Top
Image Alt

نبذة عن مراحل التخريج إجمالًا

  /  نبذة عن مراحل التخريج إجمالًا

نبذة عن مراحل التخريج إجمالًا

على ضوء ما قدمنا مما انتهينا إليه يمكننا بعد ذلك أن نقرر: أن هذا العلم قد مر بمراحل ثلاث حتى انتهى إلى ما نحن عليه الآن، وهذه المراحل نجملها فيما يلي:

المرحلة الأولى: وهي مرحلة التأسيس والتمهيد وظهوره، وتتمثل في ظهور المؤلفات المعتبرة عند المحدثين وتنوعها، وهذه المرحلة قد مرت بأطوار ثلاث:

الأول: صحائف الصحابة وكتابتهم.

الثاني: مؤلفات التابعين حتى ظهور التصنيف المنهجي في السنة، وينتهي بنهاية الربع الأول من القرن الثاني للهجرة؛ نتيجةً للأمر بتدوين السنة.

الطور الثالث: المؤلفات في السنة، وتبدأ بنهاية الربع الأول من القرن الثاني للهجرة حتى أوائل الربع الأخير من القرن الثالث الهجري؛ حيث ازدهار المؤلفات الحديثية وكثرة تنوعها.

المرحلة الثانية: نشأة هذا العلم بطريقة أولية: وتبدأ في أوائل الربع الأخير من القرن الثالث الهجري حتى أوائل القرن الرابع الهجري؛ حيث اكتمال تدوين السنة وبداية مرحلة التهذيب والجمع والتقريب والاستدراك وغيرها.

المرحلة الثالثة: ظهور علم التخريج كفن مستقل له قواعده ومناهجه، وتبدأ في أواخر القرن الرابع الهجري بعد تطور هذا العلم واكتمال وسائله حتى يومنا هذا.

المرحلة الأولى: تُعرف بمرحلة التأسيس والتمهيد وأطوارها ومقدمات كل منها: وهذه المرحلة بأطوارها الثلاثة -التي تقدمت- تمثل التأسيس والتمهيد لظهور هذا العلم، ومن الطبيعي أن تتفاوت حصيلة المؤلفات فيها وفق ملابسات كل منها.

الطور الأول له مقدمات؛ منها: مجتمع النبوة من الصحابة ومسلكهم في المحافظة على السنة:

أما مجتمع النبوة من الصحابة رضي الله  عنهم فهم الروافد الأصلية النبع الصافي لهذا التراث الجليل؛ حيث كانوا على ثقة وثيقة بنبينا صلى الله عليه  وسلم يتتبعون أحواله ويحفظون أقواله ويراقبون أفعاله، وساعدهم على استيعاب ذلك التراث تلك الحوافظ القوية والعقول الواعية والأذهان الصافية، هذه التي زكتها تعاليم الإسلام وصقلتها صحبة الرسول صلى الله عليه  وسلم والتي كانت في أغلب أحوالها أمرًا مشتركًا بينهم سواء منهم من عرف الكتابة أو لم يعرف؛ لذلك وغيره مما أسلفنا كانت كتاباتهم في السنة قليلة إذا ما قورنت بمؤلفات من تبعهم حتى بداية عصر التأليف المنهجي فيها، ثم ما بعد التابعين من أتباع التابعين في ظروف وأسباب لم تكن في عهدهم رضي الله  عنهم.

ويتضح لنا من البحث الدقيق والمتأني أن الصحابة سلكوا في المحافظة على السنة مسلكين متوازيين، كل بقدر ما هو ميسر له؛ بحيث يؤديهم ذلك إلى غاية الغايات: وهي حفظ الأصل الثاني للتشريع الإسلامي، ذلك الذي يحوي بين دفتيه تبيان كل ما يمس شئون المسلم في حياته وفي آخرته.

وكان للصحابة في ذلك مسالك:

المسلك الأول: مذاكرة السنة:

واهتموا بمذاكرة السنة؛ كانوا يجلسون يتدارسونها فيما بينهم؛ قال أنس بن مالك رضي الله  عنه: “كنا نكون عند النبي صلى الله عليه  وسلم وربما كنا نحوًا من ستين -أي: من ستين رجلًا- فيحدثنا رسول الله صلى الله عليه  وسلم ثم نتراجعه بيننا هذا وهذا وهذا؛ فنقوم وكأنما قد زرع في قلوبنا، وقد كان أبو هريرة يجزِّئ الليل ثلاثًا ويجعل منه جزءًا لتذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه  وسلم كما كان ابن عباس وزيد بن أرقم يتذاكران السنة؛ كما تذاكر أبو موسى وعمر بن الخطاب حتى الصبح”.

وكان لفصاحة الرسول صلى الله عليه  وسلم وترتيبه لمقاطع جمل الحديث وتأنيه في سردها وإعادتها الحديث ثلاثًا في كثير من أحيانه، الأثر الأكبر في مساعدة صحابته على حفظ حديثه صلى الله عليه  وسلم: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله  عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه  وسلم لا يسرد الكلام كسردكم؛ ولكن كان إذا تكلم تكلم بكلام فَصْل يحفظه من سمعه)) وقد تهيأ ذلك في المقام الأول لهؤلاء الذين لا يعرفون الكتابةَ، أو الذين لا قدرة لهم ممن يعرفونها على متابعة الرسول في قيد حديثه بالكتابة؛ لقلة مهارتهم فيها؛ فتفوتهم جمل كثيرة أو قليلة لها دخل في المعنى العام الذي يهدف إليه الحديث، عند حبس النفس على الكتابة؛ أو يجيدونها، لكنهم لا يفصلون في الكتابة بين ما هو قرآن أو سنة كل على حدة، وهؤلاء -على الراجح- هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه  وسلم بالنهي عن الكتابة.

ومن مسالكهم: توجيه الرسول صلى الله عليه  وسلم وتقريره لمذاكرة السنة:

حفلت مذاكرة السنة بتوجيه الرسول صلى الله عليه  وسلم وتقريره لها، وقد كان الصحابة يتذاكرون الحديث بعلمه صلى الله عليه  وسلم ويقرهم على ذلك، فقد أخرج الحاكم محمد بن عبد الله في (المستدرك على الصحيحين): عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله  عنهما قال: كنت مع النبي صلى الله عليه  وسلم يومًا فدخل المسجد؛ فإذا هو بقوم في المسجد قعود؛ فقال النبي صلى الله عليه  وسلم: ((ما يقعدكم؟)) قالوا: صلينا الصلاة المكتوبة، ثم قعدنا نتذاكر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه  وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((إن الله إذا ذكر شيئًا تعاظم ذكره)).

بل كان رسول الله صلى الله عليه  وسلم يستمع لمذاكرتهم، ويصحح أخطاءهم، ويوجههم إلى الدقة في الحفظ، وبذل الطاقة في إدراك النص وحفظه؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله  عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه  وسلم: ((إذا أتيتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت. فإن مِتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به، قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه  وسلم فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك؟ قال: لا؛ ونبيك الذي أرسلت)).

وفي رواية أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في سننه: قال البراء: ((فقلت: أستذكرهن؟ فقلت: وبرسولك الذي أرسلت؟ قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت)).

والصحابة وردت عنهم آثار تحث على المذاكرة لسنة رسول الله صلى الله عليه  وسلم وَرَدَ كثير من أقوالهم في الحث على ذلك؛ فها هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله  عنه يوجه مستمعيه إلى فضيلة المذاكرة فيقول: “تذاكروا الحديث؛ فإنكم إلا تفعلوا يندرس” يعني: يموت. وهذا هو أبو سعيد الخدري رضي الله  عنه يلفت الأنظار إلى مكانة المذاكرة في السنة فيقول: “تذاكروا الحديث”، ويقول: “تحدثوا؛ فإن أهل الحديث يذكر بعضهم بعضًا”، ويقول: “تذاكروا الحديث؛ فإن مذاكرة الحديث تهيج الحديث”.

وهذا هو عبد الله بن مسعود يذكر الدارسين بها فيقول: “تذاكروا الحديث؛ فإن ذكر الحديث حياته”، وهذا هو ابن عباس رضي الله  عنهما ينصح طلابه بها؛ فيقول لهم: “إذا سمعتم منا حديثًا فتذاكروه بينكم”، بل هو يحذرهم مغبة تركها ومخالفة توجيهاته، فيقول: “إنكم إن لم تذاكروا هذا الحديث يفلت منكم”.

وقد استمرت هذه الطائفة من الصحابة ممن وسعهم النهي عن الكتابة على مذاكرة السنة وروايتها شفاهًا لطلابهم؛ سواء قيدوا سماعهم عنه بالكتابة أو تحملوه شفاهًا، كما استمر الصحابة الذين كانوا يكرهون الكتابة على مذاكرة السنة وإن أجاد بعضهم كتابتها وروايتها مشافهةً لغيرهم، لكن إلى حين.

كذلك لم يكن الذين يقيدون السنة بالكتابة أقل حرصًا عليها من غيرهم؛ فجمعوا بذلك الخير كله من أطرافه كله.

المسلك الثاني: وهو كتابة السنة:

أ. النهي عن كتابة السنة وتوجيه ذلك:

رجحنا فيما سبق أن الذين عناهم الرسول صلى الله عليه  وسلم بالنهي عن الكتابة للسنة في حديثه الشريف الذي رواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه عندما قال بسنده: عن أبي سعيد الخدري رضي الله  عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب علي، قال همام: أحسبه قال: متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)).

وآية ذلك أن أحاديث النهي عن الكتابة وردت كذلك عن أبي هريرة وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس ويحيى بن جعدة، وإذا عرضنا هذه الروايات على بساط البحث العلمي وقمنا بتحقيق أسانيدها، فإنا ننتهي إلى حقيقة مؤكدة، وهي ضعف تلك الروايات جميعًا على رواية مسلم التي ذكرناها آنفًا ومدارها على همام بن يحيى الأزدي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله  عنه وعلى كلٍّ؛ فإن النهي كان مؤقتًا وأبيح بعد ذلك.

والدليل على أن كتابة السنة أبيحت بعد ذلك: ما أملاه صلى الله عليه  وسلم من العهود والمواثيق على بعض أصحابه؛ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي راشد الحيراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله  عنهما فقلت له: “حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه  وسلم فألقى بين يدي صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه  وسلم فنظرت؛ فإذا فيها: أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله، علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت. فقال له رسول الله صلى الله عليه  وسلم: يا أبا بكر، قل: ((اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة…))”. إلى آخر الحديث.

كما صح أن الرسول صلى الله عليه  وسلم دعا بصحيفة، ودعا عليًّا ليكتب كتابًا إلى الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن رضي الله  عنهما مؤداه أن يجعل لهما مجلسًا يختصهما به رسول الله صلى الله عليه  وسلم حتى يَعرف العرب بذلك فضلهما، إلا أن الوحي نزل ينهي النبي صلى الله عليه  وسلم عن ذلك. الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه، في كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء.

الأمر الثاني الذي يدل على الإذن بالكتابة بعد النهي: أمره صلى الله عليه  وسلم بكتابة الحديث للخاصة من الصحابة ممن يجيدوا ذلك؛ فقد أخرج الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو قال: “كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأريد حفظه فنهتني قريشٌ، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه  وسلم ورسول الله صلى الله عليه  وسلم بَشَر يتكلم في الرضا والغضب؟ قال: فأمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه  وسلم فقال: ((اكتب! فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق، وأشار بيده الشريفة إلى فمه الشريف)). أخرجه الإمام الحاكم في (المستدرك) وأخرجه أبو داود في سننه، وأخرجه الدارمي في المقدمة في مقدمة سننه، وأخرجه ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث)، وأخرجه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) وأخرجه الخطيب في (تقييد العلم) وأخرجه أحمد في (المسند) وأخرجه ابن سعد في (الطبقات) وأخرجه الرامهرمزي في كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي).

الدليل الثالث على الإذن بالكتابة بعد النهي عنها: أمره صلى الله عليه  وسلم بكتابة الحديث للخاصة من الصحابة ممن لا يَعرف الكتابة: فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله  عنه أن خزاعة قتلوا رجلًا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه؛ فأُخبر بذلك النبي صلى الله عليه  وسلم فركب راحلته فخطب، فقال: ((إن الله حبس عن مكة القتل أو الفيل، -شك أبو عبد الله- وسلط عليهم رسوله صلى الله عليه  وسلم والمؤمنين، إلا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولم تحل لأحد بعدي، ألا وإنها حلت لي ساعةً من النهار، ألا وإن ساعتي هذه حرام لا يُختلى شوكُها، ولا يعضد شجرها -يعني: لا يقطع- ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد؛ فَمَن قتل فهو بخير النظرين؛ إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل؛ فجاء رجل من أهل اليمن، فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه  وسلم: اكتبوا لأبي فلان، فقال رجل من قريش: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال النبي صلى الله عليه  وسلم: إلا الإذخر)).

الأمر الرابع الذي يدل على الإذن بالكتابة بعد النهي عنها: أنه صلى الله عليه  وسلم أمر الصحابة أمرًا عامًّا بالكتابة:

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي حذيفة بن عتبة رضي الله  عنه قال: قال صلى الله عليه  وسلم: ((اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس؛ فكتبنا له ألفًا وخمسمائة رجل؛ فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟! فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف)).

ومن الأمور الدالة على الإذن بالكتابة بعد النهي عنها: أن للنبي صلى الله عليه  وسلم كُتَّابًا كانوا يكتبون عنه صلى الله عليه  وسلم كتبًا ورسائل إلى ملوك ورؤساء العالم يدعوهم فيها إلى الإسلام، من هؤلاء الكتبة: الخلفاء الأربعة: خليفة المسلمين الأول أبو بكر الصديق رضي الله  عنه وقد كتب بعض كتاب الأمان لسُراقة بن مالك، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وكان كاتب سر رسول الله صلى الله عليه  وسلم وكتب كتابًا فيه شرائع الإسلام لنهشل بن مالك الوائلي، وعلي بن أبي طالب، وكتب الصلحَ بين رسول الله صلى الله عليه  وسلم وبين قريش يوم الحديبية، وكتب غيرَ ذلك من الكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

ومن كُتَّاب النبي صلى الله عليه  وسلم: عمرو بن العاص رضي الله  عنه وابنه عبد الله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وكان من كتاب الوحي بعد الفتح لرسول الله صلى الله عليه  وسلم كما كان يكتب للنبيِّ صلى الله عليه  وسلم فيما بينه وبين العرب، وشرحبيل بن عبد الله بن حذيفة وكان يكتب التوقيعات إلى الملوك، وهو أول كاتب لرسول الله صلى الله عليه  وسلم وعبد الله بن سعد بن أبي السرح وهو أول مَن كتب بمكة من قريش وكتب الوحي قبل أن يرتد، ثم أسلم وعاد إلى الإسلام.

وكان من الكُتَّاب: المغيرة بن شعبة وكان يكتب المداينات والمعاملات، وهو الذي كتب إقطاع حصين بن فضلة الأسدي، وكان يكتب في حوائج النبي صلى الله عليه  وسلم ومعاذ بن جبل كان من الكُتَّاب، وسلمة الأنصاري أبو يزيد، وزيد بن ثابت، وكان من كُتَّاب الوحي وغيره، وكان أكثرهم كتابةً وملازمةً للرسول صلى الله عليه  وسلم بعد الهجرة؛ فإذا لم يكن أُبي حاضرًا كتب هو الوحي، وكان يقرأ للرسول صلى الله عليه  وسلم كُتب اليهود إذا كتبوا إليه، ويجيب عنهم إذا كتبَ؛ فإذا لم يحضر ابن الأرقم ولم يكن هو حاضرًا، كتب مَن حضر من الناس وكان كاتب سر رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

– حنظلة بن الربيع مات بعد أيام علي، وكان يقال له: حنظلة الكاتب، والذي يقوم مقام كل غائب، وكان يحمل خاتم رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

– أبي بن كعب، وكان ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه  وسلم بالمدينة وهو أول مَن كتب في آخر الكتاب: “وكتب فلان”؛ فإذا لم يحضر أبي كتب زيد بن ثابت -كما سبق أن قلنا ذلك عندما تحدثنا عن زيد بن ثابت- وكتب جهيم بن الصلت، وكان قد تعلم الخطَّ في الجاهلية؛ فجاء الإسلام وهو يكتب، وقد كتب لرسول الله صلى الله عليه  وسلم وكان يكتب أموالَ الصدقات.

والحصين النميري وكان يكتب المداينات والمعاملات، ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي توفي في خلافة عثمان، وكان يكتب مغانم رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأبان بن سعيد بن العاص، وأرقم بن أبي الأرقم وكان يكتب بين الناس المداينات كما كان يكتب العهود والمعاملات وهو الذي كتب أقطاع عظيم بن الحارث المحاربي، وثابت بن قيس الأنصاري وكتب فرائض الصدقة في الأموال على عبد الله بن عبس اليماني ومسلمة بن هاران بعد الفتح، وعامر بن الحضرمي كان من الكتاب، وخالد بن سعيد بن العاص، وخالد بن الوليد، وكثيرون غيرهم… كل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه  وسلم.

ونخلص بأن النبي صلى الله عليه  وسلم أذن في الكتابة بعد النهي عنها وأنه كان له صلى الله عليه  وسلم كتاب يكتبون عنه الوحي وما قال من السنة، والكتب والرسائل التي أرسلها إلى ملوك ورؤساء العالم يدعوهم فيها إلى الإسلام، وأنه كان صلى الله عليه  وسلم له كتاب يكتبون المغانم ويكتبون أسماء الجند ويكتبون الصدقات والمداينات والمعاملات، وغير ذلك.

وهذا يثبت أن الإذن بالكتابة كان بعد أن نهى عنه رسول الله صلى الله عليه  وسلم وكان الناس بعد ما عرف الناس الفرقَ بين أسلوب القرآن الكريم وغيره من الأساليب من أحاديث رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

وكما قال صلى الله عليه  وسلم: ((اكتبوا لأبي شاة)) واتخذ كتابًا يكتبون له؛ نرى الصحابة ساروا على ذلك؛ فحثُّوا على كتابة سنة رسول الله صلى الله عليه  وسلم حتى لا تضيعَ، وليس هناك أدل على صِدق ما قلنا من إباحة كتابة السنة لِمَن تأهل لذلك من أقوال بعض الصحابة أنفسهم في الحث على كتابة السنة، وقيدها، وما كان لهم أن يصنعوا ذلك وفي النفس من جوازها شيء.    

وإليك طرفًا من أقوالهم في الحث على كتابة السنة:  

أولًا: كان أنس بن مالك رضي الله  عنه يقول لبنيه: “قيدوا العلمَ بالكتاب، وينصح غيرهم بذلك فيقول: قيدوا العلم بالكتاب؛ بل كان يذهب إلى أبعد من هذا، فيقول: كنا لا نعد علم من لم يكتب علمه علمًا”.

ثانيًا: وكان عبد الله بن عباس رضي الله  عنهما يقول: “قيدوا العلم بالكتاب”، بل ويجعل ذلك خير ما يقيد به العلم فيقول: “خير ما قُيد به العلم الكتاب”، وكان يسعى إلى غيره فيقيد ما عنده منها، فعن عبيد الله بن علي عن جدته سلمى مولاة النبي صلى الله عليه  وسلم، ورضي الله  عنها قالت: “رأيت عبد الله بن عباس رضي الله  عنهما معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئًا من فعل رسول الله صلى الله عليه  وسلم”.

ثالثًا: وكان عمر بن الخطاب رضي الله  عنه يقول: “قيدوا العلم بالكتاب” أي: بالكتابة.

رابعًا: كان علي بن أبي طالب رضي الله  عنه يشجع الطلاب على الكتابة؛ فقد قال مرة: “من يشتري مني علمًا بدرهم؛ فاشترى الحارث الأعور صحفًا بدرهم، ثم جاء بها عليًّا؛ فكتب له علمًا كثيرًا وكان يقول علي: قيدوا العلم بالكتاب” أي: بالكتابة.

خامسًا: كان الحسن بن علي رضي الله  عنهما المتوفى سنة 50 هجرية يوصي بنيه وبني أخيه بكتابة الأحاديث لمن لم يحفظ؛ فيقول لهم: “تعلموا، تعلموا؛ فإنكم صغار قوم اليوم تكونون كبارهم غدًا؛ فمن لم يحفظ منكم فليكتب”.

سادسًا: عن ابن عمرَ رضي الله  عنهما أنه كان يقول: “قيدوا هذا العلم بالكتاب”.

وإذا كان ذلك كله ثمرة لتوجيه النبي صلى الله عليه  وسلم وحثًّا وإقرارًا منه صلى الله عليه  وسلم إذن هنا يكون النبي صلى الله عليه  وسلم وكما توصلنا إلى ذلك من قبل أذن في الكتابة إذنًا مطلقًا بعدما أُمن التخليط بين السنة والقرآن، وهذا أكبر دليل على جواز الكتابة.

إن بعضًا من الصحابة والتابعين كان يكره الكتابة، ولكنهم رجعوا أو رجع الكثير منهم عن ذلك وأجازوا الكتابة؛ بل طالبوا بها، وهذا مما تجدر الإشارة إليه، وهو أنه ما من صحابي أو تابعي نقل عنه كراهية الكتابة إلا وقد نقل عنه إباحتها إلا قلة قليلة؛ فكتبوا وأملوا وأمروا بالكتابة.

ولعل السبب في ذلك ارتفاع الحرج وأمن اللبس عند المحتاطين لذلك بعد جمع القرآن الكريم في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله  عنه.

فهذا هو التابعي عروة بن الزبير يبين لنا هذا المعنى بقوله: كنا نقول: لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوت كتبي؛ فوالله لقد وددت أن تكون كتبي عندي، إن كتاب الله قد استمرت مريرته، يعني: عُرف وفُهم وأُمن التخليط بينه وبين غيره.

وعلى ضوء ما تقدم نستطيع الجزم بأن نقول:

إن السنة قد حَظيت بكتابة الكثير منها في حياة المعصوم صلى الله عليه  وسلم وأنها اكتملت بعد وفاته، وبخاصة بعد أمن اللبس بجمع القرآن الكريم، ذلك الأمر الذي هيأ للسنة المحفوظة في السطور دون تخوُّف أو حذر؛ فقد قوي كتاب الله واستحكم وعرف أسلوبه الشريف.

ثم ظهرت كتب وصحف كتبت في عهد النبي صلى الله عليه  وسلم مثل صحيفة فاطمة الزهراء رضي الله  عنها وكانت تشتمل على بعض الأحاديث النبوية، ونسخة أبي بكر الصديق رضي الله  عنه وكانت فيها فرائضُ الصدقة، وكُتُب سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله  عنه ونسخة في التفسير لأبي بن كعب رضي الله  عنه وهو أول مَن كتب في التفسير، فيما نعلم، ونسخة لعمر بن الخطاب رضي الله  عنه وكتاب لعبد الله بن مسعود رضي الله  عنه وكتاب في استفتاح الصلاة لأبي رافع، والصحيفة الصادقة لعلي بن أبي طالب رضي الله  عنه وكذلك الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله  عنهما وكتاب عمرو بن حزم الأنصاري رضي الله  عنه وصحيفة سمرة بن جندب رضي الله  عنه.

ثم كان هناك من التابعين من حث على كتابة السنة: منهم معاوية بن قرة، وهو تابعي بصري قال: “من لم يكتب العلم فلا تعدوه عالمًا”، وقتادة بن دعامة السدوسي، وهو تابعي بصري، قال: وقد قيل له نكتب ما نسمع منك؟ قال: “وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب قال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52]؟!

وعن سعيد بن جبير -وهو تابعي كوفي- قال: كنت أسمع من ابن عمر وابن عباس الحديث بالليل؛ فأكتبه في واسطة الرحل، وقال: كنت أجلس إلى ابن عباس فأكتب في الصحيفة حتى تمتلئ، ثم أقلب نعلي فأكتب في ظهره، وعن الشعبي عامر بن شرحيل -وهو تابعي كوفي- قال: اكتبوا ما سمعتم مني ولو في الجدار، وكان يقول: الكتابة قيد العلم.

وكتب عبد العزيز بن مروان حاكم مصر -وهو تابعي بمصر- للتابعي كثير بن مرة أو شجرة الحضرمي مات في خلافة عبد الملك وهو تابعي شامي كتب أن ينسخ له أحاديث الرسول صلى الله عليه  وسلم التي عند الصحابة عَدَا أحاديث أبي هريرة رضي الله  عنه فإنها كانت منسوخة عنده -أي: مكتوبة من قبل-.

وندم بعض التابعين على ما فرط من الكتابة؛ لأنهم فاتهم الكثير؛ فهذا كله يدل على الإذن بالكتابة بعد النهي عنها، وأن سبب التأخير في علم التخريج هو أن هذه الكتابة تأخرت شيئًا ما، وأن الكُتُب الحديثية ما ظهرت إلا متأخرًا، وعلم التخريج مبني على كتب الحديث. هذا هو السبب في تأخير هذا العلم.

error: النص محمي !!