Top
Image Alt

نشأة علم اللغة عند العرب

  /  نشأة علم اللغة عند العرب

نشأة علم اللغة عند العرب

مرت نشأة علم اللغة عند العرب بخمس مراحل.

المرحة الأولى: طور الظهور والوضع.

المرحلة الثانية: طور النمو.

المرحلة الثالثة: طور النضج والإبداع اللغوي.

المرحلة الرابعة: طور توسيع مجال الدراسات اللغوية.

المرحلة الخامسة: طور تزاوج الأصالة والتجديد.

أولًا: طور الظهور والوضع:

 لم توضع مباحث علم اللغة طفرة واحدة، بل نشأت كأي علم آخر بسيطًا ثم بعد ذلك نما وتطور واكتمل كيانه.

أسباب نشأة علم اللغة:  هناك سببان رئيسيان:

سبب ديني: وهو العناية بلغة القرآن الكريم، وخدمتها.

سبب قومي: وهو غيرة العرب الشديدة على لغتهم، وحرصهم على أن تظل صافية نقية.

هل كانت للعرب فكرة عن المعاجم -أي: ذهن معجمي- أم أخذ ذلك عن غيرهم؟ العرب كان عندهم الفكر المعجمي بدليل: سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعض الألفاظ وكان يوضحها للصحابة، وسئلت السيدة عائشة عن بعض الألفاظ وكانت توضحها أيضًا؛ “سئلت السيدة عائشة عن الكوثر، فقالت: نهر أُعطيه نبيكم في بطنان الجنة، قالوا لها: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها”. وكذلك أسئلة نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس أيضًا: ما الريش؟ قال: المال. وما الوسيلة؟ قال: الحاجة؛ إذًا كان عند العرب فكر معجمي: اللفظ، ومعناه.

وكذلك في مجالس عبد الملك بن مروان عندما قال لأصحابه أو للذين يجلسون معه في محاضرة ثقافية: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدني؟ فقام له أحد الحاضرين وقال: أنا آتي بها يا أمير المؤمنين، فأتى بحروف المعجم في جسده -يعني يأتي اللفظ: أذن… أنف… إلى آخره، بعدد حروف المعجم- فقام آخر وقال: أنا آتي بها مرتين. فقام سويد بن غفلة فقال: أنا آتي بها ثلاثًا يا أمير المؤمنين. وقام وذكر حروف المعجم لألفاظ في جسده، فقال: أعطوه ما تمنى.

لِمَ لَمْ تؤلف العرب المعجم؟

لم يكن عندهم قديمًا التأليف المعجمي؛ لأن أدوات الكتاب لم تكن موجودة عندهم، فكانت أدوات الكتابة موجودة عند العراقيين وعند المصريين وعند الفينيقيين؛ إنما في شبه الجزيرة العربية كانت صحراء.

فكانت أدوات الكتابة مفقودة، والكتابة -كما يقال- فن من الفنون الحضارية وكانت توجد حيث توجد الأنهار، حتى عندما جاء الإسلام كان الذين يعرفون الكتابة في مكة كان يعدون على الأصابع.

إذن: أول طور من أطوار التأليف في علم اللغة هو طور الظهور والوضع: وتمثل هذا الطور دراسة الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة خمس وسبعين ومائة في كتابه (العين)، الذي رتب فيه كلام العرب ووضع باكورة علم الأصوات العربية، ومن ثم يعد الخليل أول مَن وضع علم اللغة وأبرزه إلى الوجود علمًا مصنفًا.

ثانيًا: طور النمو:

يتمثل هذا الطور في مجالين من الدراسة:

المجالات الدلالية:

مثل: (كتاب النبات) لأبي زيد الأنصاري المتوفى سنة 215 هجرية، وكتاب (خلق الإنسان)، وكتاب (النخل والكرم) للأصمعي المتوفى سنة 216 هجرية، وكتاب (البئر) لابن الأعرابي المتوفى 231 هجرية.

والبحوث في الاشتقاق:

مثل: كتاب (اشتقاق أسماء البلدان) لهشام الكلبي المتوفى سنة 204 هجرية، و(اشتقاق الأسماء) للأصمعي المتوفى سنة 216 هجرية، و(اشتقاق الأسماء) لأبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي المتوفى سنة 231 هجرية.

أول مَن أطلق على الدراسات اللغوية اسم “فقه اللغة”: هو أبو الحسين أحمد بن فارس، وهي تشمل علم اللغة، وفقه اللغة.

ثالثًا: طور النضج والإبداع اللغوي:

هذا الطور وصلت فيه الدراسات اللغوية إلى درجة راقية اكتملت فيه المقدرة اللغوية، واستطاعت أن تستوعب خصائص اللغة وأسرار العربية، تمثل هذا الطور دراسات أبي الطيب اللغوي المتوفى سنة 315 هجرية عن الإتباع، ودراسات ابن جني في كتابيه (الخصائص) و(سر صناعة الإعراب).

وكتابه (الخصائص) يعني خصائص العربية وأسرارها وتعليل الظواهر اللغوية بعللها الحقيقية.

وأيضًا تمثل هذا الطور دراسات ابن فارس المتوفى سنة 395 هجرية، في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة)، وأيضًا في معجميه (مقاييس اللغة) و(الأفراد)، كما تمثل هذا الطور دراسات أبي البركات عبد الرحمن الأنباري المتوفى سنة 577 هجرية في كتابه (أسرار العربية).

وهنا سؤال عن إبداع العرب اللغوي: هل علماء العربية عللوا الظواهر اللغوية بعلل فلسفية، يعني: علل مقتبسة من اليونان أو المنطق الأرسطي؟

لا، إن علل علماء العربية مبنية على الاستثقال والاستخفاف؛ ولذلك قلنا: أدغم التميميون لثقل النطق بالحرفين في ظاهرة الإدغام؛ لأن الإدغام هو النطق بحرفين حرفًا كالثاني مشددًا، أو إدخال الحرف الأول الساكن في الحرف الثاني والنطق بهما حرفًا وحدًا؛ فهنا العلة: ذهب التميميون من الإظهار إلى الإدغام لثقل النطق؛ طلبًا للتخفيف.

رابعًا: طور توسيع مجال الدراسات اللغوية وإثراء العربية وتكثير مفرداتها:

وتمثل هذا الطور دراسات جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هجرية في كتابه (المزهر).

وقد اشتمل كتاب المزهر على موضوعات متعددة من ظواهر اللغة منها:

أصل اللغة: يعني البحث في نشأة اللغة؛ هل هي توقيف أم مواضعة واصطلاح… وما إلى ذلك.

الترادف: وهو المعنى المتعدد اللفظ، نقول “ذراع” و”ساعد”، فالذراع هو الساعد، فالمعنى واحد، ونقول “سكين” و”مُدْيَة”، والمعنى واحد. وعندما قدم أبو هريرة من قبيلته دوس عام خيبر؛ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ناولني السكين)) – وكانت السكين في الأرض- فنظر أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يدرِ ما معنى هذه الآلة؛ فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الطلب وقال: ((ناولني السكين))، فلم يفهم معنى اللفظ، في المرة الثالثة قال: آلمدية تريد؟! آلمدية تريد؟! أوَتُسمى سكينًا عندكم؟!.

المشترك اللفظي -عكس الترادف-: هو اللفظ الواحد له أكثر من معنى، مثل: لفظ “العين”: تطلق على العين الجارحة، وعلى البئر، وعلى أحد النقدين، وعلى سنام الجمل، وعلى النفيس من كل شيء، نقول: هذه القصيدة من عيون الشعر، أو هذا الرجل من أعيان البلد، يعني: من المعروفين المشهورين في البلد.

والتضاد: هو اللفظ الدال على معنيين متقابلين، مثل قديمًا: “السدفة”: الضوء، عند قيس، و”السدفة”: الظلمة، عند تميم.

بعض الأمثلة للتضاد من كتاب (المزهر): “جلل”: يطلق على العظيم، ويطلق على اليسير والقليل، قال الشاعر:  

فلئنْ عفوتُ لأعفونَّ جَلَلا

“لأعفون جللا”، يعني: لأعفون عفوًا عظيمًا؛ لأن الذي يتنازل عن ثأر أخيه عفوه عظيم. والشاعر الآخر يقول:

كلُّ شيءٍ ما خلا الموتَ جللُ

*والفتى يسعى ويُلهيهِ الأملُ

 فهنا معنى جلل: يسير أو حقير.

إذن: تكلم السيوطي في (المزهر) عن كثير من الظواهر اللغوية مثل:  ظاهرة المناسبة بين اللفظ ومدلوله، ومعرفة لغات العرب والغرائب والنوائب، وتداخل اللغات والمعرب، وتطور الدلالة ومعرفة المولَّد وخصائص اللغة والاشتقاق… وغيرها.

خامسًا: طور تزاوج الأصالة والتجديد:

وتمثله الدراسات اللغوية الحديثة، وهي دراسة بدأت من نقطة انتهاء دراسات القدماء؛ فكانت الموازنة بين اللغات المختلفة، وترجمة المؤلفات الحديثة من مختلف اللغات في هذا العلم الذي سما وتلألأ في عالم اليوم، على يد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فدرسوا تراثنا اللغوي بعمق ودقة من جميع جوانبه وأبعاده، وكشفوا عن معطيات العلم العربي، وأضافوا إليها ما جاء به العلم الحديث، وفي هذا أصالة وتجديد، وستظل الأجيال تذكرهم بالثناء والعرفان.

إن جميع النظريات الحديثة لها إشارة في الدراسات القديمة، فنظرية الفونيم دراسة حديثة؛ ولكن نجد ابن جني أشار إليها فقال: إن الصوت الساكن ليس مثل الصوت المتحرك، وأنه ينشأ من هذا الصوت صُوَيت، هو الفونيم. وكذلك في القراءات القرآنية أيضًا عندما ندرسها دراسة متعمقة نجد إشارة إلى الفونيم؛ فنجد أن فيها الإشمام؛ فعند حمزة والكسائي في قوله تعالى: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23]: بنطق الصاد بين الصاد والزاي، يعني بزاي مفخمة.

error: النص محمي !!