نسخ القرآن والسنة المتواترة بالآحاد
ننتقل إلى المسألة الثانية المفرعة على نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد، فالمسألة الأولى اخترنا فيها الجواز العقلي وهو مذهب الجمهور واختيار ابن قدامة.
هل يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد شرعًا؟
تكلم العلماء في هذه المسألة؛ لأن القرآن قطعي الثبوت، وكذا السنة المتواترة، أما خبر الواحد فهو ظني الثبوت.
اختلف أهل العلم في ذلك على مذاهب ذكر منها ابن قدامة ثلاثة:
المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور، ومنهم ابن قدامة: لا يجوز شرعًا نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد. تنبَّه إلى أن الجمهور هناك يقولون: يجوز عقلًا، وهنا يقولون: لا يجوز شرعًا.
المذهب الثاني: وهو مذهب بعض أهل الظاهر: يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد شرعًا. وهذا مذهب بعض أهل الظاهر، الظاهرية كداود الظاهري وابن حزم رحمهما الله، وقد صرح ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) بجواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد، فقال: “والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة”. وأطلق -رحمه الله- في كلامه السنة سواء أكانت السنة المتواترة أو السنة الآحادية، وسيذكر ذلك عند شرحه، فقال: “والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة، والسنة بالقرآن وبالسنة”، يعني: والسنة تنسخ بالقرآن وتنسخ بالسنة، أما نسخ السنة بالقرآن فهذا -على رأي الجمهور- كما قررنا جائز وواقع، وإن خالف في ذلك الإمام الشافعي ورواية عن الإمام أحمد. وأما نسخ السنة بالسنة –يعني: السنة المتواترة بالسنة المتواترة والسنة الآحادية بالسنة الآحادية- فهذا أيضًا متفق عليه. وكلامنا الآن في نسخ السنة المتواترة بالسنة الآحادية؛ ولذا قال ابن حزم -رحمه الله-: “وبهذا نقول”. يعني: نقول: يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد شرعًا.
قال: “وهو الصحيح، وسواء عندنا -انظر إلى تفسير ابن حزم -رحمه الله- السنة المنقولة بالتواتر والسنة المنقولة بأخبار الآحاد، كل ذلك ينسخ بعضه بعضا”. يعني: السنة المتواترة تنسخ السنة المتواترة، والسنة الآحادية تنسخ السنة الآحادية، والسنة الآحادية تنسخ السنة المتواترة، وتنسخ كذلك القرآن الكريم.
هذا هو المذهب الثاني في المسألة، وحاصله: جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد شرعًا، اختار ذلك داود الظاهري وابن حزم وقد صرح بأنه الصحيح.
المذهب الثالث: وهو مذهب الغزالي في (المستصفى) وأبي الوليد في (إحكام الفصول): يجوز شرعًا نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الآحاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، حيث إنه وقع. يعني: وقع بالفعل في القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لا يجوز.
وإلى المذاهب الثلاثة التي سردناها عليكم أشار ابن قدامة -رحمه الله- في (روضته) بقوله: “وهو -يعني نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد شرعًا- غير جائز شرعًا”. هذا المذهب الأول، وهو مذهب الجمهور، واختاره ابن قدامة.
“وقال قوم من أهل الظاهر: يجوز”. وهذا هو المذهب الثاني.
“وقالت طائفة: يجوز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز بعده”. وهذا هو المذهب الثالث.
كذا حرَّر ابن قدامة مذاهبَ العلماء في مسألة نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد شرعًا، ثم شرع -رحمه الله- يذكر أدلة المذاهب، فذكر أدلة المذهب الثاني والثالث أولًا ثم ذكر أدلة مذهب الجمهور آخرًا، فنقول على طريقة ابن قدامة-رحمه الله-:
أدلة المذهب الثاني -مذهب بعض أهل الظاهر:
أولًا: الأدلة النقلية من القرآن والسنة:
استدل القائلون بجواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد شرعًا مطلقًا -ومعنى “مطلقا”: في زمن النبي وبعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم- بأدلة كثيرة، نذكر أهمها:
الدليل الأول:
إن نسخ القرآن والسنة المتواترة بالآحاد قد وقع، ووقوعه دليل على جوازه شرعًا – كما قررنا غير مرة.
قلنا للظاهرية: هل عندكم نماذج تخرجونها لنا تؤيد كلامكم هذا؟ قالوا: نعم:
مثال ذلك ما أخرجه الإمام البخاري والإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه في الصلاة نحو بيت المقدس نحوًا من ستة عشر شهرًا وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة)) يعني: النبي في أول الأمر كان يصلي وقبلته بيت المقدس، ظل على هذا ستة عشر -أو سبعة عشر- شهرًا، وهذا قد ثبت بالسنة المتواترة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه إلى الكعبة ((حتى نزل: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه إلى الكعبة فأمره الله عز وجل بذلك)) يعني: بالتوجه ناحية الكعبة. ((فتوجه إليها وصلى معه رجل)) يعني جهة الكعبة. ((ثم انصرف)) يعني: بعد الانتهاء من الصلاة. ((ومرَّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس)) فالرجل لما فرغ من صلاته مع النبي ناحية الكعبة انصرف ومشى فوجد جماعة من الأنصار يصلون تجاه بيت المقدس؛ لأنه لم يبلغهم بعد خبر تحول القبلة، ((فقال هذا الرجل: أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجه نحو الكعبة، فانحرف القوم)) يعني: استداروا بوجوههم من ناحية بيت المقدس إلى ناحية الكعبة، ((فانحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة)). رواه البخاري وأحمد عن البراء بن عازب.
وفي الحديث دليل على جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد، والمثال الذي ذكرناه مثال لنسخ السنة المتواترة بخبر الواحد؛ لأن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسنة المتواترة لأهل قباء وغيرهم؛ لأنهم مكثوا يصلون مدة من الزمن تقرب من ستة عشر -أو سبعة عشر- شهرًا على ما جاء في الحديث، والحديث يفيد أن أهل قباء تحولوا في صلاتهم عن بيت المقدس إلى البيت الحرام، وذلك بناء على قول من أخبرهم بأن القبلة قد تحولت، والذي أخبرهم رجل ممن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبره خبر آحاد، وعلى هذا يكون خبر الواحد قد نسخ المتواتر، وهو المدعى عند الظاهرية.
جواب الجمهور عن دليل الظاهرية:
أجاب الجمهور عن ذلك بأن محل النزاع هو وقوع نسخ المتواتر بخبر الواحد المجرد عن القرائن المفيدة للعلم. يعني: خبر الواحد المطلق الذي ليس معه قرينة، فخبر الواحد قد تكون معه قرينة تجعله مفيدًا للتواتر، والجمهور يقولون: محل نزاعنا في خبر الواحد المجرد عن القرائن المفيدة للعلم، ولا نسلم أن خبر الواحد في هذه القصة كان مجردًا في القرائن.
إذًا فما هي القرائن يا معشر الجمهور؟ قالوا لاحتمال -هذه هي القرينة- أن يكون قد انضم إلى خبر الواحد ما يفيد العلم؛ كقربهم مثلًا -يعني أهل قباء- من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم لضجة الخلق من ذلك، فكل ذلك ينزل خبر الواحد منزلة المتواتر، ولا يخفى أن في هذا الجواب نظرًا، فهو لا يشفي الغليل؛ لأن هناك مسافة كبيرة بين مسجد قباء ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
على كل حال، هذا ما استدل به الظاهرية، وهذا ما أجاب به الجمهور.
الدليل الثاني:
ثبت بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الآحاد من الصحابة } إلى البلدان النواحي لتبليغ الأحكام، وتبليغ الناسخ والمنسوخ، ولولا قبول خبر الواحد في ذلك لما كان قبوله واجبًا.
الدليل الثالث:
كما يجوز التخصيص بخبر الواحد يجوز النسخ بخبر الواحد، فقاسوا النسخ بخبر الواحد على التخصيص بخبر الواحد.
وإلى هذا القدر قال ابن قدامة -رحمه الله-: ” لأن أهل قباء قبلوا خبر الواحد في نسخ القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث آحاد الصحابة } إلى أطراف دار الإسلام، فينقلون الناسخ والمنسوخ، ولأنه يجوز التخصيص به فجاز النسخ به كالمتواتر”.
جواب الجمهور عن هذا الدليل:
لكن الجمهور قد أجابوا عن الدليل الثاني للظاهرية وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث آحاد الصحابة رضي الله عنهم إلى البلدان والنواحي لتبليغ الأحكام وتبليغ الناسخ والمنسوخ، أجابوا بأن هذا إنما يجوز فيما يجوز فيه خبر الواحد كنسخ خبر الآحاد، أما ما لا يجوز فيه فلا. كمحل النزاع الذي هو بيننا وهو نسخ المتواتر بالآحاد، قال الجمهور: ومن ادعى ذلك -يعني نسخ القرآن والسنة المتواترة بالآحاد- فعليه الإثبات. يعني: عليه أن يأتي بدليل يثبت ذلك.
هذا بيان ما أورده ابن قدامة -رحمه الله- من الأمثلة على الوقوع الشرعي، وهما من نسخ السنة المتواترة بخبر الواحد. يعني ما ذكره الظاهرية هو مثال لنسخ السنة المتواترة بخبر الواحد، ولم يذكر نسخ القرآن -وهو المتواتر- بخبر الواحد، ونحن سنذكر لكم بدورنا هذه الأمثلة، فنقول -والله المستعان-:
أدلة للظاهرية من القرآن على جواز نسخ القرآن وهو متواتر بالآحاد:
- قول الله تعالى: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]
ووجه الدلالة من الآية: أن المحرم من المطعومات محصور في الميتة والدم ولحم الخنزير، وأن غيرها من المطعومات باق على الحل والإباحة الأصلية. وهذه الآية منسوخة بخبر الواحد، وخبر الواحد هنا ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك عن ابن عباس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير)) ولم تذكر هذه الأشياء في عموم الآية الكريمة. والنهي يفيد التحريم؛ فاقتضى هذا أن أكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير حرام. وهذا رافع للإباحة السابقة، ولا معنى للنسخ إلا هذا، قالوا: والحديث ليس متواترًا، وإنما هو خبر آحاد، وعلى ذلك يكون المتواتر وهو النص القرآني الوارد في سورة الأنعام قد نسخ بالآحاد؛ فثبت ما ندعيه.
وقد أجاب الجمهور بوجهين:
الوجه الأول: قالوا: لا نسلم أن الآية فيها حصر للمحرمات بالنسبة للماضي والحال والاستقبال، بل نقول: إن أقصى ما تدل عليه الآية أن المحرمات إلى وقت نزول هذه الآية إنما هي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، وليس في ذلك ما يمنع من أنه قد يحرم في المستقبل أشياء أخرى، وإنما قلنا: إن الآية لا حصر فيها بالنسبة للمستقبل؛ لأن الفعل في قوله: {لَا أَجِدُ} حقيقة في الحال، فيحمل الكلام عليه؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة، يعني الراجح في الكلام حمله على الحقيقة، وإذا كان النسخ منعدمًا ها هنا لعدم وجود حقيقته؛ كان الكلام من قبيل التخصيص، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز عند الجمهور.
الوجه الثاني: سلمنا حصر التحريم في المذكورات في الآية، لكن لا نسلم أن ذلك نسخ؛ لأن الحديث إما رفع الإباحة الأصلية التي أكدتها الآية، ورفع الإباحة الأصلية ليس نسخًا؛ لأنها ليست حكمًا شرعيًّا، والنسخ لا يكون إلا للحكم الشرعي، وقد تقدم ذلك في تعريفنا للنسخ وشرحِنا له، وإذا كان النسخ متعذّرًا ها هنا لعدم وجود حقيقته كان الكلام من قبيل التخصيص، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز عند الجمهور أيضًا.
- قول الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24].
فهذه الآية نسخت بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها)).
- قول الله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180].
قالوا: فهذا منسوخ بما روي بالآحاد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا وصية لوارث)).
جواب الجمهور على هذا الدليل:
وقد أجاب الجمهور عن ذلك بأنه: يجوز أن يصدر الإجماع عن خبر، يعني يكون مستند الإجماع خبرًا، ثم لا ينقل ذلك الخبر أصلًا؛ استغناء بالإجماع عنه، وإذا جاز ذلك فالأولى أن يجوز أن يصدر إجماعهم عن خبر، ثم يضعف نقله استغناء بالإجماع عنه، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون هذا الخبر مقطوعًا به عندهم، ثم يضعف نقله لإجماعهم على العمل بموجبه. كذا قرَّر الرازي في كتابه (المحصول).
ثانيًا: الأدلة المعنوية:
الدليل المعنوي، وهو ينقسم إلى وجهين:
الوجه الأول: كما يجوز تخصيص المتواتر بالآحاد يجوز نسخ المتواتر بالآحاد، والجامع بينهما هو دفع الضرر المظنون.
وأجاب الجمهور: بأنه قياس مع الفارق؛ فالتخصيص بيان وجمع بين الدليلين، والنسخ إبطال ورفع.
الوجه الثاني: خبر الواحد دليل من أدلة الشرع، فإذا صار معارضًا لحكم المتواتر وجب تقديم المتأخر قياسًا على سائر الأدلة.
وأجاب الجمهور: بأن المتواتر مقطوع في متنه، والآحاد ليس كذلك، فلِم لا يجوز أن يكون هذا التفاوت مانعًا من ترجيح خبر الواحد؟!!!
أدلة المذهب الثالث -مذهب الغزالي في (المستصفى) وأبي الوليد في (إحكام الفصول):
يجوز نسخ المتواتر بالآحاد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، أما بعده فلا يجوز: فأصحاب هذا المذهب استدلوا بالوقوع، والوقوع أكبر دليل على الجواز، فقالوا: يجوز؛ لأنه وقع فقد وقع نسخ ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم فلذلك ذهبنا إلى التفريق بين زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمنه.
ومثلوا على الوقوع بأمثلة منها:
أولًا: ما ظهر من تحول أهل قباء بخبر الواحد -الذي ذكرناه- قد كانوا يعلمون استقبال بيت المقدس بالتواتر من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل آحاد الصحابة إلى البلدان والأطراف فيخبرون الناس بالناسخ والمنسوخ، ويقبل الناس منهم كل ذلك.
وقد سبق بيان هذين المثالين بالتفصيل، والإجابة عنهما أثناء ذكر أدلة أصحاب المذهب الثاني.
أدلة المذهب الأول “الجمهور”:
استدل الجمهور على عدم جواز نسخ المتواتر بالآحاد بدليلين:
الدليل الأول:
إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن القرآن والمتواتر لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه.
وحاصل هذا الدليل: أن الأمة أجمعت -والمراد الصحابة- على أن القرآن والمتواتر -يعني من السنة- لا يرفع بخبر الواحد. فلا ذاهب إلى تجويزه -يعني تجويز نسخ المتواتر بالآحاد- وهذا ما قرره الشيخ ابن قدامة -رحمه الله- في (روضته) ولذلك يقول -رحمه الله-: ولنا -أي والدليل لنا- على ما ندعيه من أنه لا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد: إجماع الصحابة، على أن القرآن والمتواتر لا يدفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه؛ حتى قال عمر رضي الله عنه: “لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت”.
ومعنى ذلك: أن الصحابة رضي الله عنه كانوا عند نزول الحوادث والمستجدات يطلبون حكمها من كتاب الله تعالى، فإن وجدوا ذلك قضوا به، وإلا طلبوه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجدوا الحكم في السنة عملوا به، وإلا طلبوه من القياس. وهذا يدل على أنهم رأوا كتاب الله مقدّمًا، حتى قال عمر بن الخطاب: “لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت”.
والمراد بالمرأة في الخبر هي فاطمة بنت قيس، وقصتها في كتاب الطلاق من صحيح الإمام مسلم وفيه: أنها قالت: “طلقني زوجي ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة” فكأن مفاد قول فاطمة بنت قيس أن المطلقة ثلاثًا ليس لها سكنى وليس لها نفقة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى أن لها نفقة ولها سكنى، فلما أخبر بخبر فاطمة بنت قيس قال: “لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت”. ومراده رضي الله عنه طبعًا بقوله: “أم كذبت” يعني: أخطأت؛ للإجماع على عدالة الصحابة رضي الله عنهما والخبر عند مسلم عن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقه، فأخذ الأسود بن يزيد كفًّا من حصى فحصبه به، وقال: ويلك تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: “لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت أو نسيت”.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يؤيد هذا الكلام حيث قال: “لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوال على عقبيه”.
ووجه الاحتجاج: أنهما لم يعملا بخبر الواحد -يعني عمر بن الخطاب وكذا علي بن أبي طالب- ولم يحكما به على القرآن، وما ثبت من السنة المتواترة، وكان ذلك مشتهرًا فيما بين الصحابة ولم ينكر عليهما منكر، فكان ذلك إجماعًا. ولهذا قال الرازي -رحمه الله- بعد أن ذكر حديث عمر: “وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأنا نقول: هب أن هذا الحديث دل على أنهم ما قبلوا ذلك الخبر في نسخ المتواتر فكيف يدل على إجماعهم على أنهم ما قبلوا خبرًا من أخبار الآحاد في نسخ المتواتر”.
وقال ابن بدران -رحمه الله- بعد أن ذكر حديث عمر: “هذا لا يفيد أن خبر الواحد لا ينسخ الكتاب والمتواتر بل يفيد جوازه، وذلك لأن عمر إنما رد خبر فاطمة لشبهة احتمال أنها نسيت، وهذا يدل على أن خبرها لو أفاد الظن ولم تقع له الشبهة المذكورة لعمل به”. وهو كلام جيد من ابن بدران -رحمه الله-.
الدليل الثاني:
أن خبر الآحاد ضعيف والمتواتر أقوى منه، فلا يقع الأضعف في مقابلة الأقوى.
هذا الدليل الثاني للجمهور، وحاصله: أن خبر المتواتر أقوى من خبر الواحد؛ فلا يقوى خبر الواحد لمقابلة الخبر المتواتر.
وقد اعترض على هذا الدليل: بأن خبر الواحد وإن كان أضعف من المتواتر من جهة كونه آحادًا إلا أنه أقوى من المتواتر من جهة كونه خاصًّا والمتواتر عامًّا -وقد بيّنّا أن دلالة الخاص أقوى من دلالة العامّ؛ لأن العام يحتمل التخصيص- والظن الحاصل من الخاص إذا كان آحادًا أقوى من الظن الحاصل من العام المتواتر؛ لأن تطرق الضعف إلى الواحد من جهة كذبه واحتمال غلطه، وتطرق الضعف إلى العام من جهة تخصيصه، واحتمال إرادة بعض ما دل عليه دون البعض، واحتمال تطرق التخصيص إلى العام أكثر من تطرق الخطأ والكذب إلى العدل، فكان الظن المستفاد من خبر الواحد أقوى.
الراجح في المسألة:
رجّح بعض المحدثين مذهب الجمهور، قالوا: والحق من هذه المذاهب هو المذهب الأول، وهو مذهب الجمهور القائل بأن نسخ المتواتر بالآحاد لا يجوز شرعًا مطلقًا.
قال: وقلت ذلك لا بسبب ما استدلوا به من رد عمر لخبر فاطمة، وقد أجبنا عن ذلك، ولكن قلت ذلك بسبب أننا نتبع الأدلة الشرعية، فما وُجد منها متواترٌ نسخه خبر آحاد. يعني: بالبحث والنظر والتأمل لم يوجد خبر متواتر منسوخ بخبر الآحاد، وهذا يدل على عدم الوقوع، وإذا لم يثبت ذلك دل على عدم الجواز.
وللشيخ الشنقيطي -رحمه الله- كلام مفيد في هذا الباب يحسن ذكره:
قال -رحمه الله-: “التحقيق الذي لا شك فيه هو جواز وقوع نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، والدليل هو الوقوع”.
فكأن الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- يميل إلى رأي الظاهرية في جواز نسخ المتواتر بالآحاد، وأقام على ذلك الأدلة، قال: “أما قولهم: إن المتواتر أقوى من الآحاد، والأقوى لا يرفع بما هو دونه، فإنهم قد غلطوا فيه غلطًا عظيمًا مع كثرتهم -ومراد الشنقيطي -رحمه الله- الجمهور- وعلمهم وإيضاح ذلك أنه لا تعارض البتة بين خبرين مختلفي التاريخ؛ لإمكان صدق كل منهما في وقته، وقد أجمع جميع النظار أنه لا يلزم التناقض بين القضيتين إلا إذا اتحد زمنهما، أما إن اختلفا فيجوز صدق كل منهما في وقته، فلو قلت: النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس، وقلت أيضًا: لم يصلِّ إلى بيت المقدس. وعنيت بالأولى -يعني بالمقالة الأولى- ما قبل النسخ، وبالثانية ما بعده؛ لكانت منهما صادقة في وقته”.
هذا توجيه الشيخ الشنقيطي لجواز نسخ المتواتر بالآحاد، ثم قال -رحمه الله:
ومثال نسخ القرآن بأخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه نسخ إباحة الحمر الأهلية مثلًا المنصوص عليها بالحصر الصريح في آية {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145]. قال: “فهذه منسوخة بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها؛ لأن الآية من سورة الأنعام وهي مكية -أي نازلة قبل الهجرة- بلا خلاف، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة واقع بعد ذلك في خيبر، ولا منافاة البتة بين آية الأنعام المذكورة، وأحاديث تحريم الحمر الأهلية لاختلاف زمنهما؛ فالآية وقت نزولها لم يكن محرمًا إلا الأربعة المنصوصة فيها، وتحريم الحمر الأهلية طارئ بعد ذلك، والطروء ليس منافاة لما قبله، وإنما تحصل المنافاة بينهما لو كان في الآية ما يدل على نفي تحريم شيء في المستقبل غير الأربعة المذكورة في الآية”.
قال -رحمه الله-: “وهذا لم تتعرض له الآية، بل الصيغة فيها مختصة بالماضي؛ لقوله تعالى: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} بصيغة الماضي، ولم يقل: “فيما سيوحى إلي” في المستقبل، وهو واضح كما ترى -والله أعلم”.
هذا جواب الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- ومناقشته لدليل الجمهور الأول وهو قوله: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية.
قالوا: “وأما آية الوصية للوالدين والأقربين، فالتحقيق أنها منسوخة بآية المواريث، والحديث بيان للناسخ، وبيان المتواتر لا يشترط فيه التواتر -كما تقدم- والحديث يشير إلى أن الناسخ لها آيات المواريث؛ لأن ترتيبه صلى الله عليه وسلم نفي الوصية للوارث بالفاء على إعطاء كل ذي حق حقه؛ يعني: الميراث في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) يدل على ذلك”.
ثم ناقش -رحمه الله- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت” فقال: وأما قول عمر رضي الله عنه: “لا ندع كتاب ربنا…” إلى آخره. فالحق في ذلك ليس معه رضي الله عنه بل مع المرأة المذكورة، وهي فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: “إن زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى”، وعندما سمعت فاطمة بنت قيس قول عمر: “لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة…” إلى آخر الحديث قالت: “بيني وبينكم كتاب الله تعالى قال الله تعالى: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} حتى قال: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فأي أمر يحدث بعد الثلاث”. وقد صرح أئمة الحديث بأنه لم يثبت من السنة ما يخالف حديثها، فالسنة معها، وكتاب الله معها، فلا وجه للاستدلال بمخالفة عمر لما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من حفظ حجةٌ على من لم يحفظ. والذي يظهر لي والله تعالى أعلم -والكلام للشيخ الشنقيطي- أن عمر لم يخالفها، ولكنه لم يثق في روايتها؛ وعلى هذا فلا منافاة إذًا”. اهـ.
وأنت ترى في كلامه أنه يميل ويختار مذهب من يقول: نسخ المتواتر بخبر الآحاد إذا كان ثابتًا صحيحًا.
وعند التحقيق -وهذا الذي نميل إليه والله تعالى أعلم- نرى جواز نسخ المتواتر بخبر الآحاد الثابت الصحيح خبر المتواتر ينسخ بالآحاد إن كان خبر الآحاد ثابتًا وصحيحًا.
وإن قلتم: إن المتواتر أقوى من الآحاد. قلنا: قد تكون دلالة الآحاد أقوى من دلالة المتواتر، فمثلًا: العموم قطعي الثبوت لكنه ظني الدلالة، والخصوص أو اللفظ أو النص الخاص ظني الثبوت لكنه قطعي الدلالة، ومع ذلك نحن نحكم بالخاص على العام، وعلى ذلك فلو قلنا بجواز نسخ المتواتر بالآحاد فلنا ما يؤيدنا في هذه المسألة.
ثانيًا: نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد عقلًا:
هل يجوز عقلًا أن تنسخ السنة الآحادية القرآن الكريم والسنة المتواترة أو لا يجوز عقلا؟
ولعل الداعي إلى السؤال هو أن القرآن -كما تعلمون- قطعي الثبوت، وكذلك السنة المتواترة قطعية الثبوت، أما خبر الواحد فهو ظني الثبوت، فهل يرقى خبر الواحد وهو ظني الثبوت في نسخ القرآن والسنة المتواترة، وكل منهما قطعي الثبوت؟ هذه جزئية تكلم العلماء فيها من الناحية العقلية.
المنسوخ معي في هذه الحالة يكون نصًّا قرآنيًّا أو نصًّا من السنة المتواترة، والناسخ هو خبر الواحد، هل هذا من الناحية العقلية جائزٌ وممكنٌ أم لا؟
اختلف أهل العلم في جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد عقلًا على مذهبين:
المذهب الأول:
وهو مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين، واختاره ابن قدامة في (روضته): أن نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الآحاد من الناحية العقلية جائز، فلا مانع من ناحية العقل أن ينسخ خبر الواحد نصًّا قرآنيًّا أو حديثًا متواترًا. واحتجوا لذلك بدليلين:
الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلًا أن يأتي الشارع بخبر الآحاد ويقول بأنه ناسخ للحكم الفلاني الذي ثبت بالتواتر، يعني: هل هذا فيه ممنوع عقلًا؟ لا، ليس فيه ممنوع عقلًا؛ فيجوز أن يقول الشارع: هذا خبر الواحد، وقد أمرتكم أن تنسخوا به الحكم الفلاني، وهذا الحكم المنسوخ كان قد ثبت وتقرر بالتواتر، فإن الله تعالى ينزل ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا يلزم من فرض وقوعه محال.
إذًا الدليل الأول للجمهور على جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد عقلًا أنه لا يترتب على فرض وقوعه محال.
وهذا المذهب ذكره ابن قدامة في (الروضة) وعبر عنه بالتالي: “فصل: فأما نسخ القرآن والمتواتر من السنة بخبر الآحاد فهو جائز عقلًا؛ إذ لا يمتنع -يعني عقلا- أن يقول الشارع: تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد”.
يعني: هب أن الشارع قال لنا ذلك: تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد على أن يكون المنسوخ قرآنًا أو سنة متواترة. هل في هذا محال عقلًا؟ ليس فيه محال عقلًا. وكل ما لا يترتب على فرض وقوعه محال فهو جائز عقلًا.
الدليل الثاني: أن خبر الواحد دليل شرعي، يعني أنا لو سألتك: هل خبر الواحد دليل شرعي؟ لا يسعك إلا أن تقول: نعم، هو دليل شرعي. وحينئذ أقول لك: إذا كان خبر الواحد دليلًا شرعيًّا يجوز الرفع به -أعني النسخ- لأن الدليل طريق إلى معرفة مقصود الشارع.
إذًا نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد جائز عقلًا على رأي جمهور الفقهاء والأصوليين، واختاره ابن قدامة، وهو الصحيح؛ لأنه لا يترتب على فرض وقوعه محال، وكل ما كان كذلك فهو جائزٌ عقلًا؛ ولأن خبر الواحد دليل شرعي فجاز النسخ به؛ لأن الدليل طريق إلى معرفة المقصود من الشارع الحكيم.
هذا هو المذهب الذي ذكره ابن قدامة في (الروضة) واقتصر عليه واكتفى، لكن عند التحقيق وجدنا أن هناك مذهبا آخر في المسألة أعني في مسألة جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد عقلًا، فما هو المذهب الثاني في المسألة؟
المذهب الثاني:
وهو مذهب قوم سماهم الغزالي في (المستصفى) بأنهم الخوارج: أن نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد مستحيلٌ من جهة العقل. ودليلهم على ذلك:
أن ما ثبت بكتاب الله تعالى والسنة المتواترة مقطوعٌ به، وهذا قدر مسلَّم بين كل العلماء، وخبر الواحد مظنون، والمقطوع به -وهو القرآن والسنة المتواترة- لا يُرفع بالمظنون.
الرد على دليل الخوارج:
وصف الجمهور دليل الخوارج بأنه ضعيف، ويمكن أن يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن الحكم في المتواتر، سواء أكان قرآنًا أو سنةً متواترةً، مقطوعٌ به، لكن من حيث الابتداء -يعني من حيث ابتداء الحكم وبداية تشريع الحكم في القرآن أو السنة المتواترة- هذا مقطوع به نسلم بذلك، لكن من حيث الدوام والاستمرار ليس مقطوعًا به.
لكن هل النسخ يرد على المقطوع ابتداء أو يرد على الدوام؟
معلوم أن النسخ يرد على الدوام لا على الأول، فكأن الجمهور يقولون للخوارج: سلمنا أن الأحكام الثابتة بالقرآن والسنة المتواترة قطعية، لكن هذا القطع من حيث الابتداء لا من حيث الدوام، والنسخ إنما يرد على الثاني -أعني على الدوام- لا على الأول الذي هو الابتداء.
الوجه الثاني: إن العام -يعني لفظ العام أو النص الذي دل على العموم- سواء أكان قرآنًا أو سنة، إذا عمل به -يعني عملنا بمقتضى العموم- فلك أن تتصور مثلًا معي أن الشارع قال: اقتلوا المشركين. فهذا أمر فيه عموم بقتل كل المشركين، فإذا عملنا بعموم هذا النص، ثم أخرج منه بعض أفراده، كأن يقول الشارع بعد فترة: لا تقتلوا النساء، ولا تقتلوا الصبيان. فالآن أخرج من هذا العموم بعض أفراده بعد العمل بمقتضى العموم، ماذا تسمون هذا؟ قالوا: يسمى هذا نسخًا لا تخصيصًا، وقد نصَّ على ذلك العلماء، ومع هذا فقد أجازوا إخراج بعض أفراد العام بالآحاد، مع أن العام قد يكون قرآنًا فيكون متواترًا؛ فكأن الجمهور يقولون للخوارج: إذا جوزنا إخراج بعض أفراد العام وأعطيناه حكمًا يخالف حكم العام، وجوزنا ذلك بخبر الآحاد، فلنا أن نجوز ذلك بخبر الآحاد في قضية النسخ.
والحاصل: أن العام ظني الدلالة قطعي الثبوت، والخاص قطعي الدلالة ظني الثبوت، ولماذا كان العام ظني الدلالة؟ -وهذه نقطة مهمة ودقيقة- العلماء يقولون: العام ظني الدلالة؛ لأن ما من عام إلا وهو يقبل التخصيص إلا مواطن ومواضع عددها العلماء، فلما كان العام قابلًا للتخصيص كانت دلالته ظنية، أما الخاص فهو قطعي الدلالة؛ لأن الخاص يعمل بمقتضاه، ولا يحتمل أيَّ شيء آخر، فقالوا: العام ظنيّ الدلالة قطعي الثبوت، والخاص قطعي الدلالة ظني الثبوت، فبينهما تعادل وتكافؤ، ولا شك أن هذا يجري في نسخ المتواتر بالآحاد، وعلى ذلك فلا ينهض دليل الخوارج -وهو أن المتواتر من القرآن والسنة قطعي فلا ينسخ بالظني، وهو خبر الواحد- على إثبات المنع.
تنبيه:
كلام ابن قدامة مفاده وحاصله: أن جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد عقلًا جائز اتفاقًا. لماذا فهمنا هذا من كلام ابن قدامة؟ لأن ابن قدامة-رحمه الله- لم يشر إلى المخالفين -وهم الخوارج- وقد أشار إليهم الغزالي في (المستصفى) فلما لم يشر ابن قدامة إلى المخالفين في ذلك، مع أنه ذكر الخلاف في الجواز الشرعي، وذكر الخلاف في الجواز الشرعي هو مذهب جمهور الأصوليين، فهم يرون أن الجواز العقلي قدر متفق عليه، كما هو اتجاه ابن قدامة -رحمه الله- فإن الجمهور منهم رأوا أنه يعني الجواز العقلي محل اتفاق، أما الجواز الشرعي فهو محل خلاف بين العلماء.
وما سلكه ابن قدامة سلكه جمهور العلماء، لكن بعض الأصوليين أطلق عدم الجواز، قال: “لا يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة بالآحاد” كذا مطلقًا؛ مما يفهم منه أن الخلاف جار في الجواز الشرعي والعقلي معًا. ومن هؤلاء الأصوليين القاضي ناصر الدين البيضاوي ذكر هذا الكلام في كتابه (منهاج الوصول إلى علم الأصول) وابن الحاجب في (مختصره) والكمال ابن الهمام في كتاب (التحرير). وبعض الأصوليين كصنيع الإسنوي -وهو من شراح البيضاوي- جمع بين الفريقين فقال: “إن من جعل الجواز العقلي محل خلاف فليس له ما يعضده إلا ما نقله ابن برهان في (الوصول إلى الأصول)”.
ثم قال الإسنوي -رحمه الله-: “فإما أن يكون هؤلاء اطلعوا على قول ابن برهان واختاروه مذهبًا له، وفيه بُعد -يعني: هذا الكلام بعيد؛ لأن المعروف عن مثل البيضاوي وابن الحاجب أنهم مع الجمهور، ولا يشذون عنهم إلا قليلًا- فلم يبقَ بعد ذلك إلا أن يحمل كلامُهم على أننا لا نحكم بالنسخ عند تعارض المتواتر بالآحاد، بل نعمل بالمتواتر دائمًا وإن تقدم؛ لقوته، ولا نعمل بالآحاد وإن تأخر؛ لضعفه. وبهذا تصبح عبارتهم مؤولة، وليس مرادًا بها ظاهرها. وعلى ذلك -والكلام للإسنوي- ترجع عبارتهم إلى أنه لم يقع نسخ المتواتر بالآحاد ويكون الجواز العقلي ليس محل خلاف، بل هو محل وفاق، ولعل هذا ما دفع ابن قدامة إلى عدم ذكر الخلاف في مسألة الجواز العقلي.
والذي حمل الإسنوي على هذا التوفيق، وأن الدليل الذي استدلوا به على عدم جواز نسخ المتواتر بالآحاد ضعيف، أنهم استدلوا على عدم الجواز بأن المتواتر مقطوع به، وخبر الواحد مظنون، والقطعي لا يرفع بالظني، وقد ضعف الإسنوي هذا الدليل من وجهين -كما ذكرنا.