نشأة علم اللغة عند الغرب
ما الفرق بين دراسة العرب ودراسة الغرب؟
إن دراسة القدماء العرب دراسة معيارية وهي: نطق اللغة بأسلوب على ما ينبغي أن يكون عليه، على ما يجب أن يكون عليه، فهي أوامر: قل كذا ولا تقل كذا.
ودراسة الغرب دراسة وصفية وهي: نطق الأسلوب أو النص كما هو. سواء كان متمشيًا مع قواعد اللغة أو مع اللغة الفصحى، أو لم يكن متمشيًا معها؛ فهي: تقريرات الناس: يقولون كذا، ونقول كذا.
ونستطيع أن ندرس نشأة علم اللغة عند الغرب في النقاط التالية:
أولًا: متى بدأ الاهتمام باللغة عند الغربيين؟
بدأ الاهتمام باللغة ومشكلاتها عند الغربيين مع فلاسفة اليونان القدماء والنحاة السنسكرتيين الهنود.
الفرق بين اليونان والهنود:
ناقش الأولون اليونانيون أصل اللغة وطبيعتها، وحاول الآخرون -وهم الهنود أو نحاة الهنود- أن يقنّنوا لغتهم ويضعوا لها القواعد الخاصة.
وقد شقّ النحاة اليونانيون في النهاية طريقهم مستقلّين عن الهنود، وتوصّلوا إلى وضع نظام نحوي يناسب لغتهم، وغيرها من اللغات الشبيهة بها في الترقيب.
ولكن في بداية الأمر حتى القرن الثاني عشر وما بعده كانت دراسة الغرب معيارية أكثر منها وصفية، والوعي اللغوي بمعناه الاصطلاحي الحديث المؤسّس على الملاحظة، والتحليل، والترقيب، والتعليم لا مما يفتقده المرء في مثل تلك الدراسات.
وكثيرًا من النتائج الأساسية الصحيحة التي توصّل إليها النحاة الأقدمون كانت من آثار الصدفة أكثر منها من آثار المنهجية. وبين عامي 400 و1000 كان هناك قدر قليل دال على وعي لغوي.
كما أن هناك قليلًا من الشواهد في عصر ما قبل النهضة، تدل على الاهتداء إلى تصنيف اللغات، واكتشاف قرباتها، والعلائق بينها؛ فالصورة إذن من الجانب اللغوي التاريخي ليست مشجعة تمامًا.
ثانيًا: النهضة العلمية وأثر كتاب دانتي عليها:
كان وصف “دانتي” للغة الإيطالية المثالية في كتاب أصدره عام 1305 ميلادية هو نقطة البدء في النهضة العلمية.
وقد قرن بدراسة صائبة عن توالد اللغات، وعن أصل اللغات الإيطالية، والفرنسية، والبروفانسية، والعلاقة بينها، وبتصنيف دقيق في جملته للهجات الإيطالية.
هذه بداية النهضة العلمية، ثم أخذت النهضة تشق طريقها ببطء وبطريقة غائمة نحو الآراء اللغوية الحديثة، وكان الإسهام الأساسي الذي قدمته العصور الوسطى لعلم اللغة، هو محاولة تقديم نحوٍ عالمي صالح للتطبيق، مع إدخال تعديلات مناسبة على كل اللغات.
والفروق الأساسية بين النظرة الوسيطة والنظرة الحديثة، تكمن في العناية بالعناصر اللغوية المختلفة، والاهتمام بنوع معين من اللغات دون الأنواع الأخرى، التي لا تتصل بالمجموعة الهندية الأوربية.
فالنظرة الوسيطة تهتم بنوع معين من اللغات دون أنواع أخرى.
والنظرة الحديثة باتساع المجال الأوربي – تطل على لغات أخرى جديدة غربية شرقية مصرية، وأفريقية وهندية أمريكية.
أسباب اتساع المجال الأوربي:
أولًا: نتيجة الحروب الصليبية.
ثانيًا: الرحلات والاكتشافات والريادات الجغرافية.
المحاولات بعد اتساع المجال الأوربي: بدأت محاولات كثيرة لوضع نحو وصفي لبعض النواة الحديثة والقريبة، وبدأت تظهر مناقشات وخلافات كان يشهوّها في الغالب جهل العلماء بالحقائق المتعلّقة بتصنيف اللغات، وقرباتها اللغوية، وبدأت كذلك مناقشات تتعلق بمستوى الصواب اللغوي، وبمشكلة انقسام اللغة إلى لهجات، وبمشكلة اللهجات الطبقية، وأنه من الأهمية بمكان أن نقول: إن البحث والدرس وإن ظل يعانيان من اضطراب المنهج وخطأ المقدمات؛ فقد حققا في هذه الفترة تقدمًا ملموسًا صار في عدة اتجاهات.
خصائص عصر النهضة: لقد كان عصر النهضة عقلًا فاحصًا، لقد أراد أن يعيش التجرِبة، ويقيم الدليل، ويعرف كل شيء.
ويبعد بقدر الإمكان عن عقلية العصر الوسيط، وقد حمل هذا الاتجاه الذي امتد حتى نهاية القرن الثامن عشر ثمارًا كثيرة، وإن لم تكن جميعها ذات قيمة كبيرة.
اكتمال عصر النهضة، والأعمال التي تمت فيه:
- بمجيء عام 1800ميلادية كانت كثير من الأسس اللغوية قد وضعت، وإن ظلّ هناك عيب واضح في البحث، وهو عدم التزامه منهجًا سليمًا مستقرًّا يعطي ضمانات علمية دقيقة.
- وقد تم وصف كل اللغات المعروفة تقريبًا بطريقة أو بأخرى، وإن أُكره بعضها؛ ليخضع للقالب الهندي الأوربي، وتم تقدم هدير في موضوع تصنيف اللغات.
- وقد جمعت في تلك الفترة شواهد كتابية كثيرة يمكن أن تخدم الدراسة التاريخية الأوربية، وتساعد في رصد أطوار اللغات وبعض النظريات الحديثة مثل: الصواب والخطأ في اللغة، ومثل الانقسامات اللهجية، ومثل المستوى الأدبي للغة، قد طرحت على بساط البحث والمناقشة.
- وفوق كل هذا فقد ارتفع الوعي اللغوي، ووجدت اهتمامات لغوية كثيرة.
ثالثًا: اللغة في القرن التاسع عشر وتقدمها وتصنيفها ودراستها:
يمتاز هذا العصر بالمنهج المقارن في عالم الدراسات اللغوية، قدّمه السير “ويليام جونز” عن العلاقة القوية بين السنسكريتية والفارسية القديمة وبين اللاتينية واليونانية والجرمانية والهندية؛ فحدّد بذلك مرحلة هامّة تبرز تطوّر دراسات اللغوية في الغرب.
وقد تبع علماء كثيرون “جونز” مثل: شليجن، ورسك، وبوب، وجريم، وفونر.
وقد امتدّت آفاق علم اللغة المقارن فيما بعد لتشمل مجموعات من اللغات مثل الآكادية، والعبرية، والعربية، والآرامية، وغيرها من المجموعة الثانية.
أما الدراسة الوصفية في هذا العصر فلم تَنَلْ حظها من الاهتمام التي حظيت به الدراسة التاريخية.
والاعتقاد السائد أن اللغات التي تستحق الدراسة هي تلك اللغات العظمى التي حملت الحضارة الأوربية، والتي صارت كذلك لغات استعمارية، وقد استقر الرأي على وجود اطراد في التغير الصوتي؛ شريطة ألا تتدخل عوامل أخرى مثل القياس، والاطراد اللهجي، أو الثقافي في طريق ما يسمى بالقوانين الصوتية. وقد كان النتاج ذا قيمة كبيرة بتركيزه الاهتمام على الصيغ اللهجية، وعلى أنواع من الكلام لم يكن يُنظر إليها حتى تلك اللحظة، إلا على أنها نواة تافهة لا تستحق الدراسة، وقد أدّى ذلك إلى توجيه الاهتمام إلى اللغات الحيّة، ولهجاتها المتشعبة، ونتج عن هذا اهتمام بدراسة الجوانب المختلفة لهذه اللغات الحديثة عن طريق الملاحظة المباشرة؛ ممّا أدّى إلى وجود فرع هامّ من فروع علم اللغة، وهو علم اللغات الوصفي، الذي يعطي اهتمامًا للغات المتكلمة، ويقلل من الاهتمام بالشواهد المكتوبة.
رابعًا: علم اللغة في القرن العشرين، وأثر كتاب دي سوسير عليه:
قد نشر كتاب “دي سوسير” بعنوان “محاضرات في علم اللغة العام” عام 1916م. وهذا قد أعطى علم اللغة حياة جديدة، وأثّر على علم اللغة في الجوانب التالية:
أولًا: حددت الأسس الدقيقة لعلم اللغة الوصفي باعتباره فرعًا مستقرًّا من فروع علم اللغة.
ثانيًا: قد رسم بوضوح ودقة الحدود الفاصلة بين فرعي علم اللغة: الوصفي والتاريخي.
ثالثًا: حدد موضوع علم اللغة، وهو دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها، وأن علم اللغة لا يدرس لغة معينة، وإنما يشمل كل ظواهر الكلام الإنساني؛ سواء كان ذلك في فترات قديمة أم حديثة .
رابعًا: استطاع أن يوضح لأول مرة الأهمية الكبرى للبنية أو التركيب داخل اللغة.
خامسًا: استمر علم اللغة التاريخي كما كان في الماضي، ولكن تلاه في الوجود وتبعه في كل خطوة يخطوها نظيره علم اللغة الوصفي؛ بل أخذ ميزان القوى يختلّ متحولًا من البحث المقارن في تاريخ اللغات الهندية الأوربية إلى وصف اللغات المستقلة واللغات المجهولة، ودراسة لغات غير المكتوبة التي لا تعرف ظروفها التاريخية. وحصل ذلك على أيدي: بوث، وسابير، وبلومفيلد.
بعد هؤلاء العلماء جاء تلاميذهم وأتباعهم فاستمر هذا الفرع الوصفي على هذا الحال. حتى جاء العالم الشهير: “جسبرسون” الذي حاول أن يضع الأسس التي تحكم تقدم اللغة؛ فأخذ علم اللغة شكلًا نظريًّا، وإلى حدٍّ فلسفيًّا.
هناك محاولات بعد “جسبرسون”؛ الأولى منها محاولات لربط المنهج التاريخي بالمنهج الوصفي، والأخرى لإعادة كتابة التاريخ اللغوي على أساس من الموازنة الإحصائية لأوجه الخلاف والشبه بين المفردات.
وهذه المحاولات تدل على أن الأبحاث التاريخية ما تزال هي السائدة في أوربا، والدراسة الوصفية هي السائدة في أمريكا.
أما علم اللغة الجغرافي فإنه ما يزال في دور التكوّن أو التكوين أو التبرعم، مع أنه أكثر ميادين علم اللغة خصوبة، فلم يزل قليل الحظ من النماء، ضئيل النصيب من النضج.