موقف الماسونية من الأديان عمومًا
بذلك نكون قد عرفنا فكرة موجزة عن تأسيس التنظيم الماسوني، عن طبقات التنظيم الماسوني، عن درجات التنظيم الماسوني، عن الرموز المستعملة في المحافل الماسونيَّة، عن أهمية الدرجة (33) التي يمنح الطالبُ بعدها لقب: “الأستاذ الأعظم”، وهو يُساوي ما يمكن أن يطلق عليه: الداعية للمذهب، أو الداعية للفكر الماسوني، الذي هو آخِر نظام الطبقة الأولى من الماسونية الرمزية.
هذا بشيء من الإيجاز الجانب التاريخي لهذا التنظيم اليهودي المحيِّر، الذي هو أشبه بالأخطبوط أو خيط العنكبوت، الذي لا تَعرف أين أوّله وأين آخره؟ أين مبتداه وأين منتهاه؟ وأنتقل بعد ذلك إلى المبادئ والشعارات والمصادر والمواقف لهذا التنظيم اليهودي الماسوني.
إن الاجتماع الأوّل الذي تأسّس في سنة 43 ميلادية -كما يُجمِع على ذلك كثيرٌ من المؤرِّخين- يُنبئ ويوضّح في أسباب نشأة هذا التنظيم: أنه نشأ مناهضًا للديانة المسيحية الجديدة، عدوًّا لها، محاولًا القضاء عليها؛ لأنه أخَذ في اعتباره أنّ هذا الدِّين الجديد اليسوعي إنما جاء ليقضي على أمجاد اليهود، ويقضي على الهيكل. ولذلك يتردَّد في جميع الاجتماعات، على ألْسنة الأعضاء الذين ينضمّون إلى المحافل الماسونية القَسَمُ بالهيكل، ومناصرة الهيكل، والعمل على إعادة الهيكل، والعداء الصريح لليسوعية، وبالتالي العداء الصريح للإسلام وللقرآن. وهذا يتطلب منّا أن نأخذ بعض المواقف للماسونية العالمية لنبيِّن موقفها من العالم ككلّ، من الأديان، من الحضارة، من الإنسان.
ولنبدأ بموقفها من الأديان عمومًا.
إنها بدأت بالعداء للدِّين المسيحي، لكنها على فترات من التاريخ استطاعت أن تستقطب بعض أتباع الديانة المسيحية؛ ليكونوا أعضاء فيها ومناصرين لمهمّتها في الانتصار للقضايا اليهودية والصهيونية على حساب ما سواها من الأديان الأخرى. وفي العصر الحديث وجدْنا أن المحافل الماسونية، وإن شئت فقل: المحافل الصهيونية؛ لأننا لا نجد فارقًا كبيرًا بين أهداف الصهيونية في هذا الموقف وأهداف الماسونية، أعني: الموقف من الأديان، نجد أن المحافل، خاصة محفل المشرق الأعظم الذي تأسّس في فرنسا، أخَذ على عاتقه أن يُلهم ويوجّه المحافل الأخرى وجهة خاصة بموقف معيّن من الأديان عمومًا، ومن الإسلام بصفة خاصة.
ولذلك وجدنا أن محفل المشرق الأعظم خرج على دستور ربّما كان قد اتّفقت عليه المحافل الماسونية فيما مضى، وهو: ألا يبدءوا مواجهتهم للأعضاء الجدد بالحديث عن مناهضة الأديان أو محاربة الأديان. وأيضًا السياسة، يعنون: أنه لا شأن لنا لا بالأديان ولا بالسياسة، إلى أن يستوثقوا من أن العضو يمكن أن يتحمّل الأسرار الخفية المتعلِّقة برفض الأديان ومحاربة الأديان والسياسة أو لا. فإذا ما أمنوا جانبه بدءوا يُبدون إليه موقفهم الحقيقي من الأديان؛ ولذلك وجدنا أنّ هذا المحفل الذي هو محفل المشرق الأعظم بدءوا يصرّحون على لسان بعضهم: بأنّ البنائين الأحرار أو الماسون هم أعداء للكنيسة، وأعداء للكثلكة، وأن كنيسة الماسون هي كنيسة الإلحاد، والرفض لكل دين. بل صرّحت مجلة “المشرق الأعظم” في سنة 1885م بما يأتي. تلاحظون أنني في حديثي عن الماسونية وعن الصهيونية ألجأ إلى تلاوة المواثيق، لكي أؤكّد ما قلتُه؛ حتى لا يكون كلامنا مرسلًا؛ لأنَّ هذا على جانب كبير من الأهمية.
جاء في مجلة “المشرق الأعظم” ما يلي: “نحن البنّاءون (البنَّائين) الأحرار، يجب أن نقصد إلى هدم الكثلكة هدمًا تامًّا”. ولا يقتصر المشرق الأعظم على مناصبة الكثلكة العِداء، بل هاجم كلَّ المذاهب والنِّحل الدينية، وكلَّ ضروب الإيمان الروحي. وقد قرّر هذا المشرق الأعظم في سنة 49 اعتناقَ فكرة المهندس الأعظم للكون، وخلود الروح؛ حيث صرّح بأن قاعدة البناء الحر هي: الاعتقاد في الله، وفي خلود الروح، وتضامن الإنسانية. هذا التحول في الموقف كان بمثابة الخديعة؛ حتى يلتقطوا أعضاء معيّنين كانوا يُشيرون إليها بالبنان. ولذلك لم يمضِ زمن طويل حتى حلَّ محلَّ هذا النص نصوص أخرى، وتخلَّصوا من هذه العبارة كلمة: “الله” و”خلود الروح”، وصرَّحوا بأن قاعدة البناء الحر هي: حرية الاعتقاد التامة، وتضامن الإنسانية. وصرّحوا بما يسمّى بالدِّين الطبيعي الذي ينبغي أن يحلّ فيه الإنسان محلّ الله. ووجدنا أن صحيفة “المشرق الأعظم” خطَت خطوة خطيرة جدًّا؛ حيث جاء فيها: أن المهندس الأعظم الذي هو الله -حسب تعبيرهم- ليس إلا خيالًا وحديثَ خرافة خلقها الإنسان بعقله ليقنع نفسه بما لا يقتنع به. وصرَّحت المحافل الماسونية بإلقاء المطاعن الحادّة في الدين، أيّ دين، ولا بد من نقضه وهدمه، والسخرية من مبادئه وشعائره ونظرياته.
وعلى سبيل المثال: وجدنا أنّ أحد الماسون في سنة 1902م ألقى في أحد المحافل خطابًا حماسيًّا، شدّد فيه النكير على النصرانية عمومًا، وعلى الكثلكة بصفة خاصة.
وجاء في هذا الخطاب ما يلي: “لقد استمر الظفر الخليلي عشرين قرنًا، غير أنه أخذ يحتضر بدوْره. واليوم يعلن ذلك الصوت الخفيّ الذي أعلن ذات يوم موت بانٍ من البنائين الأحرار، يُعلن موت ذلك الإله الدّعيّ الذي وعَد المؤمنين بعهد عدالة وسلام. ولقد استمرت الخرافة -كلمة “الخرافة” هنا المقصود بها: الإيمان، أو الاعتقاد بالغيبيات- عهدًا طويلًا، ولكنّ الإله الكاذب يختفي بدوْره، ويذهب ليغيض في غبار القرون الخوالي إلى جانب آلهة الهند ومصر واليونان وروما.
هذا نصٌّ يُنبئ عن موقف الماسونية المعاصرة من الأديان عمومًا، ومن المذهب الكاثوليكي خصوصًا، وبالقطع أن موقفهم من الإسلام هو أشدُّ وأنكى من ذلك. لكنني فقط أردتُ أن أضع أمام حضراتكم: أن الماسونية ليس موقفها هو الرفض للإسلام فقط، وإنما هو الرفض للأديان عمومًا، غير أنه للأسف الشديد نجد أن كثيرًا من المسيحيين لم يتنبّهوا إلى هذا، وظنوا أن الموقف هو موقف يهوديّة وإسلام، أو ماسونية وإسلام، ونسوا أن ينقِّبوا في النصوص التي تضطلع بها الدوريات التي تصدر عن المحافل الماسونية، وهي كلّها تفوح بالكراهية والرفض المطلق للأديان عمومًا، وفي مقدّمتها الدين المسيحي؛ لأن أصل النشأة للماسونية هو محاربة الديانة المسيحية.
هذا فيما يخصّ موقف الماسونية من الأديان.
وهذه بعض النصوص أيضًا التي تؤكِّد أنّ كلامنا عن أنّ الماسونية هي في صميمها حرب معلنة ضد الأديان:
جاء في كتاب (أسرار الماسونية) هذه النصوص: سوف نقوِّي حرية الضمير في الأفراد بكلّ ما أوتينا من قوّة، وسوف نُعلنها حربًا شعواء على العدو الحقيقي للبشرية الذي هو: الدِّين. وهكذا سوف ننتصر على جميع العقائد الباطلة: المسيحية، والإسلام، وعلى أنصارهما.
ويجب ألا ننسى بأننا نحن الماسونيِّين أعداء الأديان، وعلينا ألا نألو جهدًا في القضاء على مظاهرها. إن ذُخْر البشرية الذي لا يُقدَّر بثمن هو: عدم الاعتراف بأيّة حقيقة مقدّسة، وأن الحقائق تنبثق من نظرة الإنسان ذاته إلى ذاته؛ فعليه لا بد من المحافظة على هذه الحقيقة، وأن جمال الإلحاد هو في هذا، في إنكار الأديان، وأنّ هذا لهو أساس إلحاد من الواجب علينا تنشئة أخلاقٍ تُضاهي الأخلاق الدينية في قوّتها، وأن نلقِّنها للناشئة. إننا لا نكتفي بالانتصار على المتديِّنين، ولا على معابدهم؛ وإنما غايتنا الأساسية هي: إبادتُهم من الوجود. إنّ النضال ضد الأديان لا يبلغ نهايته إلا بعد فصل الدِّين عن الدَّولة؛ وسوف تحلُّ الماسونية محلّ الأديان، وإنّ محافل الماسونية سوف تقوم مقام الكنيسة، ومقام المسجد، ومقام المعبد”.