نسخ القرآن بالسنة المتواترة
المنسوخ في هذه المسألة هو القرآن، والناسخ هو السنة المتواترة.
فهل يجوز نسخ القرآن الكريم بالسنة المتواترة أم لا يجوز؟
ولعل سرّ الخلاف أن القرآن لمّا كان أقوى من السنة المتواترة توقَّف من توقَّف في قضية نسخ القرآن بالسنة، وقبل أن نذكر مذاهب أهل العلم في المسألة نقول -وبالله التوفيق-:
مفهوم السنة المتواترة:
من المعلوم أن السنة إما أن تكون متواترة أو آحادًا، وهذا تقسيم أهل العلم للسنة باعتبار السند وباعتبار وصول السنة إلينا، والسنة المتواترة -كما هو معروف- هي: السنة التي يرويها جمع تحيل العادة تواطؤهم أو اتفاقهم على الكذب.
أما سنة الآحاد فهي: السنة التي لم يجتمع فيها شروط السنة المتواترة.
مذاهب العلماء في نسخ القرآن بالسنة المتواترة:
اختلف العلماء في نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وكان خلافهم على مذهبين:
المذهب الأول: مذهب لجمهور؛ أن نسخ القرآن بالسنة المتواترة جائز عقلًا وشرعًا.
المذهب الثاني: مذهب الإمام الشافعي وتبعه الإمام أحمد؛ نسخ القرآن بالسنة المتواترة لا يجوز.
نبدأ بأدلة الجمهور؛ نظرًا لرجحان هذا المذهب، وقوة أدلته، فنقول –وبالله التوفيق-:
أدلة مذهب الجمهور:
استدل الجمهور على جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة بعدة أدلة:
الدليل الأول:
الوقوع؛ يعني الوقوع الفعلي، يعني: وقع وثبت فعلًا نسخُ القرآن بالسنة المتواترة، والنسخ -كما هو مقرر- رفع حكم شرعي بحكم شرعي متراخٍ عنه، وقد وقع ذلك في عدة نماذج وأمثلة في القرآن الكريم، نذكر منها:
نموذج: قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] فالآية الكريمة أفادت أن الوصية كانت للوالدين والأقربين فرضًا، ثم نسخت بالسنة، إذًا فهذا أكبر شاهد ودليل على جواز نسخ القرآن بالسنة.
بقي لنا أن نذكر هذه السنة التي نسخت هذه الآية القرآنية، وهي ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد عن أبي أمامة الباهلي وعمر بن خارجة وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث)).
وقد يعترض المانع لنسخ القرآن بالسنة المتواترة على هذا التمثيل، فيقول: الناسخ للوصية آياتُ المواريث وليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا وصية لوارث))؟!
لذلك نقول: لا يمكن أن يقال: بأن الناسخ للوصية آياتُ المواريث؛ لأن الجمع بين الوصية وبين الميراث ممكن، ومعلوم في باب التعارض والترجيح أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، فيمكن الآن الجمع بين الوصية والميراث، وشرط الناسخ أن يتعذر الجمع بينه وبين المنسوخ، فلم تكن آيات المواريث ناسخة، فآية المواريث لا تعارض وجوب الوصية للأقرباء؛ لأن الميراث بعد الوصية يعني الحقوق المتعلقة بالتركة بعد تجهيز الميت وتكفينه، وسداد ديونه، وإخراج الوصية، وما تبقى بعد ذلك يبقى للميراث؛ لذلك يقولون: إن الميراث إنما يكون بعد الوصية، فيجوز أن تكون الوصية من الثلث، والميراث في الباقي.
الدليل الثاني:
أن الواجب كان على من زنى في أول الإسلام الحبس في البيوت كقوله تعالى: { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] فالواجب على الزواني في أول الإسلام هو الحبس في البيوت، ثم نسخ ذلك بآية الجلد، وهو قوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ثم إنه صلى الله عليه وسلم نسخ الجلد بالرجم بالنسبة للمحصن، فهذه سنة متواترة نسخت قرآنًا كريمًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرناه غير مرة: ((خذوا خذوا، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم)).
الدليل الثالث والرابع:
ذكر ابن قدامة -رحمه الله- أن القرآن الكريم والسنة المتواترة لا فرق بينهما من حيث السند، فكل واحد منهما متواتر وثابت ثبوتًا قطعيًّا، ولا فرق بينهما من حيث إثبات الحكم، فالقرآن لا فرق بينه وبين السنة المتواترة من حيث الثبوت، ولا فرق بينه وبين السنة المتواترة من حيث إثبات الأحكام، فالحكم الذي يثبت بالسنة المتواترة مثل الحكم الذي يثبت بالقرآن الكريم، حيث إن كلًّا منهما من عند الله تعالى، ولا يلتفت إلى اعتبار واتفاق الجنس، بل المعتبر إنما هو اتفاق المصدر، ونحن نعرف أن كل واحد منهما -أعني القرآن والسنة المتواترة- أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم به، قال الله تعالى في ذلك: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3- 4] وقال سبحانه: { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15].
وإذا كان الأمر كذلك فإن السنة المتواترة تقوى على نسخ القرآن. وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله- مستدلًا على دليل الجمهور في جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة: “لأن الكل -يعني القرآن والسنة المتواترة- من عند الله، فكل منهما وحي، ولم يعتبر التجانس -يعني لم يعتبر اتفاق الجنس-” هذا دليل. قال: “والعقل لا يحيله -أي العقل لا يحيل ولا يمنع نسخ القرآن بالسنة المتواترة- فإنه لا يترتب على فرض وقوعه محال، إذًا فهو جائز عقلًا”. وهذا هو الدليل الثاني من الأدلة التي ذكرها ابن قدامة، ويكون الدليل الرابع في مجموع الأدلة التي نسوقها الآن لمذهب الجمهور.
بم أجاب الجمهور؟
قالوا: إن جوز للنبي صلى الله عليه وسلم النسخ بالاجتهاد فهو من عند الله أيضًا، فالله عز وجل هو الذي أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد في هذا الأمر، فكأن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة التي تعترضون بها اجتهاد مأذون فيه صلى الله عليه وسلم شرعًا، يعني كأنه قيل له: اجتهد؛ فإنك لن توفق إلا إلى الصواب، فثبت المطلوب حينئذٍ، وهو أن الكل من عند الله.
وفي هذا يقول ابن قدامة في (روضته): “وإن جوزنا له -يعني للنبي صلى الله عليه وسلم- النسخ بالاجتهاد فالنسخ في هذه الصورة اجتهاد ليس قرآن بقرآن، ولا قرآن بالسنة المتواترة، ولا السنة بالسنة، ولا كذا، وإنما هو نسخ قرآن باجتهاد، وإن جوزنا له النسخ بالاجتهاد فالإذن في الاجتهاد من الله تعالى”. يعني: الله تعالى أمره وأذن له بالاجتهاد، وحينئذ يعود الأمر إلى الوحي أيضًا، ثم قال: “وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله: ((لا وصية لوارث)) -وهذا الدليل الذي ذكرناه أولًا- ونسخ إمساك الزواني في البيوت -يعني في أول الإسلام- بقوله -يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم-: ((قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم))”.
إلى هنا انتهت أدلة جمهور أهل العلم على جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة، فنستطيع أن نقول بعد ذلك: إن نسخ القرآن بالسنة المتواترة جائزٌ عقلًا وواقعٌ سمعًا؛ لأن الكل من عند الله -تبارك وتعالى-، ولأن الوصية للوالدين والأقربين ثبتت بالكتاب وقد نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا وصية لوارث)) وكان هذا مذهب جمهور أهل العلم.
أدلة المذهب الثاني:
ذهب الإمام الشافعي، وتبعه الإمام أحمد إلى عدم جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة.
وهو نص الإمام الشافعي في (الرسالة) بل في أكثر كتبه.
ونقل بعض الأئمة -كابن الحاجب- عن الإمام الشافعي في المسألة قولين: قول يقول بنسخ القرآن بالسنة المتواترة، وقول يقول بعدم جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة. والصحيح في النقل عن الشافعي -رحمه الله-: أنه يقول بعدم الجواز.
وإلى هذا أشار ابن قدامة -رحمه الله- في كتاب (الروضة) فقال: فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة فقال أحمد -رحمه الله-: “لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده”.
تأملوا إلى كلام ابن قدامة في (الروضة) وهذا المذهب هو الذي سار إليه الإمام الشافعي، نقله ابن قدامة عن الإمام أحمد.
فما الذي يفهم من كلام الإمام أحمد؟ يفهم أنه يوافق الشافعي في أن القرآن لا ينسخ بالسنة المتواترة، وإنما ينسخ القرآن بقرآن يأتي بعده.
قال القاضي -إذا أطلق القاضي عند ابن قدامة فالمراد القاضي أبو يعلى-: “ظاهره -أي ظاهر كلام الإمام أحمد- أنه منع منه عقلًا وشرعًا، وهذا قول الشافعي”.
هذا الكلام من ابن قدامة فيه بيان للمذهب الثاني من المذهبين اللذين ذكرناهما في أول تحرير المسألة، فالمذهب الأول في كلام ابن قدامة: أن نسخ القرآن بالسنة المتواترة لا يجوز شرعًا، أما عقلًا فلا مانع منه، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الإمام الشافعي -كما ذكرنا- وتبعه على ذلك كثير من العلماء كابن قدامة رحمه الله.
وقول الإمام أحمد الذي ذكره ابن قدامة نصَّ عليه الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث، وقد سئل رضي الله عنه: هل تنسخ السنة القرآن؟ فقال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة تفسر القرآن.
أما المذهب الأول وهو مذهب الجمهور فإنهم يرون أنه يجوز عقلًا وشرعًا نسخ القرآن بالسنة المتواترة.
الراجح في هذه المسألة:
الراجح في هذه المسألة هو رأي جمهور العلماء، وهو جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة؛ لأن الكتاب والسنة -كما قررنا- وحي من الله -تبارك وتعالى- والله تعالى يقول: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} [النجم: 3- 4] غير أن الكتاب متلو، والسنة غير متلوة، ونسخ حكم أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلا، وهو واقع شرعًا كما قررنا.
وعلى ذلك، فلك أن ترجح مذهب الجمهور في جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة لأمور، منها:
– لاتحادهما في السند؛ حيث إن كلا منهما متواتر.
– واتحادهما في المصدر؛ حيث إن كلا منهما مصدره هو الله -تبارك وتعالى- فإذا كان كل واحد منهما قطعي الثبوت، ومصدره من الله تعالى فإن كل واحد منهما يقوى على نسخ الآخر.
أما ما ذهب إليه الشافعي والإمام أحمد من عدم جوازه؛ لقوله تعالى: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فقد بينا ورددنا على الاستدلال بهذه الآية الكريمة.