤال عن ماذا؟ {كَيْفَ خُلِقَتْ}؟ أم هي موجودة، أم غير موجودة؟ أم لماذا وجدت؟ لا السؤال عن {كَيْفَ خُلِقَتْ}؟ لم يسرح أو لم يبتعد القرآن عن البيئة المحيطة بالإنسان البدوي، وإنما لفت نظره إلى ما تحت يديه وتحت سمعه وبصره من أشياء هذا الكون، عليه أن يتأمَّل فيها ويتساءل: {كَيْفَ خُلِقَتْ} ؟

إذا انتقلنا إلى مستوى آخَر من مستويات النظر العقلي الذي أمَر به القرآن الكريم، نقرأ قوله تعالى:{قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20]. {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ؟ والسؤال هنا أيضًا عن: كيف؟ وليس عن: هل وُجد المخلوق أم لم يوجد؟ وإنما {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}؟ ولعلّ هذه أكبر مشكلة واجهت العقل الفلسفي قديمًا وحديثًا، وستظل إحدى محارات العقول:{سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}  . ويمكن ورثنا عن الفلسفة اليونانية، وعن مؤرِّخي الحضارة الفرعونية القديمة اجتهاداتهم العقلية، هل بدْء الخلق كان من الذّرّة من عنصر واحد؟ العالم ينتمي إلى الوحدة؟ أم ينتمي إلى الكثرة التي هي: الماء، والهواء، والنار، والتراب: الأسطقسَّات الأربعة؟ بحثَها القدماء ويبحثها العلماء المعاصرون. لم يبتعد القرآن بالعقل الإنساني عن الكون الذي يعيشه؛ بل أمَره أن يتأمل في هذا الكون، في وجود الإنسان، في وجود العالَم من سمائه إلى أرضه، ويتساءل: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ؟

مستوى آخَر من مستويات الأمر الإلهي للعقل الإنساني: أن يتأمَّل ويُعمل نفسه، ويُحسن توظيف أدواته في هذا الكون: نقرأ قوله تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ }[يونس: 101]. تأمّل معي منطوق هذه الآية لو سمحت! الأمر هنا ليس أمرًا بالنظر إلى السماء، وليس أمرًا بالنظر إلى الأرض، وإنما هو أمر بالنظر إلى ما في السموات وما في الأرض. و”في” في اللغة العربية تفيد معنى الظرفية. فكأن هذا الأمر يتطلب منّا أن نخترق حجب السماوات لنعلم ماذا في داخلها، ونخترق حجب الأرض لنعلم ماذا في باطنها. هذا أمر إلهي للعقل الإنساني: أن يخترق حجب الكون كلّه ليعلمَ ماذا فيه.

إنَّ القرآن الكريم حفز العقل حفزًا، وأمره أمرًا إلهيًّا بأن يجتاز ويقتحم مجاهل هذا الكون من سمائه إلى أرضه: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ }ه  [يونس: 101].

وفي مستوى آخَر من مستويات الأمر القرآني، نجد القرآن الكريم يلفت نظر العقل إلى قضية مهمة جدًّا تتعلّق بعمل العقل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}(27) {وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 27، 28].

توقّفْ معي قليلًا لنتأمّل في هذه الآية، ونتعرف على أنواع الكائنات التي ذكَرتْها وطلبتْ من العقل البشري أن يتعامل معها: {أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27]: هذا علْم النبات. {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} : علم الجيولوجيا. {وَغَرَابِيبُ سُودٌ}(27) {وَمِنَ النّاسِ}: علْم الإنسان، والحيوان. علم الحيوان، والنبات: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} {وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}  [فاطر: 28].

ثم تأمل نهاية هذه الآية التي جاءت في صيغة بلاغية، يُسمِّيها علماء اللغة: صفةَ قَصْر أو أسلوب قصْر، بمعنى: أنَّ خشية الله تعالى قاصرةٌ على العلماء، وبقدر ما يزداد العالمُ علمًا بصنعة الله في كونه، يزداد خشية لله سبحانه وتعالى

وهذه الآية هي الوحيدة في القرآن الكريم التي جسَّدت وقصَرت معنى الخشية الحقيقية لله سبحانه وتعالى على المشتغلين بهذه الألوان من العلوم الكونية: علم النبات والحشرات، وعلم الحيوان، وعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء، وعلم الفلَك، وعلم الطب. هذه المجموعة العظيمة من العلوم هي التي تفتح باب العقل للتَّعرُّف على الخالق سبحانه وتعالى ولذلك أجدني مضطرًّا هنا إلى أن أعود بك إلى أوّل آية نزلت من القرآن الكريم، لتقرأ فيها قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ} ماذا أقرأ؟ {الّذِي خَلَقَ}. اقرأ الكون وما فيه، اقرأ مخلوقات الله. لماذا؟ لأنّ من وظائف الإنسان في هذا الكون: تعمير الكون؛ {هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}  [هود: 61]. “الألِف” و”السين” و”التاء” في: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} تفيد معنى الطلب، بمعنى: أنّه طلَب منكم عمارة الكون؛ وعمارة الكون لا تتم إلا بعد اكتشاف قوانين هذا الكون، واكتشاف قوانين هذا الكون لا تتم للإنسان إلا بعد أن يتعرّف بعقله وبصيرته وبصره معًا على أنواع هذه الموجودات، ويتعرّف على العلاقات القائمة بينها، كيف يوظِّفها؟ كيف يُسخِّرها لصالحه؟ لأن الكون في نهاية المطاف مسخَّر لخدمة الإنسان. وهنا نقطة على جانب كبير من الأهمية: أنّ هذه المجموعة من العلوم لا تَعرف الانحياز أو المجاملة، بل هي علوم محايِدة، مَن اكتشف قوانينها استفاد من عطائها ولو كان كافرًا، ومن لم يكتشف قوانينها لم يَجْن ثمرتَها ولم يستفد من عطائها، حتى ولو كان من أتقى أتقياء الله. وهذه سُنّة الله في كونه. العلم محايد.

والقرآن الكريم أمَر أتباعه بأن يتعلّموا هذه المجموعة من العلوم؛ لأنها مفتاح خشية الله من جانب، ولأنها قاطرة التّقدّم والنهضة والحضارة وعمارة الكون من جانب آخَر. فمن تعرّف على هذه العلوم جنَى ثمرتها نهضة وحضارة وتقدمًا، ومن لم يتعرّف عليها ولم يتعامل بها لم يَجْن شيئًا من ثمرتها. وهذا قانون الله في أرضه.

أنتقل بعد ذلك إلى مستوى آخَر؛ لكي نُعرِّف شبابنا كيف أنّ القرآن الكريم يأمر العقل بالعمل، بل يُروِّضه على كيفية التعامل، وكيفية التفكير، التفكير المنهجي بعيدًا عن المؤثرات الخارجية، بعيدًا عن التأثر بالأهواء والأتباع والآباء. اقرءوا معي قوله تعالى: {قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ}  [سـبأ: 46]. اقرأ الآية مرة ثانية وثالثة ورابعة لتعرف كيف يعلِّم القرآن العقل أن يعمل بعيدًا عن المؤثرات: {قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ}؛ لأنّ العقل الجماعي أو عمل العقل في مجموعة من البشر، في مجموعة من الناس، لا بدّ أن يكون متأثرًا بأهواء الجماعة، لا بد أن يكون متأثرًا بمذهب الجماعة السياسي أو الاجتماعي أو الفلسفي، أو مقلِّدًا للآباء، فإذا فكر في مجموعةٍ لا يستطيع العقل أن يتخلّص من المؤثِّرات الخارجية. ولذلك تجد القرآن الكريم يأمرُنا أن نبتعد عن المؤثرات الخارجية ثم نتفكَّر؛ لكي يكون تفكيرنا حرًّا بعيدًا عن المؤثرات.

وهذه الآية نزلت حين اتَّهم مشركو مكة الرسول صلى الله عليه  وسلم بالجنون أو السحر والكهانة، فقال لهم القرآن الكريم: يا مشركي مكة، أنتم حين تعودون إلى بيوتكم فردًا فردًا، تؤمنون بأن محمدًا هو الصادق الأمين، وحين تجتمعون معًا في نادٍ أو في مجتمع من مجتمعاتكم، تتّهمون محمدًا صلى الله عليه  وسلم بالجنون، وما هكذا يكون التفكير؛ بل إن التفكير العلمي الصحيح: أن تلجئوا إلى بحث هذه القضايا بعيدًا عن المؤثِّرات، وتسألوا أنفسكم: لماذا إذا عُدتم إلى بيوتكم وفكّرتم فرادى تؤمنون بصدق محمد، لكن إذا اجتمعتم في ناديكم تقولون: إنّ محمدًا مجنون؟ ولذلك تجد الآية الكريمة تقول: {قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنّةٍ}. بهذا النفي القاطع: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنّةٍ}، وهذه هي البداية الصحيحة لعمل العقل.

هل بعد هذا العرض لهذه النماذج من الآيات القرآنية يصحّ للمستشرق أن يدَّعي كذبًا وبهتانًا أنَّ القرآن يعوق العقل عن العمل، أو يدعو العقل إلى الخمول والكسل؟! إنْ هي إلا نفَثات الحقد والكراهية لهذا الدِّين وللإسلام وللقرآن الكريم.

تعالَ معي نتعرَّف على بقية المنهج القرآني في تعليم العقل كيف يفكِّر.

بعد أن طرح القرآنُ هذه الأسئلة على العقل، لم يقف به عند حدود الكون المادية المحسوسة، بل طلب من العقل بعد أن يُحسن توظيف أدواته في عالم الشهادة، في قوانين هذا الكون، في اكتشافها. طلب منه أن يتساءل حول هذا الكون، ويطرح على نفسه هذه المجموعة من الأسئلة التي حيّرت الفلاسفة قديمًا وحديثًا، هذه الأسئلة هي: مِن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ هذه هي قضايا الفلسفة أيها الإخوة. هذه هي قضايا العمل الفلسفي من يوم أن ظهرت هذه الكلمة وإلى الآن: البحث في الكون من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟

اقرأ معي كيف عبّر القرآن الكريم عن هذه القضايا، لكن بمنهج آخَر يختلف عن المنهج الفلسفي أو المنهج المادي. بعد أن أمَر القرآن العقل بالنظر في هذا الكون من سمائه إلى أرضه، طرح عليه هذه المجموعة من الأسئلة{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}(35) {أَمْ خَلَقُواْ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ}[الطور: 35، 36].

هذه الأسئلة الثلاثة يحمل كلّ سؤال منها فرضًا عقليًّا يمكن أن يتوسّم فيه العقل إجابة على السؤال المطروح: مَن خلَق؟ مَن خلَق هذا الكون؟ ماذا وراء هذا الكون؟ هل وُجد مصادفة؟ هل أوجدَتْه الطبيعة كما يقول المادِّيّون؟ أم أنّ وراءه خالقًا؟

للأسف الشديد، العقل الحسي أو المذهب الحسي أو المدرسة الحسية في المعرفة، قصَرت بحثها على العالَم الحسي، على الظواهر الحسية في هذا الكون. وحين حاولت أن تجتاز العالَم الحسي إلى البحث عمّا وراءه، عزلت نفسها عن النصوص الدينية فضلّت وأضلّتْ. فمنهم من قال: إن العالَم موجود بالصدفة. ومنهم من قال: إن العالَم مادّة أولًا ومادّة ثانيًا وثالثًا، وليس وراء المادّة من شيء. لكن القرآن الكريم طلب من العقل أن يتأمّل في هذا العالَم الحسي، ويستخرج منه بعض القوانين المعرفية الضرورية اليقينية التي يَبني عليها ما غاب عن الحواس من قضايا معرفية.

ومن الأمور التي وصل إليها العقل من خلال نظره في هذا العالم الحسي: أنّ كلّ فعْل لا بد له من فاعل. هذه قضية بدَهيّة عقلية ضرورية. استصحب هذه القضية في حديثه وفي بحثه عن خالق هذا الكون من خلال طرْح الأسئلة الثلاثة التي وجدناها في القرآن الكريم: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} ؟ يعني: من غير خالِق. { أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }  لأنفسهم؟ هل وُجد أحد ادّعى أنه خلَق نفسه؟ { أَمْ خَلَقُواْ}؟ هل وُجد من ادّعى أنه خلَق السموات والأرض؟ هذه بدايات طبيعية للعمل العقلي المنظّم، وما على العقل إلا أن يناقش هذه الفروض الثلاثة فرضًا فرضًا، بعيدًا عن المؤثِّرات الخارجية ليصل في النهاية إلى أنّ القائلين بالصّدفة قولُهم فاسد باطل عقلًا، وأنّ القائلين بالمادّة قولهم فاسد وباطل عقلًا، وأن القائلين بالطبيعة قولهم فاسد وباطل عقلًا.

ومناقشةُ هذه القضايا الثلاث أو هذه المحاور الثلاثة تحتاج إلى شيء من التفصيل. يمكن أن أشير إلى بعض المراجع التي عالجتْها خوفًا من الإطالة في مثل هذه الأمور. وإذا ما بطلتْ، لم يبقَ أمام العقل إلا أن يؤمنَ بالحقائق الدِّينية: أن لهذا الكون خالقًا وهو: الله سبحانه وتعالى 

هذه بعضُ الآيات القرآنية التي نزلتْ لتعلِّم العقل كيف يفكِّر، من خلال منهج برهانيّ يقينيّ لا يَقبل الشك، بعيدًا عن المؤثِّرات الخارجية. ومن هنا لا يصحّ لمدّعٍ أن يفتريَ على القرآن هذه الفرية الكاذبة ويقول: إن القرآن يعوق العقل عن العمل وعن التفكير الحُر.

بل أكثر من هذا أيضًا: نحن نعلم أنّ عالَم الكون العالَم الحسي له قوانينه، عالم الطبيعة له قوانينه التي تحكُمه، كذلك أيضًا عالَم الاجتماع البشري، يَلفت القرآن نظرنا ونظر العقل إلى أن يتأمل في مسيرة التاريخ البشري، ليكتشف مِن سيرة الإنسان عوامل وقوانين قيام الحضارات وانهيار الحضارات، ليكتشف قوانين قيام الممالك واستمرارها، وعوامل انهيارها وفسادها وانحلالها. قضية الاعتبار بالسُّنن الكونية في عالَم البشر، في عالم الاجتماع البشري. نجد القرآن الكريم يأمر العقل في أكثر من آية، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}[الروم: 9]، ويعيب القرآن ويَنعَي القرآن الكريم على الإنسان الذي عطّل عقله وسمعَه وبصَره عن العمل، وعن حُسن توظيف هذه الأدوات، يقول تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} [الأعراف: 179].

بل أكثر من هذا، نجد القرآن الكريم يَلفت نظر الإنسان إلى ضرورة حُسن توظيف أدوات المعرفة التي زوّده الله بها، فإنّ الإنسان قد يملك هذه الأدوات ولا يُحسن توظيفها قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]. اقرأ هذه الآية -يا أخي- مرّة ومرّة ومرّة، لتعرف مطلوب الآية: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، كأنّ النظر شيء ووظيفة النظر شيء آخَر. فالإنسان يملك حاسّة البصر وينظر ببصره إلى الأشياء، لكنه لا يعتبر ولا يَعي الدرس من الأشياء التي يتعامل معها. هكذا كان القرآن الكريم داعيًا للعقل الإنساني إلى العمل، آمرًا للعقل الإنساني أن يُحسن أدوات وملَكات المعرفة التي زوّده الله بها؛ فإذا ما قصّر الإنسان ولم يُحسن توظيف هذه الأدوات، إذا أساء الإنسان توظيفها هل يُعاب على القرآن ذلك؟ هل يُعاب على القرآن الكريم ويُتّهم القرآن بأنه سبب إعاقة العقل؟ أم أن نعود باللّوم على الإنسان الذي قصّر وأساء توظيف هذه الأدوات؟ تلك قضية على جانب كبير من الأهمية، ألفت النظر إليها؛ حتى نُبيِّن فساد قول المستشرقين وبطلان اتّهامهم للقرآن بأنه يعوق العقل عن العمل.

error: النص محمي !!