نسخ الفعل قبل التمكن من الامتثال
قلنا: إن المسلمين أجمعوا -ما عدا أبا مسلم الأصفهاني من المعتزلة- على جواز النسخ عقلًا ووقوعه شرعًا.
أما العقل، فلأنه لا يمنع أن يكون الشيء صالحًا في زمن دون زمن، كالطبيب يصف الدواء ثم يمنعه ويعطي دواء آخر، وهو يعلم عند وصفه للدواء الأول أنه مؤقت لمصلحة المريض، وقد بيَّنا ذلك والحمد لله.
وأما الشرع فلقوله تعالى: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، ولقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ} [النحل: 101]، وقد نسخ التوجه إلى بيت المقدس، إلى غير ذلك من الأمثلة التي سقناها في الدرس الماضي.
وقد أجمع المسلمون كذلك على أن شريعتنا ناسخة لما خالفها من شرائع الأنبياء.
وأنكر اليهود وأبو مسلم الأصفهاني النسخ محتجين بأنه يؤدي إلى سبق الجهل -هذا الذي سميناه هناك بالبداء- إن كان النسخ لحكمة ظهرت بعد التشريع الأول، ويؤدي إلى العبث إن كان لغير حكمة.
وهذا الكلام فاسد؛ لما ذكرنا من دليل العقل والشرع، ولأنا نمنع أن يكون لحكمة ظهرت بعد التشريع الأول، بل الله تعالى يعلم قبل الأمر الأول أنه سيبدله لحكمته.
ولأن النسخ وقَعَ في نفس التوراة -وفي هذا ردٌّ على اليهود- فقد ذكرت التوراة أن آدم عليه السلام كان يزوج بناته من بنيه، وكان يعقوب عليه السلام قد جمع بين الأختين، وهو محرم في شرائع من بعدهما من الأنبياء.
الأحكام التي لا يتناولها النسخ:
لا بد أن ننبه هنا إلى أن هناك أحكامًا لا يتناولها النسخُ، هذه الأحكام هي:
- الأحكام التي تتعلق بأصول الدين. هذه لا يدخلها النسخ، كالإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر، والأسماء والصفات، فالأحكام التي تتعلق بأصول الدين لا يتناولها النسخ.
- الأحكام الكلية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك. هذه أحكام لم يتناولها النسخ.
- الأحكام التي لا تحتمل عدم المشروعية. وهي أمهات الأخلاق والفضائل، كالعدل والأمانة، والصدق والوفاء، فهذه لا تتغير بتغير الأزمان، ولذلك لا يمكن أن تنسخ.
- الأحكام التي لا تحتمل المشروعية. وهي أمهات الرذائل، مثل الكذب والظلم والخيانة والغدر، فهذه لا يمكن أن تنسخ؛ لأن قبحها لا يتغير بمرور الزمن.
- الأحكام التي ارتبط بها ما ينافي النسخ، كالتأبيد مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد ماضٍٍ إلى يوم القيامة))، وتحريم زوجاته صلى الله عليه وسلم على أمته. هذه أحكام لا يتناولها النسخ.
نسخ القرآن تلاوةً وحكمًا أو أحدهما:
اتفق القائلون بجواز نسخ بعض القرآن -وهم جمهور أهل العلم- على جواز نسخ التلاوة دون الحكم، أو نسخ الحكم دون التلاوة، أو نسخهما معًا -يعني الحكم والتلاوة- وذلك خلافًا لطائفة شاذة من المعتزلة، قالوا: لا يجوز نسخ التلاوة دون الحكم، أو الحكم دون التلاوة، أما نسخهما معًا فيجوز.
أدلة الجمهور على الجواز:
استدل القائلون بالجواز بدليلين: عقلي وسمعي:
أولًا: الدليل العقلي:
قالوا: إن الآية يتعلق بها حكمان:
الحكم الأول: جواز تلاوتها؛ ولهذا يثاب عليها بالإجماع -يعني: على التلاوة- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرفٌ، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))، هذا هو الحكم الأول الذي يتعلق بالآية وهو جواز تلاوتها والثواب على ذلك.
الحكم الثاني: أن الحكم الذي تدل عليه الآية من الوجوب أو التحريم أو غيرهما، إذا كان حكمين، جاز أن يكون إثباتهما مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت، وجاز ألا يكون إثبات أحدهما مصلحة مطلقًا، وجاز أن يكون إثبات أحدهما مصلحة في وقت دون وقت، وعلى احتمال هذه الفروض الثلاثة، جاز رفعهما معًا، أو رفع أحدهما دون الآخر، فلا تلازم بينها.
هذا الدليل العقلي على جواز نسخ الحكم دون التلاوة، أو التلاوة دون الحكم، أو نسخهما معًا.
ثانيًا: الدليل الشرعي:
فهو أنه لو لم يجز لم يقع، لكنه وقع، إذًا فهو جائز. لو لم يجز يعني: نسخ الحكم دون التلاوة، أو التلاوة دون الحكم، أو نسخهما معًا، لو لم يجز لم يقع، لكنه وقع إذًا فهو جائز.
ومثال ذلك:
أولًا: أما نسخ التلاوة والحكم معًا فيدل عليه ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن فيما يقرأ من القرآن”. هذا دليل على نسخ التلاوة والحكم معًا.
ثانيًا: وأما نسخ الحكم دون التلاوة، فمثاله: نسخ حكم آية الاعتداد بالحول الثابت في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] بالاعتداد أربعة أشهر وعشرًا الثابت في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
ثالثًا: وأما نسخ التلاوة دون الحكم –يعني: التلاوة ترفع ويبقى الحكم-: فما رواه عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب } أنه سمعه -يعني: ابن عباس سمع عمر رضي الله عنه وهو على مِنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، ويقول: “إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل آية الرجم -وآية الرجم كما قال النووي في شرحه على مسلم هي: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة”- فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا مِن بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضل بترك فريضة أنزلها الله في كتابه؛ فإن الرجم في كتاب الله حقٌّ على من زنَى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان حمل، أو الاعتراف، وايم الله، لولا أن يقول الناس: زاد في كتاب الله، لكتبتها”. رواه البخاري ومسلم.
فقد كانت هذه آية من القرآن كما ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنها غير موجودة الآن فيما يتلى من القرآن، فتكون تلاوتها قد نسخت، ولكن الحكم الذي دلت عليه وهو رجم المحصن والمحصنة لا يزال باقيًا معمولًا به.
أدلة المانعين لنسخ التلاوة دون الحكم أو الحكم دون التلاوة:
وقد استدلوا على ذلك بدليلين:
الدليل الأول: قالوا: التلاوة مع ما تفيده من الحكم، كالمنطوق مع المفهوم، فكما لا ينفك المفهوم عن المنطوق، ولا المنطوق عن المفهوم، كذلك لا ينفك الحكم عن التلاوة، ولا التلاوة عن الحكم. ووجه الشبه أن كلًّا منهما لا يتصور تحققه بدون الآخر، فهما متلازمان.
هذا الدليل الأول لمن منع نسخ التلاوة دون الحكم، أو الحكم دون التلاوة، وقال: إن التلاوة مع ما تفيده من الحكم، كالمنطوق مع المفهوم، وكما لا ينفك المفهوم عن المنطوق، ولا المنطوق عن المفهوم، فكذا لا تنفك التلاوة عن الحكم، ولا الحكم عن التلاوة.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأنه إذا كان قصدكم أن التلاوة والحكم متلازمان ابتداء، فنحن مسلِّمون بهذا، ولا يفيد في الاعتراض؛ لأن كلامنا في الدوام، لا في الابتداء، وإن كان قصدكم أنهما متلازمان ابتداءً ودوامًا، فلا نسلم لكم ذلك؛ لأنه لا يلزم من الثبوت ابتداء، الثبوت دوامًا؛ لأن التلاوة مع الحكم، كالأمارة مع ما تدل عيه، وقد توجد الأمارة ولا يوجد ما تدل عليه، وليس الحكم مع التلاوة، كالمفهوم مع المنطوق، كما يقول المانعون لنسخ التلاوة دون الحكم، أو الحكم بدون التلاوة. هذا دليلهم الأول.
الدليل الثاني: أن بقاء التلاوة دون الحكم يوهم أن الحكم باقٍٍ لبقاء دليله، وهو الآية، وفي ذلك إيقاع المكلف في الجهل وهو قبيح من الشارع، والله سبحانه يتنزه عن ذلك، فامتنع بقاء التلاوة دون الحكم.
قالوا أيضًا: وبقاء الحكم دون التلاوة يضيع فائدة إنزال القرآن؛ لأن فائدة إنزاله هي إفادة الأحكام، وما دامت الأحكام تستفاد بدونه، فلا فائدة من إنزاله، فامتنع بقاء الحكم دون التلاوة. هذا حاصل الدليل الثاني لمن منع نسخ التلاوة دون الحكم، أو الحكم دون التلاوة.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأن هذا الدليل مبناه التحسين والتقبيح العقليان، ونحن لا نقول بهما، ولو سلمنا القول بهما، فإنما يلزم الإيقاع في الجهل، بإيهام بقاء الحكم دون التلاوة، لو لم ينصب دليلًا على عدم بقاء الحكم، لكنه نصب عليه الدليل؛ فالمجتهد يعمل بالدليل، والمقلد يعلم ذلك بالرجوع إلى المجتهد.
أما قولكم: “إن بقاء الحكم دون التلاوة يضيع فائدة إنزال القرآن” فغير مسلم؛ فإن فائدة إنزال القرآن ليست محصورة في إفادة الأحكام، فالفائدة كما تكون في إفادة الأحكام، تكون للإعجاز، وزيادة الثواب بتلاوته، والإعجاز والثواب قد حصلا من الآية قبل نسخ تلاوتها.
هذا حاصل جواب الجمهور على من منع نسخ التلاوة دون الحكم، أو الحكم دون التلاوة.
والراجح -والله أعلم- في هذا المسألة هو رأي الجمهور من جواز نسخ القرآن تلاوةً وحكمًا، أو أحدهما فقط؛ لوقوع ذلك في الشرع حسب الأدلة الصحيحة القوية التي سقناها.
الحِكمة في نسخ الحكم دون التلاوة، والعكس، ونسخهما معًا:
أ. حكمة نسخ الحكم دون التلاوة:
لماذا ينسخ الله الحكم ويبقي التلاوة؟
هذه الظاهرة الحكيمة هي ظاهرة سياسة الإسلام للناس، حتى يشهدوا أنه الدين الحق، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم نبي الصدق، وأن الله هو الحق المبين العليم، الحكيم، الرحمن، الرحيم.
يضاف إلى ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التلاوة، ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة، ومن قيام المعجزات البيانية، أو العلمية، أو السياسية. هذه حكمة نسخ الحكم دون التلاوة.
ب. حكمة نسخ التلاوة دون الحكم:
وأما حكمة نسخ التلاوة دون الحكم -يعني: يبقى الحكم ويرفع لفظ الآية- فهي تظهر في كل آية بما يناسبها، وإنه لتبدو لنا حكمة رائعة في مثال مشهور من هذا النوع، وهو ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من نسخ تلاوة الآية: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة” دون حكمها.
والسر في ذلك كما أشار الشيخ الزرقاني -رحمه الله- أنها كانت تتلى أولًا -يعني آية: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم”- لتقرير حكمها؛ ردعًا لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات، حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس نسخ الله التلاوة؛ لحكمة أخرى هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة، وشناعة صدورها من شيخ وشيخة، حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن تذكر، فضلًا عن أن ينقل، وسارا بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لا يقع، كأنه قال: نزهوا الأسماع عن سماعها، والألسنة عن ذكرها، فضلًا عن الفرار منها، ومن التلوث برجسها.
جـ. حكمة نسخ التلاوة والحكم معًا:
وأما حكمة نسخ التلاوة والحكم معًا، فهي التخفيف عن العباد بجعل دستورهم الذي يحتكمون إليه في أمورهم كلها دنيوية أو أخروية مما يسهل درسه وحفظه، فليس فيه من الطور الذي يشغل ذهن السامع وحافظة الحافظ.
وهذا مذهب جمهور أهل العلم، ومنع قوم نسخ التلاوة دون الحكم بحجة أنه نزل ليُتلى ويثاب عليه فكيف يرفع؟ وهذا -كما قررنا- فاسد؛ لأن التلاوة حكم، وكل حكم قابل للنسخ، كما أنه لا يستبعد أن تكون المصلحة في تلاوته في وقت دون آخر.
ومنع قوم نسخ الحكم دون التلاوة؛ لأن التلاوة دليل على الحكم فلو رفع المدلول لبقي الدليل بلا فائدة. وهذا أيضًا فاسد؛ لأنه إنما كان دليلًا قبل النسخ فقط، ولأن بقاء التلاوة للتعبد بلفظها.
نسخ الفعل قبل التمكن من الامتثال:
ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز نسخ الفعل قبل التمكن. وقد مثَّل ابن قدامة لذلك بما لو قال: “حجوا هذه السنة”. ثم قال قبل يوم عرفة: “لا تحجوا”. فهل هذا جائز أو غير جائز؟ فجمهور العلماء على أنه يجوز النسخ قبل التمكن.
ويرى جمهور المعتزلة، وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي، وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، والكرخي، والجصاص، وأبو زيد الدبوسي، وغيرهم، عدم جواز النسخ قبل التمكن.
ولنذكر الآن أدلة كل مذهب، ثم نبين الراجح من هذين المذهبين.
أدلة المجوِّزين:
استدل المجوزون -وهم الجمهور- على جواز نسخ الفعل قبل التمكن بدليلين نقليين، ودليل عقلي.
أولًا: الدليلان النقليان:
الدليل الأول: قصة إبراهيم عليه السلام أن الله تعالى أمره أن يذبح ولده، ثم نسخ عنه ذلك قبل أن يتمكن من الذبح، فيكون النسخ قبل التمكن قد حصل، فيكون جائزًا.
أما أنه أمر بالذبح فلأمور ثلاثة:
الأول: قوله تعالى حكاية عن الذبيح: { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] جوابًا لقول لأبيه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] فإن قول الذبيح هذا، يدل على أن هناك أمرًا بالذبح صدر لإبراهيم عليه السلام، وإلا لما قال: {فْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فإن معناه: افعل ما أمرت به، فالمضارع قصد به الماضي، ولهذا فإنه لو قال القائل: قد أمرني السلطان بكذا، فإنه يصح أن يقال له: افعل ما تؤمر. أي: ما أمرت به، وأنت مأمور، ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد على إخراجه إلى الصحراء وأخذ آلات الذبح، وترويع الولد؛ فإن ذلك كله مما يحرم من غير أمر، ولا إذن في ذلك.
الثاني: فقوله تعالى في شأن الذبح: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] فلو لم يكن الذبح مأمورًا به، بل كان المأمور به مقدماته من أخذ الولد إلى الصحراء، واستصحاب المدي والحبل، لم يكن هناك بلاء مبين؛ فإن المقدمات سهل على النفس فعلها، ما دامت النتيجة مأمونة.
الثالث: قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فإن الفداء هو البدل، والذي يصلح أن يكون الفداء بدلًا عنه، هو الذبح، فكان الذبح مأمورًا به.
وأما أنه نسخ قبل أن يتمكن من الذبح؛ فلأنه لو نسخ بعد التمكن من الفعل، ولم يفعل، لكان ذلك تقصيرًا من إبراهيم عليه السلام في تنفيذ ما طلب منه، والتقصير ليس من شأن الأنبياء؛ فإن المعروف عنهم المبادرة إلى الفعل، ولو كان شاقًّا، بل ولو كان وجوبه موسعًا عليهم.
ومما يدل أيضًا على أنه نُسخ قبل التمكن أنه لو لم ينسخ لذبح ولكنه لم يذبح.
الدليل الثاني: فهو ما صح بالرواية أن الله تعالى فرض على نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته خمسين صلاة ليلة الإسراء، فأشار موسى عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرجوع، يعني: إلى الله وسؤاله التخفيف، وقال له: أمتك ضعفاء لا يطيقون ذلك، فاستنقص الله ينقصك. يعني: اطلب من الله أن ينقص عدد الصلوات، والله تعالى يجيبك إلى ذلك، وأنه قبل -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه الإشارة- من موسى عليه السلام، وسأل الله ذلك، فنسخ الخمسين إلى أن بقي خمس صلوات، وذلك نسخ حكم الفعل قبل دخول وقته.
ويمكن تلخيص هذه الجزئية، وهي جزئية مهمة نسخ الفعل قبل التمكن من الامتثال، بأن أهل السنة ذهبوا إلى جواز النسخ قبل التمكن من الامتثال، واحتجوا على ذلك بقصة ذبح إسماعيل عليه السلام؛ فإن الله تعالى أبطل ذبحه قبل فعله بقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
وقد أنكر المعتزلة ذلك، قائلين: إنه يفضي –أي: النسخ قبل التمكن من الفعل- إلى أن يكون الشيء الواحد حسنًا قبيحًا؛ إذ أمره به دليل على حسنه، وإبطاله دليل على قبحه.
وقد حاولوا تأويل قصة الذبح بتأويلات بعيدة -ذكرها ابن قدامة، وأجاب عنها- فقالوا: كان هذا منامًا لا أصلَ له، أو أنه كلف العزم على الفعل فقط لامتحان صبره، أو أنه لا نسخ؛ لأن النسخ عنقه، أي: عنق الذبيح نحاسًا.
وهذا كله فاسد؛ لأنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وهي غير مسلمة لهم، ولو سلم لهم هذا لكان دليلًا على إنكار النسخ بالكلية.
وهذه التأويلات التي أوَّلها هؤلاء القدرية فاسدة؛ لأنه لو صح شيء منها لم يحتج إلى فداء، ومنامات الأنبياء وحي كما قررنا، ولو كان لا أصل له ما جاز لإبراهيم قصد الذبح.
وقولهم: “كلف إبراهيم بالعزم ولم يكلف بالذبح” غير صحيح؛ لقوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ولم يقل: إني عازم على ذبحك.
وقولهم: “قلب عنقه نحاسًا” باطل، ولو صح لكان دليلًا على التكليف بما لا يطاق، والمعتزلة أنفسهم ممن ينكر التكليف بما لا يطاق.