Top
Image Alt

نقد العقاد لشعر الحكمة عند شوقي

  /  نقد العقاد لشعر الحكمة عند شوقي

نقد العقاد لشعر الحكمة عند شوقي

ولا يريد أن يترك العقاد لشوقي شيئًا في قصيدته أو في شعره يعتد به، فيذهب إلى الكلام عن الحكمة ويقول: ولا ندع هذه القصيدة التي ملأها شوقي بما يسميه حكمة وبما يتسامى به إلى مضاهاة المتنبي ومضارعة المعري قبل أن نكشف عن غشاوة يُخدَع من قبلها كثير من قراء الشعر الذين يؤْمل صلاحهم واقتناعهم.

ثم يفصل القول في الحكمة فيقول: فالحكمة في الكلام ضربان:

– الحكمة الصادقة: وهي من أصعب الشعر مرامًا وأبعده مُرتقى، لا يساس قيادها لغير طائفة من الناس، تُوحى إليهم الحقائق من أعماق الطبيعة فتجري بها ألسنتهم آياتٍ تنفح ببلاغة النبوة وصدق التنزيل، ويلقي أحدهم بالكلمة العابرة من عفو خاطره ومعين وجدانه فكأنما هي فصل الخطاب ومفرق الشبهات، تستوعب في أحرف معدودات ما لا تزيده الأسفار الضافية إلا شرحًا وامتدادًا؛ وتسمعها فتشع في ذهنك ضيائها وتريك كيف يتقابل العمق والبساطة ويأتلف القدم والجدة؛ قدم الحقيقة كأثبت ما تجلوها الحياة المتقلبة وحدة النظر الثاقب والنفس الحية التي تطبع كل مرئي بطابعها، هي تاره تلُم لك شعث الحقيقة فتحسبها مجموعة كذلك منذ الأزل لم تتفرق ولا يكون لها أن تتفرق؛ كبيتي المتنبي الذين يعدد فيهما من تصفو لهم الحياة وهما:

تصفو الحياة لجاهل أو غافل

* عما مضى منها وما يتوقع

ولمن يغالط في الحقائق نفسه

* ويسومها طلب المحال فتطمع

فالجاهل من لا يعي والغافل من يعي لو شاء ولكنه لا ينتبه، والمغالط نفسه واعٍ منتبه يحجب بيديه ما تبصره عيناه.

وهؤلاء هم الذين يغنمون من الحياة صفوها على قدر حظهم الذي قسمه من الشعور بها، ومهما يجهد الجاهد فلن يجد إنسان غير هؤلاء تصفو له الحياة على حال؛ ولن يحذف من عبارة البيتين كلمه إلا نقص بقدره من المعنى.

ويستمر العقاد في ضرب الأمثلة من الحكمة العالية كما يراها -وهي الحكمة الصادقة كما قال.

ثم قال: والضرب الآخر حكمة مبتذلة أو مغشوشة معتملة، أشرفها ما كان من قبيل تحصيل الحاصل، وكلها لا فضل فيها لقائل على قائل ولا لسابق على ناقل؛ إذا قارنا بينها وبين الحكمة من ذلك الطراز كانت كمن يحفر الآبار للناس على شاطئ النهر الغزير، وكانت تلك كمن ينبط الماء من ينابيعه الصلدة لمن لوحهم الصدى والهجير، وأحمق ممن يحفر البئر على شاطئ النهر، من يروح ويغدو ينظم من أشباه البديهيات تلك النصائح الفاشية التي حفلت بها كتب التمرينات الابتدائية؛ كالعلم نافع، والصدق منجٍ، والبركة في البكور، وباحترام الأستاذ تتقدم، وفي العجلة الندامة وفي التأني السلامة، وما إلى هذه النصائح والأمثال والحكم ينظمها ليشتهر بالحكمة وليصيح من فوقها:

لي دولة الشعر دون العصر وائلة

* مفاخير حكمي فيها وأمثالي

فهل يدري القائل من صاحب الحكم والأمثال الفخور؟! إنه هو شوقي، ثم هل يدري ما حكمه وأمثاله التي استتبت له بها دولة الشعر؟! هذه هي.

ويذكر العقاد عددًا من الأبيات التي تعد من الحكمة في شعر شوقي؛ كقوله:

فلم أرَ غير حكم الله حكمًا

* ولم أرَ دون باب الله بابا

وقوله:

ومن العقول جداول وجلامد

* ومن النفوس حرائر وإماء

وقوله:

وكل مسافر سيئوب يومًا

* إذا رزق السلامة والإيابَا

ويعلق ساخرًا فيقول: هل علم أحد أن المسافر إذا آب فقد آب قبل أن يقول شوقي:

وكل مسافر سيئوب يومًا

* إذا رزق السلامة والإيابَا

أم علموا الحق حتى أخبرهم به مستغربًا جهلهم سائلًا إياه:

أليس الحق أن العيش فانٍ

*  وأن الحي غايته الممات

أليس كذلك أم ماذا بالله؟!.

وينتهي العقاد من الكلام عن الحكمة في شعر شوقي بقوله: وصفوة القول أن الحكمة المبتذلة أيسر ما يتعاطاه النظامون؛ لأنها صوغ متاع مشاع، على حين أنهم لا يمسون الحكمة العالية مساسًا ولن يقاربوها ولا اختلاسًا؛ لأنهم لا يملكون جوهرها ولا يقدرونه لو وقع لهم، ولن يحسنوا مضاهاته وإن اغتروا ببساطته وسهولته، وربما خدع بعض الناس في بعض أقوالهم فخانوها من قبيل الحكمة العالية لما يبهرهم من رنين صياغتها وبريق طلائها؛ فليعلم هؤلاء المحسنون الظن بحكمة النظامين أن أرقى ما يرتقون إليه أن يأتوا بكلمة مقبولة في شئون المعيشة، وفرق بعيد وبون شاسع بين المعرفة المعيشية والمعرفة الحيوية.

ولا يترك العقاد شيئًا لشوقي؛ حتى بعض الأبيات التي حفظها الناس كقوله:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

* فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقوله:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

* فإن تولوا مضوا في إثرها قدما

وكذلك قوله:

وليس بعامرٍ بنيانُ قوم

* إذا أخلاقهم كانت خرابا

فيقول العقاد عنها وعن ما يشبهها: فليس يقول لك ما يستحق أن تصغي إليه من يخبرك بأن الأخلاق الصالحة ملاك الصلاح الاجتماعي وقوام الأمم، ومن كان يقرر معنًى يعكس فيكون عكسه ظاهر البطلان، ويطَّرد فلا يزيد على ما هو متعارف؛ فإنما يقرر البديهيات ويدخل فيما نسميه بالحقائق الرياضية أو حقائق التمرينات الأولية…

هذه صور من نقد العقاد لشوقي في كتاب (الديوان) قدمتها لك، وهي تدلك على عقل العقاد وذكائه ونقده، وتدلك على ما كان يريده من المذهب الجديد في الشعر، ويدلك أيضًا على أن النقد لم يكن كله حقًّا، وإنما كان فيه كثير من التعسف والظلم.

error: النص محمي !!