نشأة الشعر الأندلسي، والعوامل المؤثرة في ذلك الشعر
نشأة الشعر الأندلسي:
إن الذين اضطلعوا ببذر البذور الأولى للأدب الأندلسي في تلك البلاد هم العرب الوافدون عليها، فهؤلاء عندما ذهبوا إلى تلك البلاد شعروا بالحنين إلى أوطانهم الأولى؛ فعبَّرُوا عن هذا الحنين بشعرهِم وأدبهم، وباستمرارهم في هذه البيئة، واستقرارهم فيها مثَّلُوا الجيل الأول، والبذرة الأولى لهذا الأدب عندما تأثروا بالبيئة الجديدة والحياة الجديدة، فأضافت هذه البيئة، وأضافت تلك الحياة إلى أدبهم وإلى شعرهم، وَعُدَّ إبداعُهُم في هذه البيئة الجديدة أدبًا أندلسيًّا تربَّى عليه بعد ذلك وتتلمذ عليه أجيالٌ من الذين نشئوا نشأةً خالصةً، ووُلدوا في هذه البلاد من سُلالة العرب، ثم حدث امتزاج بين العرب وغيرهم من الأجناس التي كانت موجودةً في هذه البلاد، وتعاقبتْ الأجيالُ التي تتعلم اللغة العربية وتُتقنها، وتعبّر بها شعرًا ونثرًا، وبتعاقب هذه الأجيال تراكمت النصوص الإبداعية، وكثرة الدراسات حولها؛ فَتَكَوَّنَ هذا الأدب الغني الثري الذي هو الأدب الأندلسي.
العوامل المؤثرة في الشعر الأندلسي:
لقد كانت هناك عوامل أدت إلى انتعاش هذا الأدب وتقدمه وازدهاره، ومن أهم هذه العوامل:
أ. توافر البيئة الصالحة لنموِّ هذا الأدب وكثرتِهِ وازدهارِهِ:
البيئةُ الاجتماعيةٌ:
المقصود بها الناس الذين يعمرون الأرض ويشعرون ويفكرون ويحسّون ويريدون أن يعبّروا عن أفكارهم وعن مشاعرهم وعن مواقفهم، ويريدون أن يصوروا ما يختلجُ في نفوسِهِم من شوقٍ وحنينٍ وأملٍ وألمٍ، هذه هي البيئة الاجتماعية؛ بيئة الأدباء وبيئة الشعراء، والمثقفين، الذين يحسنون التعبير عن أنفسهم.
وكما قلت تشكلت هذه البيئة في أول الأمر من هؤلاء الوافدين من العرب على تلكَ البلاد؛ ممن يحسنون التعبير، ويتكلمون العربيةَ ويتقنونها قبل أن يتكلمها ويتقنها أهلُ البلاد الأصليون، ولقد نشطت هذه البيئة الاجتماعية بمرورِ الأيامِ، وتعددَتْ اتجاهاتها، وأتقن عددٌ كبيرٌ من الناس اللسان العربي، وأَخَذَتْ هذه البيئة تستمدُّ من العلماء، ومن الأدباء، ومن الفلاسفة ما يوسِّعهَا وينميها ويعبر عن الحياة الجديدة والحضارة الجديدة في بلاد الأندلس.
البيئة الجغرافية:
كانت بلاد الأندلس تتمتع بمناخٍ طيبٍ وجوٍّ لطيفٍ وتربةٍ صالحةٍ، وفيها جبالٌ شامخةٌ وأنهارٌ جاريةٌ وجمالٌ ساحر، وكل هذه المشاهد كانت مغريةً للأدباء وللشعراء وللكتاب أن يَصِفُوها، وكانت هذه البيئة موحيةً لكثيرٍ منهم بالرائق من القول والرائع من البيان، وحَفِلَت هذه البيئة بمشاهد الطبيعة الباهرة، ومناظرها الآسرة، وقد استطاع الأدبُ أن يُخَلِّدَ صورًا بديعة في وصف هذه البيئة، ما يزال الدارسون يتملون جمالها إلى يومنا هذا وستظل إلى ما يشاء الله شاهدةً على أن العرب كانوا هناك، وأنهم وصفوا هذه البيئة، وخلد ذكر هذه البيئة في أدبهم وشعرهم.
ب. الرغبة في استقلال الشخصية الأدبية للأندلس:
رغب الأندلسيون -منذ أن دخلها عبد الرحمن الداخل المسمى بـ”صقر قريش”- أن تكون بلاد الأندلس في أدبها مستقلة عن بلاد المشرق، وظهر ذلك جليًّا في آثار الأندلسيين التي حاولوا فيها أن يجددوا، وأن يتميزوا عن نظرائهم المشرقيين.
وكانت هذه الروح -كما يقول الدكتور إبراهيم أبو الخشب -عليه رحمة الله- كفيلة بأن تحقق للأندلس معنى الاستقلال الفكري والأدبي، وصارت الحياةُ الجادةُ التي كانت تحياها البلاد تعمل ما وسعها العمل على أن يكون الأدب ناهضًا متوثّبًا، لا ينتكس ولا يرتكس، ولا يتقاعس أو يتخلف، بل يسير على قَدَمِ المساواة مع المشرق، ويعمل الحاكمون في الأندلس على إغداق الهبات والعطايا على أهل هذا الأدب والمبدعين له؛ إغراءً لهم بالمزيد منه، كما كان يفعل المنصور والمهدي والرشيد والمأمون، وغيرهم من الخلفاء العباسيين.
إذن، أرادَ الخلفاءُ والأمراءُ في بلاد الأندلس أن يكونوا مشابهين للخلفاءِ والأمراءِ والولاةِ العباسيين في تشجيعهِم للأدب، وبالفعل كانت مجالس الخلفاء والأمراء في بلاد الأندلس حافلةً بالعلمِ والأدبِ، ويحضرها كبار العلماء والأدباء، كما كان الشأنُ في قصور الخلفاء والأمراء والولاة من بني العباس.
إذن، نحن نجد تنافسًا في تشجيعِ الأدبِ والعنايةِ بِهِ من الحكامِ في الأندلسِ؛ رغبةً منهم في أن يكون الأدب الأندلسي مساويًا أو مناظرًا للأدب العباسي، ورغبة منهم في أن يذكرهم التاريخ ويذكر لهم أنهم كانوا يشجعون هذا الأدب كما كان يشجعه خلفاء بني العباس.
ج. الرحلة:
كانت الرحلة الدائمة بين المشرق والمغرب؛ بين عاصمة الخلافة الإسلامية في المشرق –بغداد- والأندلس أثر كبير في تطور الأدب الأندلسي؛ فما من عالم نبغ هنالك، ولا أديب نَبُهَ شأنه ولا لغوي ملأ المجالس وتصدر الصفوف- إلا وقد تتلمذ لبغداد، ودمشق ومصر والقيروان، وأخذ عن علمائها، وجلس إلى أدبائها، وتلقى عن أئمتها، وروى عن الثقات من أهلها، ثم تحدث عن ذلك في جهارة صوت واعتزازِ نفسٍ وشممِ أنفٍ.
فالمشرق في ذلك الوقت كان يمثَّل بالنسبة للأندلسيين درجةَ الأستاذ والمعلم، وكان الأندلسيون الذين يذهبون إلى المشرق، ويأخذون عن مشايخه ويقابلون علماءه وأدباءه وشعراءه كانوا يفاخرون بذلك، فهذه الصلة الوثيقة التي كانت، وهذه الرحلة التي استمرت بين الشرق والغرب علماء وأدباء كثيرون أندلسيون يقصدون بلاد الشرق للتتلمذ على أئمة الأدب والفكر هناك، وفي المقابل كان كثيرٌ من الأدباء والعلماء المشارقة أيضًا يذهبون إلى تلك البلاد الجديدة، ويأخذون معهم ما يستطيعون حملَهُ من الكتب؛ فمن الطبيعي جدًّا أن يكون لهذا العامل أثرٌ في نهضة الأدب الأندلسي، وأن يكون للشعرِ المشرقيِّ دورٌ في نهضةِ الشعرِ الأندلسي.
وهذه الرحلة، وهذا التبادل الثقافي والأدبي بين بغداد ودمشق والقاهرة، وغيرها من الحواضر في شرق العالم الإسلامي، وبين بلاد الأندلس- أدَّى إلى توسّعِ الثقافةِ والأدبِ في تلك البلاد، ونشأت هناك عواصم للثقافة، تُشبه بغداد، وتشبه دمشق، وتشبه القاهرة، كان من هذه العواصم -مثلًا- قرطبة التي أخذت تنافس بغداد في العلوم والفنون واقتناء الكتب، واستهواء العلماء للإقامة بها؛ إذ جاءها كثيرٌ من العلماء، وجاءها كثير من الأدباء والشعراء، وأخذوا يختلفون إلى مجالسها وقصور الخلفاء بها.
وممن وفد إليها عالم الشرق اللغوي الشهير أبو علي القالي صاحب كتاب (الأمالي)، وقد تلقَّاهُ الحكم بن الناصر بأمر أبيه وأنزله منزلةً رفيعةً، وكان ممن وفد إلى قرطبة من المشرق أيضًا زرياب المغني، الذي علا صيته في المشرق في الدولة العباسية، وإليه يرجع الفضل في إصلاح الغناء والنهضة بصناعته في بلاد الأندلس، وكان الطريق من بغداد إلى قرطبة آهلًا بالراحين الغادين من العلماء والأدباء؛ إذ كانت قرطبةُ مركزَ العلومِ في بلاد المغرب، يَفِدُ إليها الطلاب من كل مكان، ويرحل إليها الأدباء والشعراء؛ مُشْبِهَةً في ذلك بغدادَ ودمشقَ وغيرهما.
د. عناية الأندلسيين بالأدب أكثر من غيره:
كانت عناية الأندلسيين بالأدب مقدَّمة على عنايتهم بغيره من فروع الثقافة؛ فمنحوا الأدب عنايتهم الفائقة، وساعدهم على ذلك إعجابهم بالبيئة الجديدة، ورغبتهم في التعبير عن حياتهم الجديدة، والحاجة إلى التعبير عن المشاعر في التأكيد تتقدم غيرها من الرغبة في الازدياد من ألوان الثقافة الأخرى.
فالعرب الذين صادَفُوا في هذه البلاد بيئةً مثيرةً للعواطفِ ومعجبةً للنفس، ومنشّطةً للخيال جذبتهم جذبًا إلى التعبير عنها، والتأثُّرِ بها، فكان من حظِّ الأديب أن توجَّهَ الاهتمام به قبل التوجه إلى الاهتمام بغيره من أصحاب العلوم الفلسفية والشرعية وغيرها؛ ولذلك نلاحظ أنه في هذا الأدب الأندلسي في أغلبه -وخاصةً في قرونِه الأولى- سَلِمَ هذا الأدب من تعمق الفلاسفة والمناطقة، ومن طغيان مصطلحاتهم، ومن الألفاظ الأعجمية والتراكيب العلمية التي أصابت أدب المشارقة بعدما نَشِطَ عندهم البحث الفلسفي، واختلطوا اختلاطًا كبيرًا بغيرهم من الأعاجم.
ونجد أنَّ في الأندلس اتجهت عناية الجميعِ -لا فرق بين أمير وغيره- إلى هذا الأدب؛ فزاد عشّاقه وكثرت مجالسه في أشهر المدن، وتزاحم عليها طُلاب العلم، وشداة الأدب من الرجال والنساء؛ ولذلك نرى ظاهرة أيضًا من الظواهر اللافتة للنظر في الأدب الأندلسي، وهي كثرة الشواعر، ففي الأندلس شاعرات كثيرات، مما يدل على أن الأدب في هذه البلاد تعاطه كلُّ النَّاس -أو أكثر الناس- لا فرق بين رجل وامرأة.
وكان من المفروض على الأديب في تلك البيئة أن يكون مُلِمًّا، كما يقولون في تعريف الأدب: بأنه الأخذُ من كل فنٍّ بطرف، فكانوا يطلبون من الأديب خاصةً لينال منزلة كبيرةً في الدولة أن يكون جامعًا بين ألوانٍ من الثقافة تخدمه في تعبيره الأدبي، وأحيانًا نجدُ الثقافةَ الموسوعيةَ تتمثَّلُ في بعض هؤلاء المشتغلين بالأدب، فيكون الرجل شاعرًا ومفسِّرًا وفقيهًا وطبيبًا، أو مشتغلًا بعلوم الفلسفة في الأوقات التي سُمِحَ فيها بالنشاط الفلسفي؛ لأن الفلسفةَ كانت في الأندلس لا تحظى بالعناية، ولا بالترحيب في كثيرٍ من الأحيانِ؛ فلذلك نجد -مثلاً- ابن حزم الأندلسي مثالًا لهذا النمط من العلماءِ الأدباءِ، فهو فقيهٌ فيلسوفٌ شاعرٌ أديب.
هـ. المجالس الأدبية والعلمية التي كانت تعقد في مجالس -أو في قصور- الخلفاء والولاة:
يحدِّثُ التاريخ مثلًا: أن مجالس المنصور بن أبي عامر بقصره المسمى بـ”الزاهرة” لم يكن يُدانيها في قدرها وجلالها وفخامة أمرها سواها، وكثيرًا ما كانت تدور رحى هذه المجالس على أبي العلاء صاعد اللغوي المشهور بكتابه (الفصوص).
ومن أمثلة ما كان يدور في هذه المجالس: أنه دخلَ على المنصورِ ذات يوم ابنُ العرِّيفِ النحوي، وهو في الموضع المنسوب إليه المسمى بالعامرية فمدحه بأبيات جاء فيها قوله:
فالعامريةُ تَزْهِي | * | على جميعِ المَبَانِي |
وَأَنت فيها كسيفٍ | * | قَد حَلَّ في غِمْدَانِ |
فقال صاعد: أسعد الله الحاجب، أنا أقول ارتجالاً أحسن من هذا، فقال له المنصور: هاتِ ما عندك فقال صاعد:
يا أيُّهَا الحاجبُ المُعْـ | * | ـتَلي على كِيوَانِ |
وَمَن بِهِ قَدْ تَنَاهى | * | فَخَارُ كلِّ يَمَانِ |
العــامـــريةُ أضـــحـت | * | كجنَّةِ الرضوانِ |
فريدةٌ لفريدٍ | * | من أهلِ هَذَا الزمانِ |
انظر إلى النَّهْرِ فيها | * | يَنْسَابُ كالثعبانِ |
والطيرُ يخطبُ شكرًا | * | عَلى ذُرَى الأغصانِ |
والقطب تَلْتَفَّ سُكْرًا | * | بمَيِّسِ القضبان |
والروضُ يفتر زَهْوًا | * | عَن مبسمِ الأقحوانِ |
والنرجس الغض يرنو | * | بوجنة النعمان |
وراحةِ الريح تمتا | * | ر نفحةَ الريحانِ |
فَدُمْ مدى الدهر فيها | * | في غبطةٍ وأمانِ |
فاستحسن المنصور ارتجاله، وقال لابن العريف: ما لك فائدة في مناقضة من هذا ارتجاله. فقال ابن العريف: إنما أنطقه، وقرَّب عليه المأخذ إحسانُكَ إليه، فقال له صاعد: ومعنى هذا أن قلة إحسانه إليك أسكتتك، وبَعَّدَتْ عليك المأخذ؟! فضحك المنصور، وقال: غير هذه المنازعة أليق بأدبكما.
ومما أورده الدكتور إبراهيم أبو الخشب في ذلك أيضًا، قال: وحكى الوزير الكاتب أبو المغيرة بن حزم، قال: نادمت المنصور، وقد غنتْنَا جاريةٌ تسمى “أنس القلوب” فقالت:
قدمَ الليلُ عند سيرِ النهارِ | * | وَبَدَا البدْرُ مثل نصف السوارِ |
فكأنَّ النهارَ صفحةُ خَدٍّ | * | وكأنَّ الظلامَ خَطُّ عِذَارِ |
وكأنَّ الكئوسَ جامدُ ماءٍ | * | وكأنَّ المُدَامَ ذائبُ نارِ |
نَظَرِي قَد جَنَى عَلَيَّ ذنوبًا | * | كَيْفَ مِمَّا جَنَتْهُ عيني اعْتَذَارِي |
يالقَوْمِي تعجبُوا من غَزَالٍ | * | جَائِرٍ في محنتِي وهو جارٍ |
ليتَ لَوْ كَانَ لي إليه سبيل | * | فَأَقْضِي من الهَوَى أَوْطَارِي |
قال: فلما أكملت الغناء أحسست بالمعنى، فقلت:
كيف كيف الوصولُ للأقمارِ | * | بين سُمْرِ القَنَا وَبِيضِ الشِّفَارِ |
لو علمْنَا بأن حبَّكَ حقٌّ | * | لطلبنا الحياة منك بثارِ |
وإذا ما الكرامُ هَمُّوا بشيء | * | خاطروا بالنفوس في الأخطارِ |
قال: فعند ذلك بادر المنصور لحسامه وأغلظ في كلامه، وقال: قولي واصدقي إلى من تشيرين بهذا الشوق والحنين، فقالت الجارية: إن كان الكذب أنجى فالصدق أحرى وأولى، والله ما كانت إلا نظرة ولَّدَت فكرة، فتكلم الحب على لساني، وبرَّحَ الشوقُ بكتماني، والعفو مضمون لديك عند المقدرة، والصفح معلوم منك عند المعذرة، ثم بكت، فكأن دمعها درٌّ تناثر من عقد، أو طلٌّ تساقط من وَرْدٍ. وأنشدت:
أذنبت ذنبًا عظيمًا | * | فكيف منه اعتذاري |
واللهُ قَدَّرَ هَذَا | * | وَلَم يَكُنْ باخْتَيَارِي |
والعفو أحسن شيء | * | يكون عند اقتدارِ |
قال: فعند ذلك صرف المنصور وجهه إلي، وسلَّ سيفَ السخط عليَّ؛ فقلت: أيدك الله تعالى، إنما كانت هفوة جرها الفكر، وصبوة أيدها النظر، وليس للمرء إلَّا ما قُدِّرَ له لا ما اختاره، فأطرق المنصور قليلاً ثم عَفَا وصفَحَ، ووهب لي الجارية، فانصرفتُ بها إلى منزلي وتكامل سروري.
ومن أعجب ما جرى لصاعدٍ، وكان في مجلس المنصور، وقد أُحضرت إليه وردةٌ لم يتمَّ تَفَتُّحُ أوراقِهَا، فألهمته البديهة أن يقول فيها:
أَتَتْكَ أَبَا عَامِرٍ وردةٌ | * | يَذَكِّرُكَ المسكُ أنفاسَهَا |
كعذراءَ أبصرهَا مُبْصِرٌ | * | فَغَطَّت بأكمامِهَا رَأَسَهَا |
فَسُرِّ بذلك المنصور، وراعته تلك البديهة من صاعد، إلا أن ابن العريف أخذته الغيرة، واستولى عليه الحسد، وقال للمنصور: لم يكن هذا الشعر من قول صاعد، ولكنه من منقوله، وقد أنشدني هذين البيتين بعض البغداديين، وهما عندي على ظهر كتابٍ بخطِّهِ، فقال المنصور: أرنيه فخرج ابن العريف وركب دابته حتى أتى مجلس ابن بدر، وكان أحسن أهل زمانه بديهةً فوصف له ما جرى ورجاه أن يصنع له أبياتًا يدسّ فيها بيتي صاعد، فقال ابن بدر:
غدوت إلى قصرِ عباسةٍ | * | وقد جَنْدَلَ النَّومُ حرَّاسَهَا |
فألفيتُهَا وهي في خدْرِهَا | * | وقد صَرَعَ السُّكْرُ أنفاسَهَا |
فقالت: أسارٍ على هجعةٍ | * | فقلت: بَلَى فَرَمَتْ كَأْسَهَا |
ومدت يديها إلى وردةٍ | * | يُحاكِي لك الطيبُ أنفاسها |
كعذراءَ أبصرهَا مُبْصِرٌ | * | فَغَطَّت بأكمامِهَا رَأَسَهَا |
وقالت: خَفِ اللهَ لَا تفضَحن | * | في ابنةَ عمِّكَ عبَّاسَهَا |
فولِّيْتُ عَنْهَا عَلَى غَفْلَةٍ | * | وَمَا خُنْتُ ناسي ولَا نَاسَهَا |
فطار ابن العريف بها وعلقها على ظهر كتاب بخط النصري، ومداد أشقر، ودخل على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه على صاعد، وقال للحاضرين: غدًا أمتحنه، فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد، ولم يبقَ في موضع لي عليه سلطان، فلما أصبح وجه إليه من أحضره وأحضر جميع الندماء فدخل بهم في مجلس قد أعَدَّ فيه طبقًا عظيمًا فيه سقائفُ مصنوعةٌ من جميعِ الأزهارِ، ووضع على السقائف لُعبًا من الياسمين في شكل الجواري، وتحت السقائف بركةُ ماء، وقد أُلقي فيها اللآلئ مثل الحصباء، وفي البَرْكَةِ حيّة تسبح. فلما دخل صاعد ورأى الطبق، قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه، وإما أن تشقى، فصفْ ما ترى فقال صاعد على البديهة:
أبا عامرٍ هل غيرُ جدواك واكفُ | * | وهل غير من عَادَاكَ في الأرضِ خائفُ |
يسوقُ إليكَ الدهرُ كلَّ غريبةٍ | * | وأعجَبُ مَا يلقَاهُ عندكَ واصِفَ |
وشائعُ نور صاغها هامرُ الحَيَا | * | عَلَى حَافَّتَيها عبقرٌ ورفارفُ |
ولمَّا تَنَاهَى الحسنُ فيها تقابلت | * | عليها بأنواعِ الملاهي الوصائفُ |
كمِثْلِ الظبَاءِ المستكنِّة كُنَّسًا | * | تظللها بالياسمينِ السقَائِفُ |
وأعجب منها أنهن نواظرٌ | * | إلى بِرْكَةٍ ضُمَّتْ إليها الطرائفُ |
حَصَاها اللآلي سابحٌ في عُبَابِهَا | * | من الرَّقْشِ مسمُومُ الثعابين زاحفُ |
تَرَى مَا تَرَاهُ العينِ فِي جَنَبَاتِهَا | * | مِنَ الوحْشِ حتَّى بينهنَّ السَلَاحِفُ |
وكانت إلى ناحية تلك السقائف سفينةٌ فيها جارية من النوار تجدف بمجاديف من ذهب لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت، إلا أنك أغفلت ذكر المراكب والجارية، فقال صاعد من غير أن يتروى أو يتمهل:
وأعجبُ منها غادةٌ في سفينةٍِ | * | مكللةٍ تصبو إليها المَهَاتِفُ |
إذا رَاعَهَا موجٌ من الماء تَتَّقِي | * | بسكانِهَا ما أنذَرَتْهُ العواصفُ |
مَتَى كانت الحسناءُ رُبَّانَ مركبٍ | * | تُصَرَّفُ في يُمْنَى يَدَيْهَا المجادف |
إلى آخر ما قال، فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب، ورَتَّبَ له في كل شهر ثلاثين دينارًا وألحقه بالندماء.
تدل هذه الأخبار على أثر تلك المجالس في ازدهار الأدب والشعر في بلاد الأندلس.