Top
Image Alt

نسخ المنطوق، ومفهوم الموافقة

  /  نسخ المنطوق، ومفهوم الموافقة

نسخ المنطوق، ومفهوم الموافقة

آراء العلماء في نسخ المنطوق ومفهوم الموافقة:

المسألة الثانية: وهي نسخ الحكم في المنطوق؛ هل يكون نسخًا للمفهوم؟ وبمعنىٍ آخر: إذا نسخ المنطوق؛ فهل يكون ذلك دليلًا على نسخ ما ثبت بالفحوى أو لا؟

اتفق الأصوليون -كما عرفتم الآن- على جواز نسخ حكم المنطوق والمفهوم الموافق معًا، وإنما اختلفوا في نسخ أحدهما مع بقاء الآخر على مذاهب:

المذهب الأول: أنه لا يجوز نسخ أحدهما بدون نسخ الآخر؛ فلا ينسخ المنطوق ويبقى المفهوم، يعني: لا يجوز نسخ المنطوق مع بقاء المفهوم؛ ولك أن تتصور ذلك، صحيح أن هذا لم يقع في الشريعة، لكن لك أن تتصور المسألة في ذهنك حتى يأتي الكلام على أمر متصور، الله تعالى قال في شأن الوالدين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، منطوق الآية هو حرمة التأفيف، ومفهوم الآية هو حرمة الضرب؛ فهب مثلًا: أن الله تعالى نسخ حكم المنطوق، يعني: حكم التأفيف، فهل يبقى حكم المفهوم وهو الضرب ثابتًا ولا يلزم من نسخ المنطوق نسخ المفهوم.

اختلفوا في نسخ أحدهما مع بقاء الآخر على مذاهب:

المذهب الأول: أنه لا يجوز نسخ أحدهما بدون نسخ الآخر؛ فلا ينسخ المنطوق ويبقى المفهوم ولا ينسخ المفهوم، ويبقى المنطوق والمفهوم في مثالنا.

فهل يجوز أن ينسخ الله تعالى ضرب الوالدين ويبقي تأفيفهما؛ هذا معناه نسخ المفهوم وبقاء المنطوق، ويلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر.

المذهب الأول -كما قلت لكم الآن-: أنه لا يجوز نسخ أحدهما بدون نسخ الآخر، وهذا المذهب اختاره ابن قدامة في (الروضة) واختاره القاضي ناصر الدين البيضاوي في كتابه (منهاج الوصول إلى علم الأصول).

المذهب الثاني في المسألة: قال: يجوز نسخ أحدهما بدون الآخر، فينسخ المنطوق ويبقى المفهوم، ولك أن تستحضر المثال أيضًا فينسخ حكم التأفيف ويبقى حكم الضرب وينسخ المفهوم فينسخ المنطوق ويبقى المفهوم، يعني: ينسخ حكم التأفيف ويبقى حكم الضرب وينسخ المفهوم وهو الضرب والشتم والسب ويبقى المنطوق وهو التأفيف فنسخ أحدهما لا يستلزم نسخ الآخر، هذا هو المذهب الثاني في المسألة، أنه يجوز نسخ المنطوق وبقاء المفهوم والعكس بالعكس، وهذا المذهب لبعض الأصوليين، وصححه ابن السبكي في (جمع الجوامع)، واختاره صاحب (مسلم الثبوت) وقال ابن السبكي -رحمه الله-: ويجوز نسخ الفحوى -وقد عرفتم الفحوى الآن- يعني مفهوم الموافقة، دون أصله يعني: دون المنطوق، كعكسه يعني: ويجوز نسخ مفهوم الموافقة وبقاء المنطوق، على الصحيح فيهما، هذا المذهب الثاني في المسألة.

المذهب الثالث: إن نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق، أما نسخ المنطوق -ولك أن تستحضر الصورة مرة ثانية- نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق، فلو نسخنا الضرب والشتم يستلزم من ذلك نسخ التأفيف، أما نسخ المنطوق وهو التأفيف فلا يستلزم نسخ المفهوم الذي هو الضرب وما شابهه، واختار هذا المذهب ابن الحاجب.

المذهب الرابع والأخير في المسألة وهو المختار للآمدي: إن جعلنا مفهوم الموافقة من باب القياس كان نسخ الأصل -يعني المنطوق- نسخًا له، ولا يلزم من نسخ مفهوم الموافقة نسخ الأصل، وإن جعلناه من باب الدلالة اللفظية، فلا يلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر، بل يجوز نسخ المنطوق مع بقاء المفهوم، ونسخ المفهوم مع بقاء المنطوق.

إذًا: في مسألتنا أربعة مذاهب، ولنذكر الآن أدلة هذه المذاهب:

استدل أصحاب المذهب الأول: على أن نسخ المنطوق يستلزم نسخ المفهوم والعكس، فإذا نسخت حكم المنطوق يلزم من ذلك نسخ حكم المفهوم، وإذا نسخت حكم المفهوم يلزم من ذلك نسخ حكم المنطوق، استدلوا على ذلك بقولهم: أما أن نسخ المنطوق يستلزم نسخ المفهوم ولك أن تستحضر صورة معينة في ذهنك؛ نسخ المنطوق في آية: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ما هو المنطوق حرمة التأفيف، فيقولون: نسخ المنطوق، يعني نسخ حرمة التأفيف يستلزم نسخ المفهوم الذي هو حرمة الضرب، قالوا: لأن المفهوم تابع للمنطوق، وإذا زال المتبوع زال التابع لا محالة.

وأما نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق قالوا: لأن المفهوم لازم للمنطوق ورفع اللازم يستلزم رفع الملزوم، هذا دليل المذهب الأول في المسألة، وهم الذين يرون أن نسخ المنطوق يستلزم نسخ المفهوم والعكس صحيح.

أما المذهب الثاني: فاستدل أصحابه على أن نسخ أحدهما لا يستلزم نسخ الآخر، يعني: نسخ المنطوق لا يستلزم نسخ المفهوم، فيمكن ينسخ حرمة التأفيف ولا ينسخ حرمة الضرب والعكس صحيح.

قالوا: بأن إفادة اللفظ للمنطوق والمفهوم دلالتان متغايرتان، فجاز رفع كل واحدة منهما بدون الأخرى، يعني: هذه دلالة منطوق، وهذه دلالة مفهوم، ودلالة المنطوق غير دلالة المفهوم، وعلى ذلك يجوز رفع كل واحدة منهما بدون رفع الأخرى.

أما المذهب الثالث: وهو الذي اختاره ابن الحاجب فقد استدل على مدعاه -وهو أن نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق دون العكس، نسخ المفهوم- يعني: نسخ الضرب يستلزم نسخ التأفيف؛ أما نسخ التأفيف لا يستلزم نسخ الضرب، هذا حاصل مذهب ابن الحاجب؛ أن نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق دون العكس.

ودليل ابن الحاجب: أن نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق فلأن المفهوم لازم، ورفع اللازم يستلزم رفع الملزوم.

قلنا: هل عندك مثال بياني يوضح لنا هذا الدليل؟

قال: وبيان ذلك بالمثال قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فإنه يدل بمنطوقه على تحريم التأفيف، ويدل بمفهومه الموافق على تحريم الضرب، وتحريم التأفيف ملزوم لتحريم الضرب، وتحريم الضرب لازم لتحريم التأفيف، ونسخ المفهوم دون نسخ المنطوق محال، أي: نسخ تحريم الضرب مع بقاء تحريم التأفيف محال؛ لأن رفع اللازم يستتبعه رفع الملزوم، أي: نسخ تحريم الضرب يستتبعه نسخ تحريم التأفيف.

قال: وأما أن المنطوق لا يستلزم نسخ المفهوم فلأن المنطوق ملزوم والمفهوم لازم ورفع الملزوم لا يستلزم رفع اللازم، لجواز أن يكون الملزوم أخص واللازم أعم ورفع الأخص لا يستلزم رفع الأعم.

قلنا: بين لنا ذلك يا ابن الحاجب فإن في الكلام إغلاقًا.

قال: وبيان ذلك على المثال الذي تقدم أن رفع تحريم التأفيف مع بقاء تحريم الضرب جائز؛ لأنه يمكن رفع الملزوم وهو تحريم التأفيف مع بقاء اللازم وهو تحريم الضرب، وقد يقال دفعًا لكلام ابن الحاجب، إن الملزوم وهو المنطوق مساو للازم وهو المفهوم، فرفع الملزوم رفعٌ للازم، إلى هنا انتهى دليل المذهب الثالث الذي اختاره ابن الحاجب -رحمه الله-.

أما دليل المذهب الرابع: وهو الذي اختاره الآمدي، وهو إن جعلنا مفهوم الموافقة من باب القياس كان نسخ المنطوق نسخًا للمفهوم دون عكس، وإن جعلناه من باب الدلالة اللفظية فلا يلزم لأحدهما نسخ الآخر، بل يجوز نسخ المنطوق مع بقاء المفهوم ونسخ المفهوم مع بقاء المنطوق، قال الآمدي -رحمه الله-: إن جعلنا المفهوم الموافق من باب القياس كان المفهوم فرعًا والمنطوق أصلًا، وأنت قد عرفت في الدروس السابقة: أن القياس له أركان أربعة؛ أصل وهو المقيس عليه، وفرع وهو المقيس، وحكم أصل وهو الذي ثبت بنص، وعلة يعني: جامعة بين الأصل والفرع؛ فالآمدي يقول: إن جعل المفهوم الموافق من باب القياس يجعل المفهوم فرعًا ويجعل المنطوق أصلًا، والفرع إنما ثبت حكمه لاعتبار علة أصله، فإذا نسخ حكم الأصل فقد زال اعتبار العلة، فيرتفع حكم الفرع تبعًا لذلك يعني لارتفاع حكم الأصل بخلاف ما إذا نسخ حكم الفرع، لو نسخنا حكم الفرع، لوجود ما ينسخه، فإن حكم الأصل لا يزال باقيًا لوجود الدليل عليه مع عدم المعارض له؛ لأن رفع التابع لا يوجب رفع المتبوع، هذا إن جعلنا مفهوم الموافقة من باب القياس، وإن جعل المفهوم الموافق من قبيل الدلالة اللفظية، فظاهر أن الدلالتين متغايرتان فرفع حكم إحداهما لا يستلزم رفع حكم الأخرى، هذا حاصل دليل الآمدي -رحمه الله- على ما ذهب إليه، وبهذا نكون قد انتهينا من المسألة الثانية من المسائل التي أوردها ابن قدامة -رحمه الله- في مسألة نسخ المنطوق والمفهوم الموافق.

error: النص محمي !!