(نقد الشعر) لقدامة بن جعفر
ونحن إذ نتحدث عن كتاب (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر، لم نخرج في معالجتنا لهذا الدرس عن الدوائر التي كنا نتحدث عنها، وهي المتعلقة بالأثر اليوناني في النقد الأدبي عند العرب؛ فقد كانت الثقافة اليونانية من أبرز المؤثرات في قدامة بن جعفر، وكان يشار إليه في علم المنطق ويعدّ من الفلاسفة الفضلاء، وله تفسير بعض المقالة الأولى من السماع الطبيعي لـ “أرسطو”، وله كتاب في صناعة الجدل.
ويدل كتابه في الخراج على ثقافة حسابية دقيقة، كما يدل على أنه تناهى فيه بوصف النثر في المنزلة الثالثة من الكتاب، كما ذكر ذلك أبو حيان عن علي بن عيسى الوزير أنه قال: “عرض عليّ قدامة كتابه سنة عشرين وثلاثمائة، واختبرته فوجدته قد بالغ وأحسن وتفرد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة، بما لم يشركه فيه أحد من طريق اللفظ والمعنى، مما يدل على المختار المجتبى والمعيب المجتنب، ولقد شاكل فيه الخليل بن أحمد في وضع العروض”.
ويقول الدكتور إحسان عباس: “هذه الثقافة نفسها هي التي جعلته يشارك في النقد الأدبي؛ إذ لا نكاد نشك في أن المنزلة الثالثة من كتاب (الخراج) إنما كانت صدى لكتاب “أرسطو” في الخطابة، وأن استكماله لمراحل المنطق الأرسططاليسي وكتاب (الشعر) مرحلة أخيرة فيه، هو الذي جعله يقوم بتأليف كتابه (نقد الشعر)، وأنه بحكم هذه الثقافة نفسها كان منحازًا إلى تقدير المعنى؛ ولذا ألف كتابه (الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام)”.
والنقد الأدبي عند قدامة بن جعفر علم، ومجاله تخليص الجيد من الرديء في الشعر، أما سائر ما يتعلق بالشعر من علم العروض والوزن والقوافي والغريب واللغة والمعاني، فليس مما يدخل في باب النقد إلا على نحو عارض، وهو يرى أن الناس أكثروا في التأليف في تلك العلوم وقصروا في علم النقد.
ويرى الدكتور إحسان عباس أن قدامة بن جعفر يبدو منذ البداية في كتابه (نقد الشعر) متأثرًا بالمنطق الأرسططاليسي، متجاوزًا المفهوم اليوناني للشعر في آنٍ معًا، فهو في حدّه للشعر وفي حرصه على أن يكون ذلك الحد مكونًا من جنس وفصل يدل على أنه يترسم ثقافته المنطقية؛ فالشعر عنده قول موزون مقفًّى يدل على معنى.
فكلمة قول بمنزلة الجنس، وموزون فصل له عما ليس بموزون، ومقفى فصل عما هو موزون ولا قوافي له، ودال على معنى فصل له عما يكون موزونًا مقفًّى ولا يدل على معنى.
ويتحدث قدامة عن العناصر البسيطة التي يتكون منها الشعر، وهي: اللفظ والمعنى والوزن والقافية، ثم يتجه إلى المركبات وهي: اللفظ والمعنى معًا، اللفظ والوزن معًا، المعنى والوزن معًا، المعنى والقافية معًا، فهذه ثماني وحدات قسمة منطقية.
ويتحدث عن الصفات التي يجب أن تتوافر في كل عنصر من هذه العناصر؛ فاللفظ يجب أن يكون سمحًا سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة، وعيوبه: أن يكون ملحونًا وجاريًا على غير سبيل الإعراب واللغة، وحشيًّا قائمًا على المعاظلة.
والوزن يكون سهل العروض، فيه ترصيع، وعيوبه: الخروج عن العروض والتخليع. والقافية تكون عذبة الحرف، سلسة المخرج، فيها تصريع، وعيوبها هي العيوب القديمة من إقواء وتخليع وإيطاء وسُناد. وائتلاف اللفظ والوزن أن تكون الأسماء والأفعال في الشعر تامة مستقيمة كما بُنيت، لم يضطرّ الأمر في الوزن إلى نقضها عن البنية بالزيادة عليها والنقصان منها، وهذا يرجع إلى صناعتي المنطق والنحو، وعيب ائتلاف اللفظ والوزن: الحشو والتثليم والتذنيب، والتغيير والتفصيل. وائتلاف القافية مع المعنى أن تكون متعلقة بما تقدمها تعلق ملاءمة ونظم بالتوشيح أو الإيغال، وعيبها في هذا الصدد أن تكون مستدعاة متكلفة، يتعمد فيها السجع دون فائدة للمعنى.
وعندما تحدث قدامة عن المعاني حددها بستة أنواع، كل منها ذو حدين جيد ورديء، ولها سبع صفات كل صفة موجبة ونقيضتها، وأنواع المعاني تقع في الأغراض الآتية: المديح، الهجاء، المراثي، التشبيه، الوصف، النسيب، ولكل غرض حسنات في المعاني وعيوب.
وتتوفر في المعاني الجيدة الصفات الآتية: صحة التقسيم، صحة المقابلات، صحة التفسير، التتميم، المبالغة، التكافؤ، الالتفات، وأضدادها المعيبة هي: فساد التقسيم، فساد المقابلات، فساد التفسير، الاستحالة والتناقض، إيقاع الممتنع، مخالفة العرف، نسبة الشيء إلى ما ليس له، هذه حال المعاني في وضعها البسيط.
فإذا تركبت مع اللفظ كان ائتلافها يقتضي أن تتوفر المساواة والإشارة والإرداف والتمثيل والمطابقة والمجانسة، ويقابل هذه الحسنات عيبان: الإخلال وهو النقص الذي يفسد المعنى، والزيادة التي تفسد المعنى، فإذا ائتلفت المعاني مع الوزن توفر التمام والاستيفاء والصحة، وإذا اختل ذلك الائتلاف نتج عن ذلك القلب والبتر.
وفي بيان الأثر الفلسفي في كتاب قدامة بن جعفر يذكر الدكتور إحسان عباس أنه رد أغراض الشعر إلى مبدأ الوحدة، فأغراض الشعر عنده إما أن يكون موضوعها الإنسان الممدوح أو المهجوّ أو المرثي أو المتغزل فيه أو الموصوف، وإما أن يكون موضوعها الشيء الموصوف، وقد يجيء موضوع سادس يجمع بين هذين بالرابطة الصورية وهو التشبيه، وفكر قدامة أننا إذا استثنينا الوصف وهو موضوع مشترك بين الناس والأشياء، فإن الأربعة الأولى ليست إلا منحًى للصفات أو سلبًا لها، فالمدح يتطلب صفات إيجابية تُسلَب في الهجاء وتحول إلى المضي في حال الرثاء، وتحور عن قاعدتها الأصلية في الحديث عن النساء.
فما هي هذه الصفات الإيجابية؟ هنا كما يقول الدكتور إحسان: “لجأ قدامة إلى ثقافته الفلسفية، فوجد أن “أفلاطون” يجعل الفضائل الكبرى أربعًا: العقل، والشجاعة، والعدل، والعفة، وبما أن مدح الرجال معناه ذكر فضائلهم، فمن أتى في مدحه بهذه الأربع كان مصيبًا، ومن مدح بغيرها كان مخطئًا، وهذه الفضائل أمهات ذات فروع، ولا بأس أن يمدح الشاعر بكل ما يتفرع عن كل فضيلة منها، ففضيلة العقل تتفرع إلى ثقافة المعرفة والحياء والبيان والسياسة والكفاية والصدع بالحجة والعلم والحلم عن سفاهة الجهلة، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى.
ومن أقسام العفة: القناعة وقلة الشَّرَه وطهارة الإزار وغير ذلك مما يجري مجراه، ومن أقسام الشجاعة: الحماية والدفاع والأخذ بالثأر والنكاية في العدو والمهابة وقتل الأقران والسير في المهامِه الموحشة وما أشبه ذلك، ومن أقسام العدل: السماحة والتبرع بالنائل وإجابة السائل وقرى الأضياف وما جانس ذلك.
وليست هذه الفضائل دائمًا بسيطة، بل يتركب منها فضائل أخرى تبلغ ستًّا، فمن العقل مع الشجاعة يتولد الصبر على الملمّات ونوازل الخطوب والوفاء بالإيعاد… إلى آخره، وليس الهجاء إلا سلب هذه الفضائل عن المهجو كما أن الرثاء ليس إلا تحويل الفعل إلى صيغة الماضي”.
ومن هذا يتبين أن الشعر الإنساني في نظر قدامة يقوم -باستثناء الغزل- على قاعدة أخلاقية ركينة، فلما كان الهجاء إنكارًا لإنسانية المهجو صح حينئذ أن نعيّره بفقدان هذه القاعدة؛ لكي نحقره إلى نفسه فيتعظ بحاله غيره.
ويتبع ابن قدامة “أرسطو” فيلسوف اليونان فيما يتعلق بالغلو في الشعر، فهل يجوز للشاعر أن يصف قومًا بالإفراط في نسبة الفضائل إليهم أو المبالغة؟
يقبل قدامة ذلك؛ لأن هذا من باب الغلو في الشعر، ولا يراد منه إلا المبالغة والتمثيل لا حقيقة الشيء، ويقول: “إن الغلو عندي أجود المذهبين، وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديمًا، وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعر أكذبه، وكذا يرى فلاسفة اليونانيين في الشعر على مذهب لغتهم”. هذا كلامه، وفيه إشارة واضحة إلى ما يراه فلاسفة اليونان.
وإذا قيل: إن الغلو يُخرج المعنى عن باب الموجود أحيانًا ويدخله في باب المعدوم، فإن قدامة يقبل ذلك معتمدًا على ما ذهب إليه “أرسطو” في قوله: “أما فيما يتصل بالصدق الشعري فإن المستحيل المحتمل مفضّلٌ على شيء غير محتمل، إلا أنه ممكن”.
والدارسون ينظرون إلى كتاب (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر على أنه يُفسد النقد بكثرة تقسيماته وتحديداته المنطقية وقلة ما فيه من التطبيق، والذين يميلون إلى الفلسفة والتقسيم يشيدون بهذا الكتاب، وبعضهم يعرض الكتاب دون أن يبدي فيه رأيًا بذم أو مدح، فمن الذين عرضوا لهذا الكتاب دون مدح أو ذم الدكتور جودة عبد الله مصطفى.
وأما الدكتور إحسان عباس فيذكر أن العيب الذي وقع فيه قدامة في كتابه (نقد الشعر) هو أنه أراد أن يحكم الخصائص المنطقية في مجال لا منطقي، فلم يفرد الشعر عن غيره بشيء، وبهذا ورّط البلاغيين العرب من بعده حين تصوروا أن صحة المقابلة والإيغال والتتميم وما أشبه، قد تكون سمات لتمييز القول البليغ عن غيره، فالمنطق والتقسيمات المنطقية وتغييب الذوق لا يصلح في نقد الشعر.
فقدامة بن جعفر في النقد يقف موقف العالم، يصنف كل شيء بمنتهى الدقة والوضوح، ويسيء الظن بالقارئ فيضع له الأنموذج ليقيس عليه، ولا ريب في أنه بنى أسسًا نقدية متكاملة وغاص بذكائه الفذّ على أمور دقيقة في المعاني، وآمن بأن النقد يقوم على نظرية محددة، وقدامة في كل ذلك نسيج وحده، وإن خالفناه في أكثر ما يريده من الشعر والنقد -هكذا يقول الدكتور إحسان عباس منصفًا هذا الرجل بعد أن ذكر عيبه الذي أخذه عليه- لقد أراد أن يكون معلم النقد في تاريخ الأدب العربي كما كان “أرسططاليس” في تاريخ المنطق وفي كتاب (الشعر)، لكن حيث كان كتاب (الشعر) عاملًا حافزًا كان كتاب قدامة كالمعلم المتزمت.
ثم يقول الدكتور إحسان عباس: “وإذا كان كتابه قد لقي من المهاجمين أكثر مما لقي من المؤيدين؛ فإنه يمثل اجتهادًا ذاتيًّا مدهشًا، وقد كان موضع الرضا لدى أولئك الذين آمنوا بقيمة الفكر والثقافة الفلسفية”.
هذا، والله ولي التوفيق.