Top
Image Alt

نص من نقد أبي العلاء المعري

  /  نص من نقد أبي العلاء المعري

نص من نقد أبي العلاء المعري

ننتقل بعد ذلك إلى شاعر وناقد وعالم كبير، من الذين أثْروا حركة النقد الأدبي في العصر العباسي، وما تزال آراؤه ودراساته في النقد محط أنظار الباحثين، وموضع اهتمام العلماء إلى يومنا هذا، ذلك هو الشاعر والناقد والأديب العالم والفيلسوف أبو العلاء المعري.

وقد قام الأستاذ الدكتور السعيد عبادة بجمع الآراء النقدية لأبي العلاء، وصنع منها رسالة عن أبي العلاء الناقد الأدبي، وحصل بهذه الرسالة على درجة الدكتوراه، وقد طبعت هذه الرسالة أخيرًا طبعة جيدة وأنيقة.

والذي يقرأ في تراث أبي العلاء يجده ناقدًا كبيرًا، ناقدًا أدبيًّا وناقدًا اجتماعيًّا، وهو مع ذلك عالم لغوي لا يشق له غبار، وقد تناثرت الآراء النقدية لأبي العلاء في مؤلفاته الكثيرة، ومن هذه المؤلفات (رسالة الغفران)، وله رسائل متعددة مثل (رسالة الصاهل والشاحج) وغيرها.

ومن النصوص النقدية المهمة التي وردت في رسالة (الصاهل والشاحج) لأبي العلاء هذا النص، وقد وضعه الدكتور السعيد عبادة تحت عنوان: ورود الكلام على غير المعتاد.

يقول النص: قال أبو العلاء على لسان الشاحج -والشاحج هذا هو البغل- لما سأله ثعالة عن حاله وحال أرضه. وثعالة المراد به الثعلب، والبغل والثعلب كلاهما من شخصيات الحوار، الذي أداره أبو العلاء في هذه الرسالة على لسان الحيوان، وكانت هذه طريقة بديعة من أبي العلاء؛ إذ يدير الكلام في اللغة والأدب والشعر والأخلاق والاجتماع على لسان الحيوان.

يقول الشاحج للثعلب في هذا النص: أما أنا فياسرت أصحابي وياسروني، ووجدت المياسرة أفضل من المعاسرة، أخف حملي وأمرت بالصبر نفسي، فخمد لهيب الفتنة وغَيْري الذميم. تحدث البغل عما كان بينه وبين أصحابه، وأنه تطامن لهم وياسرهم، ولم يعد يَحْرَن عليهم حتى يحسنوا إليه، وأنه أمر نفسه بالصبر حتى يرضى أصحابه عنه.

وأما أرضي فعادت جاليتها من كل الأقطار. يريد الإشارة إلى ما كان قد حدث من جلاء بعض الناس عن محلتهم أو عن مدينتهم، ثم عودتهم إليها، والكلام كله يضعه أبو العلاء على لسان هذا البغل أو الشاحج. يقول: أما أرضي فعادت جاليتها من كل الأقطار، فرجع الجالون من الشرق، وكأنهم أمضاء سفر أو رذايا رَكْب، فزعموا أنهم كانوا في العَلاة قد ضاقت بهم المنازل، فكانوا بالنهار ينتقلون في الظلال والأفياء كأنهم سِخال رَبْرَب، حمي عليها القيظ، وكانوا فيما يَذْكرون يَمْتَحُون رحالهم إلى أعلى البِرْجة، كما تُمْتَح جلاء بالحوأب وهنا حوبآت.

ويستمر النص ليقول: وحَرِج بالجالية محل القوم القاطنين، فرأيت مضجع الإنسان في غير هذه النائرة، يضطجع فيه الثلاثة أو الاثنان، فكان مثل الناس في ذلك مثل الضادات لما اجتمعن في قول العدواني:

تلك عِرْسي تقول: إني شيخ

*ذاك عار عليّ غير مُمِضِّ

أطعن الفارس المدجج بالرمح

*فيكبو على اليدين وأمضِ

إنّ شكلي، وإنّ شكلك شتى

*فالزمِ الخُص، واخفضي تَبْيَضضي

بدأ هنا الكلام عن نقد الشعر في هذا الموضع؛ لأنه سيدور كلام عن نقد هذه الأبيات، ثم يقول أبو العلاء على لسان الشاحج: فمثل هذا الضادات مثل امرأتين كانتا في مكان متضايقتين، فجاءتهما امرأة ثالثة فدخلت بينهما، ومثل هذه الضادات الباءات في قول الراجز:

لأنكحن بَبَّة

جارية خِدَبَّة

تَجُبُّ أهل الكعبة

وببة هو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ويقال: إن هذه الأبيات قالتها أمه وهي ترقّصه، وهي أم عبد الله بنت أبي سفيان بن حرب، وهذا التوضيح لببة من أبي العلاء، ثم يقول على لسان الشاحج أيضًا: وكان مثل الناس في اجتماع الجماعة الكثيرة في البيت الحَرِج، مثل الكلم لما اجتمع وتضانك في قول الجعفي:

عش ابقَ اسمُ سدْ …

*…. …. …. …. ….

اجتمعت فيه أربع وعشرون كلمة.

هذا جزء من بيت للمتنبي، اجتمعت في هذا البيت أربع وعشرون كلمة، كل كلمة منها جملة، وأقل ما تكون الجملة من شيئين.

ألا ترى هذا البيت كيف ضاق بما أودع من الكلم حتى أنكره السمع، وظنه من لا يعرفه من وحشي الكلام، وليست فيه كلمة غريبة؛ ولكن اتصلت صدور الكلم بالأعجاز، فورد على غير المعتاد، وإذا خرجت إلى البيت الثاني كنت كمن أفضى بعد الأشبّ وخلص إلى البراح من لهب أو شِقْب؟

ثم يمضي النص ليقول: وعمد الناس إلى المواضع التي خبئوا فيها رحالهم، فوجدوا بعضها قد اختلط ببعض؛ لأنهم وضعوها في حال الدهش والذهول، فهم يتلاحون في تمييزها لأنها ملتبسة، كالتباس اللفظ في قول الفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مُمَلكًا

*أبو أمه حي أبوه يقاربه

فهذا كلام ملتبس؛ لأنه موضوع في غير موضعه، وتقديره: وما مثله في الناس حي إلا مملك يقاربه أبو أمه أبوه، والفرزدق يمدح بهذا البيت إبراهيم بن هشام المخزومي، وكان خال هشام بن عبد الملك، وقد جاءت أشياء في الشعر تحمل على التقديم والتأخير، فأما الفرزدق فمعروف بوضع الكلام في غير موضعه، ومن ذلك قوله:

ضلت أمية من سفاهة رأيها
 
*فاستجهلت سفهاؤها حلماءها

حرب تَسَعَّر بينهم بتشاجر

*قد كفرت آباؤها أبناءها

وأنشد أبو عبيدة في كتاب له يعرف بـ(شواذ الغريب):

فأصبحتْ بعد خط بهجتها

* كأن خط رسومها قلما

والمعنى عنده: فأصبحت -يعني: الدار- بعد بهجتها قَفْرًا، كأن قلمًا خط رسومها خطًّا، وهذا شيء لا يجوز أن يكون إلا مصنوعًا قد تُعُمد لإنشائه، ولولا أن أبا عبيدة ذكره لم نذكره.

وفي تعليقه على هذا النص يقول الدكتور السعيد عبادة: “أما ما تضمنه هذا الحوار من طرائف الفكر والذوق، والأخبار والتاريخ والوصف لأحوال المجتمع وأوضاعه وطبقاته، وصناعاته وأنماط سلوكه وشعوره، فأمر لا يفي به الوصف، ولا يغني فيه الخبر عن النظر والاطلاع المباشر، ويذكر أن النص المختار من المشهد الأخير فيما كان بين الشاحج -أي: البغل- والثعلب.

والمسألة النقدية التي تضمنها هذا الحوار -الذي أجراه أبو العلاء بين البغل والثعلب- متمثلة في النظر إلى الثقل، الذي يحصل للكلام إذا اجتمعت فيه حروف متماثلة.

وهذا ما يندرج تحت ورود الكلام على غير المعتاد، وليبين أبو العلاء أنماط هذا الكلام الذي يرد على غير المعتاد جاءنا بثلاث من المسائل.

في المسألة الأولى أو النموذج الأول اجتمعت الضادات في كلمة تبيضضي. وشبه هذا الاجتماع باضطجاع ثلاثة من الجالين في المكان المخصص لواحد، واضطجاع الثلاثة على هذا النحو مكروه لما فيه من التضاغط والتزاحم.

فكذلك اجتماع الضادات؛ لأنه يخرج بالصوت عن وضعه المقبول في النطق والاستماع، والسر في ذلك أن كل حرف يتطلب في نطقه أن يتخرج من مخرجه حركتان؛ إحداهما: إلى الإمام يأخذ فيها الحرف الوضع المطلوب.

والأخرى: إلى الخلف يتم بها إخراج الصوت، فتجاوب مثلين -إذًا- يعني تكرار نفس الحركتين، وفيه من ثقل النطق وبطئه ما فيه.

ومن ثم كان الإدغام للتخفيف من هذا التكرار؛ لأن أعضاء النطق بدلًا من أن ترجع في نطق المثل الأول إلى الخلف ستستمر في الحركة الأولى، وبعد ذبذبة خفيفة ترجع إلى الخلف، فيتم النطق بالمثلين مدغمين على وجه أخف وأسرع من نطقهما دون إدغام، لكن يبقى في هذا النطق ما نحسه في الإدغام من ثقل.

وهو ثقل لاحظه أبو العلاء، وأشار إليه حينما مثّل الضادين المدغمتين بامرأتين كانتا في مكان متضايقتين، فإذا زدت ضادًا ثالثة فكأنك أزلت أثر الإدغام، أو كأنك عدت إلى اجتماع المثلين دون إدغام.

وزدت عليهما ما بقي في الإدغام من ثقل، الأمر الذي شبهه أبو العلاء بامرأتين كانتا في مكان متضايقتين، فدخلت بينهما ثالثة، والدخول في البين هنا غير مقسوم.

لأنه لا نظير له في الضادات، إذ الضاد الثالثة قبل الضادين المدغمتين لا بينهما، وإنما المراد بالدخول في البين مجرد الزيادة في موضع لا يحتملها.

إذًا: هذا نموذج لتوالي الحروف المتماثلة وأنه أمر مكروه وثقيل، فاجتماع ثلاث ضادات في قول الشاعر: تبيضضي، مثل اجتماع ثلاث نسوة في مكان واحد ضيق عليهن.

والنموذج الثاني أو الشاهد الثاني: ضرب اجتماع الكلم في بيت المتنبي مثلًا لاجتماع الكثيرين في البيت الضيق، والدلالة البدهية لهذا التشابه أن اجتماع الكلم في البيت مكروه، كاجتماع العدد الزائد في البيت الضيق.

ومع هذه الدلالة التشبيهية نفهم كراهية اجتماع الكلم -أي: الكلم الكثير- عنده من أمرين آخرين:

أحدهما: وصفه للكلم في البيت بأنه اجتمع وتضانك، أي: تزاحم وتضاغط.

وثانيهما: قوله بعد ذلك: ألا ترى هذا البيت كيف ضاق بما أودع من الكلم، حتى أنكره السمع وظنه من لا يعرفه من وحشي الكلام، وليست فيه كلمة غريبة؛ ولكن اتصلت صدور الكلم بالأعجاز، فورد على غير المعتاد، وإذا خرجت إلى البيت الثاني كنت كمن أفضى بعد الأشم، وخلص إلى البراح من لهب أو شقب؟ إنه بهذا الرأي كان سابقًا لعصره”.

هذا تعليق الدكتور السعيد: “والكلام الذي ينقده هنا من شعر أبي الطيب المتنبي.

وكان أبو العلاء من أكثر المعجبين -بل المفتونين- بشعر أبي الطيب المتنبي، ولما شرح ديوان شعر المتنبي كان يسمي هذا الشعر معجز أحمد، ومع حبه هذا كان منصفًا ينقد المتنبي فيما يرى أنه ينبغي نقده فيه.

ومن هذا النقد قول المتنبي في خطاب سيف الدولة:

عش ابقَ اسمُ سدْ قدْ

*جدْ مر إنهَ روِّ سر نل

غظْ ارمْ صب اغز اسب

* رعْ زعْ د ل اثن نل

فاجتمع في هذا الكلام عدد كبير من الأفعال جعلت الكلام ثقيلًا، واستهجنه أبو العلاء لهذا الثقل، وأن الكلام هنا جاء على غير المعتاد.

وأما المسألة الثالثة التي ضربها مثلًا لاختلاط الرجال، فهي التباس الكلام وغموضه في قول الفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا

* أبو أمه حي أبوه يقاربه

فهو هنا أيضًا ينقد هذا الكلام؛ لعسر مدخله، وغموض معناه”.

ولم يكن نقد أبي العلاء مقتصرًا على لغة الشعر وصياغته كما يبدو في هذا النص الذي اخترناه، وإنما كان أبو العلاء ينقد الرواية والمتن والسند، وكان ينقد التصوير، وكان يتكلم عن أهداف الشعر وغاياته وطبقات الشعراء وموسيقى الشعر، فهو ناقد كبير نظر إلى الفن الشعري من جميع جوانبه.

ومن هنا كانت مكانته الكبيرة في تاريخ النقد الأدبي، وكان دوره في حركة النقد الأدبي في العصر العباسي.

error: النص محمي !!