Top
Image Alt

نقد الباقلاني لامرئ القيس، وردّ الشيخ حسين المرصفي

  /  نقد الباقلاني لامرئ القيس، وردّ الشيخ حسين المرصفي

نقد الباقلاني لامرئ القيس، وردّ الشيخ حسين المرصفي

ومن المفيد جدًّا أن نتوقف مع ما فعله الباقلاني في نقده لامرئ القيس وما رد به الشيخ حسين المرصفي:

اعترف الباقلاني بموهبة امرئ القيس، بقوله: “وأنت ولا تشك في جودة شعر امرئ القيس، ولا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورًا اتُّبع فيها؛ من ذكر الديار والوقوف عليها، إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه، والتشبيه الذي أحدثه، والمليح الذي تجده في شعره، والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه من صناعة وطبع، وسلاسة وعفو، ومتانة ورقة، وأسباب تُحمد، وأمور تؤثر وتمدح”.

نقد الباقلاني لامرئ القيس:

وبعد أن اعترف الباقلاني، أو بعد أن أثنى على موهبة امرئ القيس، شرع في الموازنة بين قصيدة امرئ القيس المعلقة، وبين القرآن الكريم.

بدأ الباقلاني بالنظر في قول امرئ القيس:

قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ 


* بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ


فَتوضِحَ فَالمِقراةِ لَم يَعفُ رَسمُها

* لِما نَسَجَتها مِن جَنوبٍ وَشَمأَلِ

فقال الباقلاني: الذين يتعصبون له -أي: لامرئ القيس- ويدعون المعرفة بمحاسن الشعر، يقولون: هذا من البديع؛ لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والحبيب والمنزل في نصف بيت أو نحو ذلك.

ويعلق الباقلاني بعد ذلك على هذا الكلام، بقوله: “ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعرًا، ولا تقدم به صانعًا”. يعني: امرؤ القيس لم يسبق أحدًا بهذا الكلام، والذين قالوا: إنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى هؤلاء بالغوا في رفع امرئ القيس.

ثم يقول: “وفي لفظه ومعناه خلل؛ فأول ذلك أنه استوقف من يبكي لذكرى الحبيب، وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي، وإنّما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه، ويرق لصديقه في شدة جرحائه، فأما أن يبكي على حبيب صديقه، وعشيق رفيقه فأمر مُحال، فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضًا عاشقًا صح الكلام من وجه وفسد المعنى من وجه آخر؛ لأنه من السُّخف ألا يغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه، والتواجد معه فيه.

ثم في البيتين ما لا يفيد؛ من ذكر هذه الأماكن: من “الدخول” و”حومل” و”توضح” و”المقراة” و”سقط اللوى” وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا. وهذا التطويل إذا لم يفد، كان ضربًا من العي.

ثم إن قوله: “لم يعف رسمها” ذكر الأصمعي من محاسنه أنه باق، فنحن نحزن على مشاهدته، فلو عفا لاسترحنا، وهذا بأن يكون من مساويه أولى؛ لأنه إن كان صادق الود فلا يزيده عفاء الرسوم إلا جدة عهد، وشدة وجد، وإنّما فرع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة؛ خشية أن تُعاب عليه فيُقال: أية فائدة لأن يُعَرّفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه، وأي معنى لهذا الحشو؟!، فذكر ما يمكن أن يذكر، ولكن لم يخلصه بانتصاره له من الخلل.

ثم في هذه الكلمة خلل آخر؛ لأنه عقب البيت بأن قال: “فهل عند رسم دارس من معول”. فذكر أبو عبيدة أنه لو صح فأكذب نفسه كما قال زهير:

قِف بِالدِيارِ الَّتي لَم يَعفُها القِدَمُ

* نعم وَغَيَّرَها الأَرواحُ وَالدِّيَمُ

وقال غيره: أراد بالبيت الأول: أنه لم ينطمس أثره كله، وبالثاني أنه ذهب بعضه حتى لا يتناقض الكلامان، وليس في هذا انتصار؛ لأن معنى “عفا” و”درس” واحد، فإذا قال: “لم يعف رسمها” ثم قال: “قد عفا” فهو تناقض لا محالة، واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك على ما قاله زهير، فهو إلى الخلل أقرب.

ثم أخذ عليه الخطأ اللغوي في قوله: “لما نسجتها”، وكان على امرئ القيس في رأي الباقلاني، أن يقول: “لما نسجها”، ولكنه تعسف فجعل “ما” في تأويل تأنيث؛ لأنها في معنى الريح، والأولى التذكير دون التأنيث، وضرورة الشعر قد دلته على هذا التعسف.

وقوله: “لم يعف رسمها”، كان الأولى أن يقول: “لم يعف رسمُه”؛ لأنه ذكر المنزل، فإن رُد ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها، فذلك خلل؛ لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه بعفائه، أو أنه لم يعفُ دونما جاوره، وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث؛ فذلك أيضًا خلل.

وانتهى الباقلاني بعد ذلك إلى إدانة شعر امرئ القيس، وقال: “ولو سلم من هذا كله -ومما نَكْرَه ذكره كراهية التطويل- لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين، بل يزيد عليهما ويفضلهما”.

أرجو أن يكون نقد الباقلاني لامرئ القيس واضحًا، فقد عاب على امرئ القيس في هذين البيتين:

قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ

* بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ

فَتوضِحَ فَالمِقراةِ لَم يَعفُ رَسمُها

* لِما نَسَجَتها مِن جَنوبٍ وَشَمأَلِ

أخذ عليه عدة ملاحظات عدها عيوبًا، وبهذا أسقط ما أُثني به على هذين البيتين من قولهم: إن امرأ القيس في هذين البيتين وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والحبيب والمنزل، فأتى في هذين البيتين بالشيء البديع. الباقلاني ينسف هذا الثناء، ويعيب على امرئ القيس في هذين البيتين كثيرًا من العيوب منها: التناقض؛ لأنه قال: “لم يعفُ رسمها” وفي بيت متأخر بعد ذلك قال: “فهل عند رسم دارس من معول” فأثبت أنها درست بعد أن قال: “لم يعفُ رسمها”، أي لم تدرس وتفنَ.

وأخذ عليه كذلك الخطأ اللغوي في قوله: “لما نسجتها”، وذهب إلى أن الأصح أنه كان على امرئ القيس أن يقول: “لما نسجها”، وعاب عليه كذلك طلبه من غيره أن يبكي على حبيبه، “قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل”، وعاب عليه أيضًا ذكر هذه الأماكن التي ذكرها، وكان عليه أن يكتفي بذكر المنزل.

ثم يتابع الباقلاني نقده لامرئ القيس فيأخذ على قوله:

كَدَأبِكَ مِن أُمِّ الحُوَيرِثِ قَبلَها

* وَجارَتِها أُمِّ الرَّبابِ بِمَأسَلِ

إِذا قامَتا تَضَوَّعَ المِسكُ مِنهُما

* نَسيمَ الصَبا جاءَت بِريا القرنفل

يأخذ على هذين البيتين بعض العيوب؛ فيقول: “أنت لا تشك في أنّ البيت الأول قليل الفائدة، ليس له مع ذلك بهجة، فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ، وإن كان منزوع المعنى؛ وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله: “إذا قامتا تضوع المسك منهما”، ولو أراد أن يجود أفاد أنّ بهما طيبًا على كل حال، فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير، ثم فيه خلل آخر؛ لأنّه بعد أن شَبّه عَرْفَها -أي: رائحتها- بالمسك شبه ذلك بريا القرنفل، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص.

وأخذ على قوله:

وَيَومَ دَخَلتُ الخِدرَ خِدرَ عُنَيزَةٍ

* فَقالَت لَكَ الوَيلاتُ إِنَّكَ مُرجِلي

تَقولُ وَقَد مالَ الغَبيطُ بِنا مَعًا

* عَقَرتَ بَعيري يا امرَأَ القَيسِ فَاِنزُلِ

عاب الباقلاني على امرئ القيس التكرار لإقامة الوزن، ولا فائدة فيه غير إقامة الوزن، والمراد بالتكرار: “ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة”، ولا فائدة فيه غيرها، ولا ملاحة له ولا رَونق، وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت: “فقالت لك الويلات إنك مرجلي”، كلام مؤنث من كلام النساء، نقله على جهته إلى شعره، وليس فيه غير هذا.

وانتقل بعد ذلك إلى بيتين آخرين من معلقة امرئ القيس أولهما:

فَقُلتُ لَها سيري وَأَرخي زِمامَهُ

* وَلا تُبعِديني مِن جَناكِ المُعَلَّلِ

فنقد هذا البيت، والبيت الذي بعده.

وظل الباقلاني يُتابع نقد المعلقة، متتبعًا امرأ القيس ومبينًا أخطاءه من وجهة نظره، فيقول: “وما زعموا أنه من بديع هذا الشعر -أي: رائعه وجيده- فهو قوله:

وَتُضحي فَتيتُ المِسكِ فَوقَ فِراشِها

* نَئومُ الضُحى لَم تَنتَطِق عَن تَفَضُّلِ

ومما يعدونه من محاسنها:

وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخى سُدولَهُ

* عَلَيَّ بِأَنواعِ الهُمومِ لِيَبتَلي

فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَمَطّى بِصُلبِهِ


* وَأَردَفَ أَعجازًا وَناءَ بِكَلكَلِ

وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله:

وَقَد أَغتَدي وَالطَيرُ في وُكُناتِها

* بِمُنجَرِدٍ قَيدِ الأَوابِدِ هَيكَلِ

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا
 
* كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيل
ُ مِن عَلِ

وقوله أيضًا:

لَهُ أَيطَلا ظَبيٍ وَساقا نَعامَةٍ

* وَإِرخاءُ سِرحانٍ وَتَقريبُ تَتفُلِ

فيقول الباقلاني: فأما قوله: “قيد الأوابد” فهو مليح، ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير، والتعامل بمثله ممكن، وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفًا، ويؤلفون المحاسن تأليفًا، ثم يوشحون به كلامهم.

وأما قوله في وصفه: “مكر مفر”، فقد جمع فيه طباقًا وتشبيهًا، وفي سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف، وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد صنعة، ولكن قد عورض فيه وزوحم عليه، والتوصل إليه يسير وتطلبه سهل قريب.

يريد أن يقول: إن هذا الذي عدوه لامرئ القيس من بديع القول؛ ليس من بديع القول وإنما من الكلام الممكن الذي أتى بمثله غيره من الشعراء.

وختم الباقلاني نقده للقصيدة بقوله: “وقد بَيّنا لك أن هذه القصيدة ونظائرها، تتفاوت في أبياتها تفاوتًا بينًا في الجودة والرداءة، والسلاسة والانحلال، والتمكن والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه، وله شُركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها، ومعارضون في بدائعها.

هذا إذًا بعض ما قاله الباقلاني في نقده لمعلقة امرئ القيس، والرجل -كما سبق أن ذكرنا- كان يريد بذلك أن يُظهر العيوب التي رآها في شعر امرئ القيس، وهو أكبر شعراء الجاهلية ليثبت من خلال ذلك أن القرآن الكريم المُعجز خلا من هذه العيوب، التي أخذها على شعر امرئ القيس.

والأصول النقدية التي كان يتوخاها الباقلاني في الكلام الجيد تتمثل في مراعاة السلاسة والجدة، ومراعاة الأصالة والصحة، وتوافق الوحدة العضوية في العمل الفني، وبعده عن التفكك والتناقض والاضطراب، والباقلاني لم يكن متعصبًا للقديم، وإنّما كان يفضل المعاصرين له على امرئ القيس، وذم الإحالة -أي: التصوير أو المعنى المستحيل- في شعر امرئ القيس.

وذَمّ هذه المعلقة أيضًا بأنها بعدت عن الرصانة والقوة، وفيها ميل كثير إلى التخنث؛ خاصّة ما أورده امرؤ القيس في كلامه عن مغامراته النسائية، هكذا أعمل الباقلاني ذوقه وعلمه في معلقة امرئ القيس، ورَدّ على من كانوا يثنون على هذه المعلقة، ويَعُدّونها من رائع الكلام وجيده، وأخذ عليها هذه العيوب الكثيرة في إطار موازنة القرآن الكريم بهذا الشعر؛ ليصل إلى أن القرآن الكريم خالٍ من كل هذه العيوب، وأنه معجز.

ردّ الشيخ حسين المرصفي:

والمرصفي يختلف مع الباقلاني في المبدأ، ويرى أنه لا يجوز أن يوازن كلام الله عز وجل  بكلام البشر، فمهما كان في كلام البشر من البلاغة والرّفعة والعلو؛ فإنه عُرضة للنقص وللعيب، ولا يمكن أن يوازن بذلك كلام الله عز وجل .

لكنّ المرصفي لم يكتفِ بمخالفة الباقلاني في المبدأ، وإنما راجع الشيخ حسين المرصفي الباقلاني ونقده لامرئ القيس، ونظر فيه ورد عليه.

قال الشيخ حسين المرصفي صاحب (الوسيلة الأدبية) في رده على الباقلاني: “فأنت ترى هذا الشيخ كيف عمد إلى قصيدة اتفق العلماء وأهل الأدب على تقدمها في الجودة وعلوها في البلاغة، حتى جعلوها رأس القصائد السبعيات -أي: المعلقات- فأفسد بالنقد صورتها، وغير في وجه بهجتها، ولكن أقول: إنه مع نورانية كلامه، وسلاسة عباراته، وحسن سلوكه في تقرير أغراضه؛ فقد تحامل على امرئ القيس بعض التحامل، وما كان ينبغي، فإن التحامل في مقام البرهنة يوجب نفرة عن الاستماع واستصعابًا عن الانقياد، ويكون ذلك سببًا لضياع الحق، ولست أقول: إن كلام المخلوق أينما بلغ من رُتب البلاغة يكاد يداني كلام الخالق الذي لا تخفى عليه خافية، ولكن أقول: إنه لا ينبغي أن يُبخس كلام حقه ولا يوفى قسطه”.

وهذا الكلام من الشيخ حسين المرصفي في الحقيقة كلام يُوزن بالذهب كما يقولون، مع أن الرجل يخالف الباقلاني في رأيه؛ لكنه يقول: إنه مع نورانية كلامه، وسلاسة عباراته، وحسن سلوكه في تقرير أغراضه. يُثني على الباقلاني ويجله ويقدره.

ثم يقول: إنّ الباقلاني تَحامل على امرئ القيس بعض التحامل وما كان ينبغي أن يتحامل على امرئ القيس؛ لأن التحامل في رأي الشيخ المرصفي وعدم الموضوعية في النقد، فإن التحامل في مقام البرهنة يوجب نفرة عن الاستماع، والتحامل والمبالغة في التخطئة، وتتبع العثرات يوجب نفرة عن الاستماع، يجعل المستمع لا يستجيب لنقد هذا الناقد ولا يقتنع به، “واستصعابًا عن الانقياد”، ويكون ذلك أي التحامل أيضًا سببًا لضياع الحق.

ويذهب المرصفي إلى أنّ كلامَ المخلوق مهما بلغ من رُتب البلاغة لا بد أنه أقل وأبعد عن بلاغة القرآن الكريم، لكنه مع ذلك يقول: إنه لا ينبغي أن يُبخس كلام حقه، ولا يوفى قسطه؛ لأن الناقد يجب أن يكون عادلًا، وأن يكون موضوعيًّا، وأن يعطي لكل كلام حقه، ولا يبخسه هذا الحق.

ثم بدأ الشيخ حسين المرصفي يقدم نقده وذوقه ورؤيته لمعلقة امرئ القيس، فشرح معنى: “قفا نبك …” البيتين، وبين أن المراد بالحبيب والمنزل، “قفا نبك مِنْ ذِكْرى حبيب ومنزل”، الجنس؛ جنس الحبيب، وجنس المنزل، فالتنكير فيه للتنويع لا للإفراد؛ فكأنه قال: ليقف كل منا يبكي صفاء عيشه الماضي، وسرور أوقاته أو تمتعه بحبيبه في تلك المنازل الشاغلة لتلك النواحي التي سماها.

وطوى في ذلك الحديث عن كثرة العمران، وعظم المجتمع، وذلك سبب لقوة الأمن واتساع دائرة السرور، والتمكن من الاستئثار باللذات، وفيه إقامة العذر في اشتداد الوجد وكثرة الحزن؛ إذ بقدر الأنس بالشيء تقع الوحشة عند ذهابه، ولإظهار الجزع والمبالغة في الإبانة عن العذر، قال: “لم يعفُ رسمها”، وذلك من إيجاز الإشارة الذي هو معدود من أكبر دعائم البلاغة؛ فليس ذكره لتلك المواضع فضلًا، وتأمل عطفه فيها بالفاء دون الواو، يقصد قول امرئ القيس:

…. …. …. …. …. ….


* بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ

فَتوضِحَ فَالمِقراةِ لَم يَعفُ رَسمُها

*…. …. …. …. ….

والضمير في “رسمها” يعود للمنازل، وفي هذا رد على الباقلاني، لنذكر بأن الباقلاني قال: إن امرأ القيس طلب من أصدقائه أن يبكوا معه على حبيبه، والمرصفي يذهب غير هذا المذهب، ويقول: إن المراد بالحبيب والمنزل الجنس؛ فكل واحد له حبيب وله أماكن كان له فيها أوقات سرور، يقف هنا ويبكي.

ثم يعترض الشيخ حسين المرصفي على مناقشة الباقلاني لامرئ القيس في الألفاظ، مع كونه -مع كون الباقلاني- من رءوس أهل اللغة الذين تُنقل عنهم اللغة ويُحتج بكلامهم. ويُعلق الشيخ المرصفي على نقد الباقلاني لامرئ القيس في قوله:

وُقوفًا بِها صَحبي عَلَيَّ مَطِيِّهُم

*…. …. …. …. …. ….

إلى أن قال:

إِذا قامَتا تَضَوَّعَ المِسكُ مِنهُما

*…. …. …. …. …. ….

فقال الشيخ حسين المرصفي: يبين فيه -أي يبين امرؤ القيس في هذا الشعر- ما كان من وعظ صحابته إياه، ونصحهم له، فكان من كلامهم:

…. …. …. …. …. ….

* … لَا تَهْلكَ أسًا وتَجَمّل

…. …. …. …. …. ….


* فَهلْ عِندَ رَسْمٍ دَارسٍ مِنْ مُعول

ذلك مِنك الآن كدأبك الآن، وحالك فيما مضى من فلانة وفلانة، واعترض بين أجزاء ما حكاه عنهم بقوله:

وَإِنّ شِفَائِي عَبْرَةٌ ….  …..

*…. …. …. …. …. ….

ودَعوى كون البكاء شافيًا وإطلاق الدموع مريحًا أمر مشهور بين الشعراء، وذلك أمر يُعرف بالوجدان، فقوله: “عند رسم دارس” ليس من كلامه -أي: ليس من كلام امرئ القيس- وإنما هو من كلام أصحابه، الذين ينصحونه بألا يكثر من البكاء. وعبر بلفظ دَارس على معنى المشارفة على الدروس والقرب منه، وهو مجاز مشهور الاستعمال حملوا عليه قوله تعالى: {فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين} [البقرة: 2] أي المشارفين للتقوى الصائرين لها فلا تناقض.

أذكر بأن الباقلاني عاب على امرئ القيس التناقض؛ لأنه قال: “لم يعفُ رسمها” ثم قال بعد ذلك: “وهل عند رسم دارس من مُعْول”، فَذكر أنّها لم تعفُ، وذكر أنها عفت، فهذا تناقض عابه الباقلاني.

الشيخ المرصفي يقول: ليس في الكلام تناقض، فقوله: “لم يعفُ رسمها” أي: لم تزل ولم تدرس. وقوله: “فهل عند رسم دارس”، أي: رسم شارف على أن يكون دارسًا، شارف على الزوال والانمحاء، واستدل على ما ذهب إليه بقول الله عز وجل : {فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين} [البقرة: 2] أي المشارفين للتقوى الصائرين لها.

ثم يُواصلُ الكلامَ فيقول: فلما سمع -أي امرؤ القيس- من صحبه هذا الكلام، وقد هتفوا بذكر حبيبتين كانتا له تذكر حالهما، فأشار إلى صفة ما كانتا عليه من حسن الحال، وطيب النعيم، وريعان الشباب إلى غير ذلك من دواعي الغزل والصبابة، بقوله: “إذا قامتا تضوع المسك منهما”.

هنا أيضًا رد على الباقلاني؛ لأن الباقلاني نقد امرئ القيس في قوله: “إذا قامتا توضع المسك”، فقال لماذا يخص حالة القيام بالذكر، هو يريد أن يصفهما بأن رائحتهما طيبة، فالرائحة الطيبة تكون في كل حال، هذا كلام الباقلاني.

الشيخ حسين المرصفي يدافع عن امرئ القيس فيقول: “وإنّما خص حالة القيام لمكان الحركة الموجبة لتموج الهواء الذي تنتشر به الرائحة وتبلغ للبعيد، فليس غرضه أن يصفهما بالطيب حتى يُقال: إن ذلك لا يخص حالة دون حالة، ولذلك قال: تَضَوّع، ولم يقل: إنهما قامتا فهما طيبتا الرائحة، فالتشبيه بين انتشار الرائحة والمرور مع النسيم وليس تشبيه رائحة برائحة حتى يُقال: إنه نقص، وشبه القوي بالضعيف.

ثم أبان كيفية بكائه، ومِقدار دموعه، وهو حِكَايَةُ ما وقع له، كما هو العادة في أشعار العرب، من كونها في الغالب حكاية عن واقع وليس مجرد تخيل، كما هو حال المتأخرين من الشعراء.

ثم يقول الشيخ المرصفي: فليس لأحد أن يكذبه في صفة حاله، ولا أن يكلفه الكذب بأن يقول: إن الدمع بلَّ المآقي، وجرى مثل البحر.

ثم ختم المرصفي نقده بقوله: “فأنت إذا تأملت في فصول القصيدة على ما أشرنا به إليك، عرفت أنه لا يتوجه عليه من الانتقادات إلا القليل”.

error: النص محمي !!