موقف متقدمي الباطنية من تفسير القرآن الكريم
موقف الباطنية المتقدمين من القرآن الكريم:
المراد بالمتقدمين يعني الذين أسسوا مذهب الباطنية، ومن قاربهم في الزمن، هذا هو المقصود بالمتقدمين.
يقول الدكتور محمد حسين الذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون) ص240 يقول: علمت أن الغرض الأول الذي تقوم عليه دعوة الباطنية وتتركز فيه هو العمل على هدم الشرائع عمومًا، وشريعة الإسلام على الخصوص، فكان لزامًا عليهم، وقد قاموا يحاربون الإسلام أن يعملوا معاول الهدم في ركن الإسلام المكين، وهو القرآن الكريم، وقد استعملوا معاولهم كلها، فلم يجدوا معولًا أصلب ولا أقوى على تنفيذ غرضهم من معول التأويل، والميل بالآيات القرآنية إلى غير ما أراد الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا، ننظر إلى تأويلات الباطنية القدامى، على هذه القاعدة السابقة، وهو التأويل والميل بالآيات القرآنية إلى غير ما أراد الله، على هذه القاعدة جرى القوم في شرحهم لكتاب الله تعالى.
فكان من تأويلاتهم ما يأتي: الوضوء ليس هو الوضوء الذي علمه لنا النبي صلى الله عليه وسلم وإنما المقصود عندهم بالوضوء موالاة الإمام، والمقصود بالتيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].
والغسل تأويله عندهم تجديد العهد ممن أفشى سرًّا من أسرارهم من غير قصد وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى الاحتلام، والزكاة عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين، وتأويل الكعبة النبي، وتأويل الباب علي، والصفا هو النبي، والمروة علي، والميقات الإيناس، والتلبية إجابة الدعوة، والطواف بالبيت سبعًا موالاة الأئمة السبعة، والجنة راحة الأبدان من التكاليف، والنار مشقتها بمزاولة التكاليف.
أيضًا يقول الذهبي: كذلك تجد الباطنية يرفضون المعجزات، ولا يعترفون بها للرسل، وينكرون نزول ملائكة من السماء بالوحي من الله، بل وزادوا على ذلك فأنكروا أن يكون في السماء ملك وفي الأرض شيطان، وأنكروا آدم والدجال ويأجوج ومأجوج، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام آيات من القرآن تكذّب دعواهم هذه، فتخلصوا منها بمبدئهم الذي ساروا عليه في تفسيرهم، وهو إنكار الظاهر والأخذ بالباطن.
وأولوا هذه الآيات بما يتفق ومذهبهم، فتأولوا الملائكة على دعاتهم الذين يدعون إلى بدعتهم، وتأولوا الشياطين على مخالفيهم، وتأولوا كل ما جاء في القرآن من معجزات الأنبياء -عليهم السلام- فقالوا: الطوفان معناه طوفان العلم أغرق به المتمسكون بالسنة، والسفينة حرزه الذي تحصن به من استجاب لدعوته، ونار إبراهيم عبارة عن غضب النمرود عليه، ليست النار حقيقة، وذبح إسحاق معناه أخذ العهد عليه، وعصى موسى حجته التي تلقفت ما كانوا يفعلونه من الشبه لا لخشب، وانفلاق البحر افتراق علم موسى فيهم عن أقسام، والبحر هو العلم، والغمام الذي أظلهم معناه الإمام الذي نصبه موسى لإرشادهم وإفاضة العلم عليهم.
والجراد والقمل والضفادع هي سؤالات موسى والتزاماته التي سلطت عليهم، والمن والسلوى علم نزل من السماء لداع من الدعاة هو المراد بالسلوى، وتسبيح الجبال معناه تسبيح رجال شداد في الدين راسخين في اليقين، والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان، والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا بالأعمال الشاقة.
وعيسى له أب من حيث الظاهر، وإنما أراد بالأب المنفي الإمام إذ لم يكن له إمام، بل استفاد العلم من الله بغير واسطة، وزعموا -لعنهم الله- أن أباه يوسف النجار، وكلامه في المهد إطلاعه في مهد القالب قبل التخلص منه على ما يطلع عليه غيره بعد الوفاة والخلاص من القالب، إحياء الموتى من عيسى معناه الإحياء بحياة العلم عن موت الجهل بالباطل، إبراؤه الأعمى يعني عمى الضلالة، والأبرص عن برص الكفر ببصيرة الحق المبين.
وإبليس وآدم عبارة عن أبي بكر وعلي؛ إذ أمر أبو بكر بالسجود لعلي والطاعة له فأبى واستكبر، والدجال أبو بكر، وكان أعور؛ إذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن، ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر.
ويواصل الدكتور محمد حسين الذهبي كلامه، ويقول: بل بالغوا فقالوا: إن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل؛ طلبًا للزعامة بدعوى النبوة والإمامة.
هذا، وإن مما زعمته الباطنية أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين} [الحجر: 99] وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
كذلك استحل الباطنية نكاح البنات والأخوات وجميع المحارم بحجة أن الأخ أحق بأخته، والأب أولى بابنته، وهكذا يقول الذهبي: ولست أدري على أي وجه تأولوا النساء التي حرمت ذلك ومنعته منعًا باتًّا.
ويقول القيرواني في رسالته التي أرسلها إلى سليمان بن الحسن: وينبغي أن تحيط علمًا بمخاريق الأنبياء ومناقضتهم في أقوالهم كعيسى بن مريم قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى، ثم رفعها بتحريم الأحد بدلًا من السبت، وأباح العمل في السبت، وأبدل قبله موسى بخلاف جهتها، وبذلك قتلته اليهود لما اختلفت كلمته، ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: الروح من أمر ربي، لما لم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعوذة، ولما لم يجد المُحق في زمانه عنده برهانًا قال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين} ، وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]؛ لأنه كان صاحب الزمان في وقته.
ثم قال في آخر هذه الرسالة: وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعي العقل ثم يكون له أخت أو بنت حسناء، وليس له زوجة في حسنها فيحرمها على نفسه، وينكحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي. ما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات، وخوفهم بغائب لا يعقل، وهو الإله الذي يزعمونه، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدًا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلًا، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته، واستباح بذلك أموالهم بقوله: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فكان أمره معهم نقدًا، وأمرهم معه نسيئة، وكان استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج.
ثم قال لسليمان بن الحسن في هذه الرسالة: وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئًا لكم ما نلتم من الراحة عن أمرهم.
ومن جملة تأويلاتهم الباطلة التي يتوصلون بها إلى هواهم النفسي ومأربهم الشخصي أنهم بعد أن يلقوا على المدعو ما يشككونه به، وتتطلع إلى معرفة من جهتهم نفسه، يقولون له: لا نظهره إلا بتقديم خير عليه، فيطلبون مائة وتسعة عشر درهمًا من السبيكة الخالصة، فيقولون هذا تأويل قوله تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} فالحاء والسين والنون والألف إذا جمع عددها بحساب الجمل يكون مبلغه مائة وتسعة عشر.
يقول الذهبي أيضًا: ومن الذي قال: إن القرآن يخضع في تفسيره وفهم معانيه إلى حساب الجمل؟ اللهم إن هذا لا يصدر إلا عن يخرف أو زنديق يريد أن يضل الناس ويحتال على سلب أموالهم بدعوى يدعيها على كتاب الله.
يقول الذهبي: كذلك نجد الباطنية يحرصون على نفي وجود الإله الحق والنبي المرسل محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليتوصلوا بذلك إلى رفع التكاليف، فنراهم يقولون للمبتدئ: إن الله خلق الناس واختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فيستحسن المبتدئ هذا الكلام، ثم يقول له: أتدري من محمد؟ فيقول: نعم محمد رسول الله خرج من مكة وادعى النبوة، وأظهر الرسالة، وعرض المعجزة. فيقول له: ليس هذا الذي تقول إلا كقول هؤلاء الحمير، يعنون به المؤمنين من أهل الإسلام، إنما محمد أنت، فيستعيد السامع ويقول: لست أنا محمدًا فيقول له: الله تعالى وصفه في هذا القرآن: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} [التوبة: 128]، وهؤلاء الحمير يقولون: من مكة، فيقول له هذا الشخص: على أي معنى تقول: أنا محمد؟ فيقول: خلقك وصورك خلقة محمد، فالرأس بمنزلة الميم، واليدان بمنزلة الحاء، والسرة بمنزلة الميم، والرجلان بمنزلة الدال، وكذلك أنت عليّ أيضًا، عينك هي العين، والألف اللام هي، والفم الياء.
يقول الذهبي في تفسيره، ج2 ص245: ولأجل أن يوهمه أيضًا بأنه لا إله موجود على الحقيقة، وما جاء في القرآن من ذلك فظواهر غير مرادة، نجده يقول للمبتدئ: إن المراد بإثبات الذات يرجع إلى نفسك، ويؤولون عليه قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت} [قريش: 3] ويقولون: الرب هو الروح، والبيت هو البدن.
ولقد وصل الغلو ببعض الباطنية إلى ادعاء ألوهية محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأنه هو الذي كلم موسى بقوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12].
وفي هذا يروي لنا البغدادي صاحب (الفرق بين الفرق) قصة رجل دخل في دعوة باطنية، ثم وفقه الله لتركها والرجوع لرشده، يحكي هذا الرجل قصته للبغدادي فيقول: إنهم لما وثقوا بإيمانه قالوا له: إن المسلمين بالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة كانوا أصحاب نواميس ومخاريق، أحبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بالكلام عن المعجزات، واستعبدوهم بشرائعهم.
قال الحاكي للبغدادي: ثم ناقض الذي كشف لي هذا السر بأن قال: ينبغي أن تعلم أن محمد بن إسماعيل بن جعفر هو الذي نادى موسى بن عمران من هذه الشجرة فقال له: إني أنا ربك فاخلع نعليك، ثم قال: فقلت: سخنت عينك، تدعوني إلى الكفر برب قديم خالق للعالم، ثم تدعوني مع ذلك إلى الإقرار بربوبية إنسان مخلوق وتزعم أنه كان قبل ولادته إلهًا مرسلًا لموسى، فإن كان موسى عندك كاذبًا، فالذي زعمت أنه أرسله أكذب، فقال: إنك لا تفلح أبدًا، وندم على إفشاء أسراره إلي، وتبت من بدعتهم. انتهى.