Top
Image Alt

نسخ السنة بالقرآن

  /  نسخ السنة بالقرآن

نسخ السنة بالقرآن

المراد بالناسخ والمنسوخ:

المنسوخ هو: ما وقع عليه النسخ.

والناسخ هو: ما دل على المنسوخ.

والحكم المنسوخ قد يكون ثابتًا بالقرآن، وقد يكون ثابتًا بالسنة، وقد يكون ثابتًا بالقياس. وقد اتفق القائلون بالنسخ على جواز نسخ بعض الأدلة ببعض إذا كان الناسخ والمنسوخ من جنسٍ واحدٍ.

وعلى هذا قرَّر أهلُ العلم:

1. لا خلاف في جواز نسخ القرآن بالقرآن:

وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله-: “فصل: يجوز نسخ القرآن بالقرآن”.

فنسخ القرآن بالقرآن جائز اتفاقًا؛ لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وهذا صريحٌ في ذلك.

ولوقوع نسخ القرآن بالقرآن، فقد وقع بالفعل حيث نسخ القرآن آيات من القرآن أيضًا، منها: نسخ الاعتداد بالحول في الوفاة بأربعة أشهر وعشر، فنسخ القرآن بالقرآن وقع فعلًا، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فهذه الآية منسوخةٌ بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]؛ لأنها سابقة عليها في النزول وإن تأخرت في التلاوة.

ومن ذلك أيضًا نسخ الفداء بالمال عن الصيام، قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﮇ} [البقرة: 184] فكان الصيام في أول الأمر من أراد أن يصوم صام، ومن أراد أن يفطر أفطر وفدى بمال، فنسخ ذلك الحكم بقول الله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

وعلى هذا؛ فنسخُ القرآن بالقرآن جائز باتفاق أهل العلم.

2. يجوز باتفاق أيضًا نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة:

حيث إنه جائز عقلًا وشرعًا، وإن كان لا يوجد له مثال، يعني: لم يمثِّل له العلماء، لكن من المتفق عليه نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة؛ ودليل ذلك أمران:

الأول: القياس على القرآن، فكما يجوز نسخ القرآن بالقرآن، كذلك يجوز نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة، ولا فرق بين نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة، والجامع بين الأمرين: أن كلا منهما قطعي الثبوت، فالقرآن الكريم -كما تعلمون- قطعي الثبوت، وكذلك السنة المتواترة قطعية الثبوت، فلما كان هناك جامع بين نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالسنة، قلنا: يجوز نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة؛ قياسًا على نسخ القرآن بالقرآن.

الثاني: أن كلًّا من الناسخ والمنسوخ في درجة واحدة من القوَّة، وهي قطعية الثبوت؛ السنة المتواترة -كما هو مقرر عند أهل العلم- ثابتة ثبوتًا قطعيًّا، فعندي سنة متواترة ناسخة وسنة متواترة منسوخة، وكل منهما في درجة واحدة، وهي القوة في القطعية، أعني قطعية الثبوت، وعلى ذلك فيقوى كل واحد منهما على نسخ الآخر.

3. يجوز باتفاق نسخ سنة الآحاد بسنة الآحاد، وذلك لأمرين:

الأول: الاتحاد في الرتبة من حيث السند؛ حيث إن الناسخ والمنسوخ يتحدان في أن كلًّا منهما ظنيُّ الثبوت، من المقرر عند أهل العلم: أن أخبار الآحاد ظنية الثبوت، لكنها قد تكون قطعية الدلالة، فلا مانع من نسخ السنة الآحادية بالسنة الآحادية؛ نظرًا لاتحادهما في الرتبة من حيث السند، حيث إن الناسخ -وهو سنة آحاد- والمنسوخ -وهو سنة آحاد أيضًا- يتحدان في أن كلًّا منهما ظني الثبوت.

الثاني: لوقوعه أيضًا؛ كما أخرج الإمام مسلم وأبو داود والترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)). وكذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه  وسلم قال في شارب الخمر: ((إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه، فأتي رسول الله صلى الله عليه  وسلم بسكران في الرابعة فجلده وخلى سبيله)) وعلى هذا ففعل النبي صلى الله عليه  وسلم نسخ قوله صلى الله عليه  وسلم، وكل منهما خبر آحاد، والوقوع -كما قررنا ونقرر- دليل الجواز.

4. يجوز باتفاق نسخ سنة الآحاد من السنة بالمتواتر منها:

وإن لم يذكرها ابن قدامة في (روضته) وذلك لأن المتواتر -كما قلنا- قطعي الثبوت وقطعي السند، فالتواتر يوجب العلم ويقطع العذر، والآحاد ظني السند، ولا شك أن القطعي يقوى على نسخ الظني، ونسخ الشيء بما هو أعلى منه جائزٌ، ولكنه لم يقع.

وعلى هذا نستطيع أن نقرِّرَ الآتي:

لا خلاف بين العلماء في جواز نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة، ونسخ خبر الآحاد بخبر الآحاد، ونسخ الآحاد من السنة بالمتواتر منها.

نسخ السنة بالقرآن، وتحقيق مذهب الشافعي في المسألة:

أما نسخ السنة بالقرآن فهذا محل خلاف بين العلماء نوضحه على النحو التالي:

المذهب الأول: قال ابن قدامة -رحمه الله-: “والسنة بالقرآن” يعني: يجوز نسخ السنة بالقرآن. أومأ إلى هذا المذهب الإمام أحمد -رحمه الله- ، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة، وهو قول للشافعي، وقيل: إنه مذهب الجمهور. فالجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن.

المذهب الثاني: ذهب قوم -منهم الإمام الشافعي- إلى عدم جواز نسخ السنة بالقرآن؛ لقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] فقد جعل السنة مبينة للقرآن فلا يكون القرآن مبينًا للسنة.

أدلة المذهب الأول على جواز نسخ السنة بالقرآن:

استدل الجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن بالوقوع الشرعي، والوقوع الشرعي -كما ذكرنا غير مرة- أكبرُ دليل على الجواز؛ حيث وقع في الشرع أن القرآن نسخ السنة، ولو لم يكن جائزًا لما وقع، ومن ذلك:

أولًا: نسخ القِبلة، وذلك أن النبي صلى الله عليه  وسلم لما قدم المدينة صلَّى ستة عشر شهرًا -أو سبعة عشر شهرا كما في رواية البخاري- إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك بالقرآن.

إذًا صلاة النبي صلى الله عليه  وسلم وأصحابه جهة بيت المقدس ثابتة بالسنة الفعلية، ثم نسخ ذلك بالقرآن، وذلك في قوله تعالى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ومعلومٌ أن صلاة النبي صلى الله عليه  وسلم إلى بيت المقدس لم يكن ثابتًا بالقرآن، وقد نُسخ بالقرآن.

وليس لمعترض أن يعترض على هذا التمثيل بأن الصلاة إلى بيت المقدس كانت معلومةً بالقرآن فهمًا من قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]؛ لأن قوله تعالى: { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] تخييرٌ بين القدس وغيره من الجهات، والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه عينًا إلى بيت المقدس، وهو غير معلومٍ من القرآن.

ثانيًا: نسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان:

وبيان ذلك:

  • ما رواه الإمام البخاري عن البراء رضي الله  عنه قال: “كان أصحاب محمد صلى الله عليه  وسلم إذا كان الرجل فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنَّ قيسًا الأنصاريَّ كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعامٌ؟ قالت: لا، ولكن انطلق فاطلب لك، وكان يعمل في يومه، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه  وسلم فنزلت هذه الآية: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] ففرِحوا بها فرحًا شديدًا، ونزل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]”.
  • أخرج البخاري أيضا عن البراء: ((أنه لما نزل وجوب صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجالٌ يختانون أنفسهم فأنزل الله تعالى: { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } [البقرة: 187])) فهنا نسخ ما جاء في السنة بالقرآن، كما قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: { لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]: “لفظ ” أُحِلَّ ” يقتضي أنه كان محرمًا قبل ذلك ثم نُسخ”.

ثالثًا: نسخ تأخير الصلاة حال الخوف -وقد أشرنا إلى هذا سابقًا- فقد أخرج النسائي والدارمي والإمام أحمد والشافعي عن أبي سعيد الخدري رضي الله  عنه “أن النبي صلى الله عليه  وسلم أخر الصلاة يوم الخندق: الظهر، والعصر، والمغرب، حتى بعد المغرب، ثم نسخ تأخيرُها بالقرآن، وهو قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وقوله: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]”.

فهذا بيان ما أورده ابن قدامة من صور وقوع نسخ السنة بالقرآن. وهاك صور أخرى -لم يذكرْها ابنُ قدامةَ- نوردها تتميمًا وتكثيرًا للفائدة:

رابعًا: أن النبي صلى الله عليه  وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن يردّ إليهم مَن جاءه منهم من المسلمين، وجاءه أبو جندل وأبو بصير فردّهما -كما ورد في قصة صلح الحديبية التي ذكرها البخاري- ثم جاءت امرأةٌ مهاجرةً، وكان بمقتضى الصلح أن يردها، فمنع الله ردّها، ونسخ ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إلى قوله: { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ذكر ذلك الطبريّ في تفسيره، وغيره.

خامسًا: نسخ الله تعالى الصلاة -صلاة الجنازة- على المنافقين بعد موتهم؛ فقد روى الإمام البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر رضي الله  عنه: ((أن النبي صلى الله عليه  وسلم صلَّى على عبد الله بن أبيّ ابن سلول المنافق فاعترض عمرُ رضي الله  عنه على هذه الصلاة. فقال النبي صلى الله عليه  وسلم: أخر عني يا عمر؛ إني خُيِّرتُ فاخترتُ، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، لو أعلم أني لو زدتُ على السبعين غفر له لزدت. قال: ثم صلى عليه -يعني النبي صلى الله عليه  وسلم صلَّى على عبد الله بن أبي ابن سلول- ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، قال عمر رضي الله  عنه: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه  وسلم، والله ورسوله أعلم. قال: فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فما صلى رسول الله صلى الله عليه  وسلم على منافق بعدها -يعني بعد نزول الآية- ولا قام على قبره، حتى قبضه الله عز وجل)). فهذا نسخ سنة بالقرآن كما هو ظاهر.

وقد يعترض معترضٌ فيقول: ما ذكرتموه يا معشر الجمهور من صور أنما كانت أحكامًا ثابتةً بقرآن نُسخ تلاوته وبقي حكمه؛ فيكون من باب نسخ القرآن بالقرآن، وهذا متفق عليه بيننا وبينكم. وإن سلمنا أن الصور قد ثبتت بالسنة، لكن لعلها نسخت بالسنة؟!.

وحاصل هذا الاعتراض: أن الخصم يريد أن يثبت أن الصور التي ساقها الجمهور إما أنها نسخ قرآن بقرآن، أو سنة بسنة، وليست نسخ السنة بالقرآن، وهذا متفق عليه، والآيات التي ذكرت ليس فيها ما يدل على عدم ارتفاع الأحكام السابقة بالسنة.

ويمكن أن يُجاب عن هذا الاعتراض من قِبل الجمهور: بأن الأصل عدم ذلك –يعني: عدم هذا التقدير الذي قدرتموه، عدم تجويز أن تكون تلك الصور من باب نسخ القرآن بالقرآن، أو نسخ السنة بالسنة- من أين أتيتم بهذا الكلام؟ لا سيما مع عدم الوجود بعد التفتيش والبحث التام، فنحن فتشنا وبحثنا بحثًا تامًّا، فوجدنا أن هذه السنة نسخت بالقرآن، وليس القرآن نسخ بالقرآن ولا السنة نسخت بالسنة -كما تزعمون- والمسألة اجتهادية فيكفينا فيها التمسك بالأصل، والأصل هنا أن السنة نسخت بالقرآن، ولا دليل عند المعترض على هذا الاحتمال الذي ذكره.

أنتم تقولون: هذا قرآن نسخ بقرآن، فأين هذا القرآن الناسخ؟ وأين هذا القرآن المنسوخ؟ الذي معنا وأمامنا أن السنة منسوخة بالقرآن، فكيف جعلتم السنة قرآنًا؟ أو تقولون: سنة منسوخة بالسنة. كيف ذلك والناسخ في الحقيقة هو القرآن وقد تلوناه عليكم وسمعتموه؟!!

ثم لو صح هذا الاعتراض منهم؛ لما ثبت ناسخ وعلم تأخيره عن منسوخ، إلا إذا قال الناقل: هذا ناسخ وذلك منسوخ. حتى يتبين لنا: هل هذا قرآن أو هذه سنة؟ لاحتمال أن يقال في كل ناسخ: إنه ليس بناسخ بل غيره، ويقال في كل منسوخ: إنه ليس بمنسوخ بل غيره، وهو خلاف الإجماع، وخلاف المرويّ عن الأصوليين؛ فالأصوليون يكتفون بمعرفة التاريخ في الناسخ والمنسوخ، ويكتفون بأن هذه سنة، وهذا قرآن، وأن القرآن ينسخ السنة، لا كما تقولون أنتم. يكتفون بالحكم على كون ما وجد من الخطاب الصالح لنسخ الحكم هو الناسخ، وأن ما وجد من الدليل الصالح لإثبات الحكم هو المثبت، وإن احتمل إضافة الحكم والنسخ إلى غير ما ظهر مع عدم الظفر به بعد البحث التام عنه.

وقد اقتصر ابن قدامة -رحمه الله- على الاستدلال على جواز نسخ السنة بالقرآن بذكر بعض الصور الواقعة، وهناك أدلة أخرى دلت على جواز نسخ السنة بالقرآن ذكرها الأصوليون، ونحن بدورنا نذكر بعضها، فمنها:

أن الكتاب والسنة وحي من الله تعالى، فالكتاب وحي بلا كلام، وكذا السنة؛ لقول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3- 4] غير أن الكتاب متعبد بتلاوته، بخلاف السنة؛ فإنه لا يتعبد بتلاوتها ونسخ حكم أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلًا فلِم نمنعه؟! ولهذا فإنا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخًا للسنة؛ لما لزم عنه محال عقلًا؛ فدل على الجواز العقليّ.

وأظنكم الآن قد عرفتم معنى الجواز العقلي، وهو: أن الشيء إذا لم يترتب على فرض وقوعه محال لذاته أو لغيره فهو جائز عقلًا، فلو فرضنا أن القرآن ناسخ للسنة، فإن هذا لا يترتب عليه محال عقلا، فيكون جائزًا، ولا شيء فيه.

ما سقناه إلى هذا الحد هو مذهب جمهور أهل العلم، وهو جواز نسخ السنة بالقرآن.

أدلة المذهب الثاني على عدم جواز نسخ السنة بالقرآن:

ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، وهو قول للإمام الشافعي ذكره أبو إسحاق الشيرازي في (شرح اللمع) وغيره. وقد استدل أصحاب هذا المذهب بأدلة:

الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ووجه الاستدلال بهذه الآية على منع نسخ السنة بالقرآن: أن هذه الآية تدل على أن السنة بيان للقرآن، يعني وظيفة السنة وظيفة بيانية للقرآن، ومعلوم أن الناسخ بيان للمنسوخ، فلو كان القرآن ناسخًا للسنة؛ لكان القرآن بيانًا للسنة، ولكنّ السنة هي التي بيانٌ للقرآن، فيلزم من ذلك أنّ كلّ واحد منهما بيانٌ للآخر، وهذا دور، والدور باطل، فامتنع أن يكون القرآن ناسخًا للسنة.

ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بالأجوبة التالية:

الجواب الأول: ليس في قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] دليل على أنه لا يتكلم إلا بالبيان. فالآية ومنطوق الآية وظاهر الآية لا دليل فيه على أن النبي صلى الله عليه  وسلم لا يتكلم إلا بالبيان، فيجوز أن يتكلم بالبيان وبغيره.

ومثال ذلك: أنك إذا قلت مثلا: “إذا دخلت الدار لا تسلم على زيد” فليس فيه لا تفعل فعلًا آخر، يعني: لا يفهم من هذه العبارة أنك لا تفعل كل شيء، بل لك أن تفعل فعلًا آخر غير السلام على زيد.

الجواب الثاني: سلمنا أن السنة كلّها بيان للقرآن، لكن ما هو البيان؟ البيان هو الإبلاغ، يعني: النبي صلى الله عليه  وسلم مأمور بأن يبلغ كل القرآن للناس، وليس مأمورًا بأن يبينه بمعنى يبين الناسخ من المنسوخ فيه، ومعلوم أن الآيات المتعلقة بالناسخ والمنسوخ محصورة ومحدودة ومعلومة، فلو فسرنا البيان بالإبلاغ لكان أولى وأعم، فهو عام في كل القرآن، المنسوخ وغير المنسوخ، أما حمله على بيان المراد فهو تخصيص ببعض ما أنزل، وهو ما كان مجملًا أو عامًّا مخصوصًا، وحمل الكلام على العام أولى من حمله على الخاص تكثيرًا للفائدة، وهذا أمر معلوم ومسلم، ولا يعترض عليه أحد.

الجواب الثالث: الشارع لما جعل السنة بيانًا للقرآن نبه بذلك على أن القرآن أولى أن يكون بيانًا للسنة؛ لأنه أعلى منها، فإذا جاز أن يُبَيَّن الأعلى بالأدنى؛ فلأن يجوز أن يبيَّن الأدنى بالأعلى أولى.

الدليل الثاني: إن القرآن والسنة جنسان مختلفان من الأدلة، يعني: القرآن دليل، والسنة دليل آخر، فلم يجزْ نسخُ أحدهما بالآخر، كنسخ الكتاب بالسنة، يعني: لما لم يجزْ نسخُ القرآن بالسنة لم يجز نسخ السنة بالقرآن؛ لأن كلًّا منهما دليل، وهما دليلان مختلفان.

وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأن النسخ في الأصل لم يمتنع لكونهما جنسين، وإنما امتنع لأن أحدهما أصل للآخر، والآخر فرع له، فأصل السنة هو القرآن، والسنة فرع عنه، ولأن أحدهما أدنى وهو السنة، فلم يجز نسخ الأصل بفرعه، ولا يرقى الفرع لذلك، ولا ينسخ الأعلى بالأدنى.

وهذا المعنى مدفوع في مسألتنا؛ حيث إنا لا ننسخ الأعلى بما هو دونه، وإنما نحن ننسخ الأدنى بما هو أعلى منه، فننسخ السنة بالقرآن، وهذا لا إشكال فيه.

الدليل الثالث: لو نسخت السنة بالقرآن؛ للزم تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه  وسلم وعن طاعته؛ لإيهامهم أن الله تعالى لم يرضَ ما سنَّه رسول الله صلى الله عليه  وسلم، فالرسول يسنّ شيئًا والله تعالى ينسخ هذا الشيء، فالناس يتشكّكون في أمر الرسول صلى الله عليه  وسلم وينفرون منه، وينفرون من طاعته؛ لأن الله تعالى ما رضي ما سنَّه الرسول صلى الله عليه  وسلم فنسخه؛ وذلك مناقض لمقصود البعثة؛ لأن الله تعالى لما بعث النبي صلى الله عليه  وسلم بعثه وأراد من المكلفين ومن الخلق طاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواﮨ} [الحشر: 7] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].

ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بوجهين:

الوجه الأول: نسلم لكم أن نسخ السنة بالقرآن يؤدي إلى التنفير لو كانت السنة من عند الرسول صلى الله عليه  وسلم من تلقاء نفسه، وليس الأمر كذلك، بل إنما السنة من الوحي، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] وإن كان هناك فرق بين الكتاب وبين السنة، وهو أن الكتاب متعبد بتلاوته، بخلاف السنة، لكن السنة في النهاية وحيٌ كالقرآن تمامًا بتمام، لكن لما كانت السنة من عند الله -عز وجل- لم يكن استدلالُكم في محلِّه.

الوجه الثاني: أنه لو امتنع نسخ السنة بالقرآن لدلالته على أن ما شرعه أولًا غير مرضي؛ لما امتنع نسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، فنفس كلامكم هنا يأتي هنا. لماذا نسخ الله الآية بآية؟ هل لأنه لم يرضَ بالآية الأولى؟! وكذلك لو نسخ النبي صلى الله عليه  وسلم حكمًا ثبت بسنة أخرى، فهل هذا معناه: أن السنة الأولى غير مرضية للنبي صلى الله عليه  وسلم؟! هذا طبعًا كلام لا يقول به أحد، وهو خلاف الإجماع؛ حيث إنه قد اتفق على جواز نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالسنة.

تحقيق مذهب الإمام الشافعي في المسألة:

بقي أن نبين ونحقق مذهب الإمام الشافعي في المسألة؛ لأن كثيرًا من الأصوليين قالوا: إن الإمام الشافعي يرى أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، وقد حقق بعض المحدَثين موقف الإمام الشافعي في المسألة فقال: كثر الكلام حول مذهب الإمام الشافعي في هذه المسألة حيث ورد عنه أنه يقول: “لا يجوز نسخ السنة بالقرآن” فاستنكر جماعة من العلماء ذلك منه، من ذلك أن القاضي عبد الجبار بن أحمد كثيرًا ما ينصر مذهب الشافعي في الأصول والفروع، فلما وصل إلى هذا الموضع قال: “هذا الرجل كبير لكن الحق أكبر منه”.

وقال ألكيا الهراسي في تعليقه: قد صح عن الشافعي أنه قال في رسالتيه: “إن ذلك -يعني نسخ السنة بالقرآن- غير جائز”. وعد ألكيا الهراسي ذلك من هفوات الإمام الشافعي قال: “وهفوات الكبار على أقدارهم، ومن عد خطؤه عظم قدره”.

وقال أيضا: “والمتغالون في محبة الشافعي لما رأوا أن هذا القول لا يليق -يعني لا يليق بالإمام الشافعي- طلبوا له محامل” يعني: حاولوا أن يؤولوه ويفسروه تفسيرًا يتوافق وجلالة ومكانة الإمام الشافعي، طلبوا له محامل ذكروها في كتبهم. وأورد ألكيا الهراسي بعضها ثم قال: “واعلم أنهم صعبوا أمرًا سهلًا، وبالغوا في غير عظيم، وهذا إن صح عن الشافعي فهو غير منكَر، وإن جبن بعض الأصحاب عن نصرة هذا المذهب فذلك لا يوجب ضعفه، ولقد نصر هذا المذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، والأستاذ أبو منصور البغدادي، وصنف أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي كتابًا في نصرة هذا المذهب”، قلت: “وعبارة الإمام الشافعي في الرسالة هي: “وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه  وسلم لا ينسخها إلا سنة لرسول الله، ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنّ فيه غير ما سن رسول الله صلى الله عليه  وسلم، لسن فيما أحدث الله إليه، حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة التي قبلها مما يخالفها، وهذا مذكور في سنته صلى الله عليه  وسلم”.

ثم قال بعد ذلك: “فإن قال قائل: هل تنسخ السنة بالقرآن؟ قيل: لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله”.

ثم قال: “ولو جاز أن يقال: قد سن رسول الله صلى الله عليه  وسلم ثم نسخت سنته بالقرآن، ولا يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم السنة الناسخة، جاز أن يقال فيما حرم رسول الله صلى الله عليه  وسلم من البيوع كلها قد يحتمل أن يكون حرمها قبل أن ينزل عليه: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وفيمن رجم من الزناة قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخًا لقول الله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]”.

هذا كلام الإمام الشافعي ومحاولة أصحابه وأتباعه وتلامذته نصرة رأيه في المسألة، وعلى كل حال فلو وقع من الشافعي -رحمه الله- أنه يمنع نسخ السنة بالقرآن، فهذا اجتهاد منه قد يصيب فيه وقد يخطئ، والأمر لا يحتاج إلى كثير كلام، فالشافعي -رحمه الله- إمام عظيم ويصيب ويخطئ.

إلى هنا نكون قد انتهينا من مسألة “نسخ السنة بالقرآن” وذكر مذاهب العلماء فيها، والراجح مذهب الجمهور، وهو الجواز.

error: النص محمي !!