Top
Image Alt

نشأة النقد الأدبي

  /  نشأة النقد الأدبي

نشأة النقد الأدبي

قررنا فيما سبق أن النقد متصل بالأدب ومرتبط به، وأن الأدب هو المادة التي يعمل فيها النقد؛ ومن هنا كان النقد الأدبي في عصوره المتتابعة مرتبطًا بالأدب العربي في تلك العصور.

والحديث عن النقد الجاهلي أو النقد الأدبي في العصر الجاهلي، هو حديث عن نشأة هذا الفن؛ فن النقد الأدبي، وهذه النشأة مرتبطة بتاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي، والدارسون للأدب العربي يقررون أن النصوص الشعرية التي وصلت إلينا من هذا العصر أكثر من النصوص النثرية؛ أي: إن المادة الأدبية التي دار عليها النقد في العصر الجاهلي كان أكثرها من الشعر، لا النثر.

أما كثرة الشعر التي وصلتنا عن العصر الجاهلي عما يماثلها من نصوص نثرية، فذلك مردّه إلى أن العرب كانوا يعتمدون في حفظ هذا الأدب على الذاكرة، والذاكرة يسهل عليها حفظ الشعر أكثر مما يسهل عليها حفظ النثر، هذا يمكن أن يكون السبب الأول في ضياع أكثر النثر الجاهلي، كما هو معروف في تاريخ الأدب العربي.

إذًا: سنجد نشأة النقد الأدبي العربي في العصر الجاهلي مرتبطة أشد الارتباط بالشعر الجاهلي، وهذا يقودنا إلى الكلام عن نشأة هذا الشعر الجاهلي، والفترة أو المدى الزمني المعتمد في هذه الدراسة، والمدى الزمني المعتمد في دراسة الأدب الجاهلي هو قرنان من الزمان تقريبًا قبل ظهور الإسلام، هذه الفترة هي التي نجد فيها شعر الشعراء الجاهليين الأوائل أو القدماء المعروفين لنا؛ مثل: امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وغيرهم من الشعراء الذين احتفظ تاريخ الأدب العربي بأسمائهم وأشعارهم.

ولا نستطيع أن نُوغل في القدم أكثر من هذا المدى؛ لأن الروايات التي تؤثر عما هو أبعد من ذلك يعتورها كثير من الشك، إذًا: سيكون النقد الأدبي في العصر الجاهلي مسايرًا للشعر العربي في العصر الجاهلي منذ هذا المدى الزمني، أي: قبل قرنين تقريبًا من ظهور الإسلام.

ومع هذا، فالمؤرخون للأدب العربي يذكرون بعض الروايات التي تعد علامات لهذا المدى الذي نتحدث فيه، فمما ورد من ذلك مثلًا قولهم: إن أول من وطأ متون الشعر: امرؤ القيس بن حجر، ومهلل بن ربيعة، وقد ورد عن الجاحظ قوله: كان أول من قصد القصائد، وذكر الوقائع -أي: الحروب- المهلهل بن ربيعة التغلبي، في قتل أخيه كليب وائلًا، ولما ذُكر امرؤ القيس لعمر بن الخطاب رضي الله عنهقال: سابق الشعراء، مقدم منهم، خسف لهم عين الشعر.

والشعراء الذين نتحدث عنهم في هذا المدى شعراء متقاربون في الزمن، الذي ظهر فيه كل واحد منهم، ولا بد أن هؤلاء الشعراء المعروفين لنا مسبوقون بشعراء آخرين، فيمكن أن يكون هؤلاء الشعراء المعروفون أخذوا الشعر عن غيرهم، ولكن الرواية لم تصل إلى أبعد من ذلك المدى، الذي هو قرنان تقريبًا قبل ظهور الإسلام.

إذًا: نشأة النقد الأدبي مرتبطة بالشعر الجاهلي، وأهم ما يمتاز به النقد الجاهلي: اعتماده على الفطرة والذوق، ولا شك أن العرب كانوا مفطورين على سليقة البيان، وكان التعبير الأدبي الصحيح المصور والمعبر عن الأفكار والمواقف والعواطف أمرًا بالنسبة إليهم ميسورًا جدًّا، مركوزًا في طبائعهم، وكان ميلهم واستجابتهم للنصوص الجيدة، ونفورهم من الكلام المعيب فطرة مركوزة فيهم أيضًا.

ومن هنا كان الجاهليون يصدرون في أحكامهم التي أُثرت عنهم فيما يتعلق بالشعر الجاهلي، عن هذه الفطرة البيانية السليمة، والسليقة العربية الصحيحة، والذوق العالي الذي كان بالنسبة لهم شيئًا فطريًّا.

وقد كان لطبيعة حياتهم في البادية، وما أمدّتهم هذه الحياة به من ثقافات معينة مرتبطة بظروف معاشهم ومجتمعهم الذي عاشوا فيه، كان لهذه الحياة وتلك الثقافة أثر واضح في أدبهم، وكان لها كذلك أثر واضح في نقدهم، ولأنهم يعرفون أن البلاغة الإيجاز، وأن جمهور المتلقين في ذلك الزمن كان على قدر عالٍ من البصر بكلام العرب وفهمه، جاءت أحكامهم النقدية في صور موجزة ومقتضبة، وخالية من التفسير والتعليل غالبًا، فالذي يستحسن قولًا يوجز رأيه فيه، والذي يعيب قولًا يوجز رأيه فيه، والسامع قادر على أن يعرف مضمون هذا القول الموجز، من غير أن يفصّل صاحبه فيه تفصيلًا كبيرًا.

وقد كانت نشأة النقد في الجاهلية في حضن البيئات الأدبية، التي كان يشغلها الشعراء والخطباء، ومن عُرفوا بقول الحكمة وسداد الرأي، وعدم الميل مع الهوى، ومن الشعراء والحكماء الذين اشتُهروا في العصر الجاهلي، وكان لهم إسهام واضح في الشعر العربي، وفي النقد كذلك: طرفة بن العبد، والنابغة الذبياني، وربيعة بن حذار الأسدي.

ومع أن التاريخ الأدبي احتفظ لنا بهذه الأسماء، فإن جمهرة العرب في مختلف القبائل كانوا يستحسنون أو يستهجنون ما ينشد لهم من أشعار، وكان الأعشى الشاعر المشهور يتغنّى بأشعاره في محافلهم وأسمارهم على آلة موسيقية تسمى “الصنج”، وكانوا يستحسنون شعره، ويُعربون عن استحسانهم لهذا الشعر بسبب غناه الموسيقي.

ولا شك أن الشاعر ناقد بطبعه؛ لأن إحساسه بالجيد والرديء من الكلام أمر فطري وُلد معه، وهذا الأمر الفطري هو الذي يمكنه من الإبداع الجيد، وهو بهذا الوصف يظل ناقدًا ذاتيًّا لعمله الفني، ينظر في عمله ويصححه ويصوبه، وينقده بسبب ما فُطر عليه من إحساس، وما وُهب من شعور، والروايات تذكر أن زهير بن أبي سلمى مثلًا كان يديم النظر في شعره؛ يصححه وينقّحه ويصوبه، وقالوا: إن القصائد كانت تمكث عنده العام، لا يخرجها للناس إلا بعد أن يراجعها ويصححها، ويباعد بينها وبين ما يمكن أن يؤخذ عليها من عيوب.

وأصبح زهير بن أبي سلمى بهذا العمل ناقدًا ذاتيًّا لشعره، وتبعه في هذا الأمر مدرسة سُميت مدرسة عبيد الشعر أو سميت مدرسة الصنعة الشعرية، وهي مدرسة ناقدة بطبيعة الحال؛ لأنهم اتبعوا منهج زهير في النظر في أشعارهم ومراجعتها وتصحيحها، وهذه المدرسة التي كان رأَسها زهير بن أبي سلمى تمتد قبل زهير إلى أوس بن حجر، الذي كان زهير يروي شعره، ثم تمتد في التاريخ الذي جاء بعد زهير متمثلة في ابنه كعب الذي كان راوية لأبيه زهير، ثم الحطيئة الذي كان راوية لكعب، وجميل بثينة الشاعر الأموي الذي كان يروي عن الحطيئة، وهؤلاء جميعًا كانوا من أصحاب المراجعة الشعرية، والنظر، ومعاودة النظر في أشعارهم، وممارسة النقد الذاتي لأنفسهم قبل أن يخرج شعرهم إلى الناس.

وأما الذين نظروا في شعر غيرهم وعلّقوا عليه، فإن تاريخ النقد الأدبي في العصر الجاهلي يذكر من هؤلاء طرفة بن العبد، ويذكر منهم أيضًا النابغة الذبياني الذي جاءت روايات تذكر أنه كان يحكم بين الشعراء الجاهليين في سوق عكاظ.

error: النص محمي !!