Top
Image Alt

نماذج تطبيقية لتوضيح كل منهج

  /  نماذج تطبيقية لتوضيح كل منهج

نماذج تطبيقية لتوضيح كل منهج

نماذج تطبيقية للمنهج الوصفي:

سأل الكسائي في حلقة يونس فقال: أيٌّ كذا خلقت. يعني: يخفى التعليل. نقول: أيٌّ كذا خلقت. هل تقدم العامل؟ هل تأخر؟… إلى آخره؛ نقول: أيٌّ كذا خلقت؟

فالمنهج الوصفي لا يعلل، وهذا كان موجودًا أيضًا عند العرب في بعض الأمثلة عندما يقول: أيٌّ كذا خلقت؟ خذ هذا على علته… يعني عندما تسأل في مسألة من المسائل ولا تدري ما العلة، تقول: خذه على علته. أو هكذا وجد، ويعد هذا منهجًا وصفيًّا -كما هو مستعمل.

مثال آخر للمنهج الوصفي: يقول ابن جني: في (سر صناعة الإعراب): اعلم أن للحروف في اختلاف أجناسها انقسامات، نحن نذكرها، فمن ذلك انقسامها في الجهر والهمس.

وهي على ضربين: مجهور ومهموس؛ فالمهموسة عشرة أحرف، ويعدِّدُ الهاء والحاء والخاء والكاف والشين والصاد والتاء والسين والفاء والثاء. هي مجموعة “سكت فحثه شخص” لا تهز الأوتار الصوتية.

لم يقل ابن جني: مهموسة؛ لأنها لا تهز الأوتار الصوتية. ولم يقل: هذه مجهورة؛ لأنها تهز الأوتار الصوتية.

يقول عصام الدين إبراهيم بن عرب شاه الإسفراييني في باب البديع: هو علم يعرف به وجوه التحسين بعد المطابقة ووضوح الدلالة، وهي معنويةٌ ولفظيةٌ، فالمحسنات المعنوية هي:

المطابقة: وهي جمع المتنافيات -يعني المتقابلات- نحو: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] “يحيي” عكس “يميت”، و”يميت” عكس “يحيي”، ونحو: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] “كسبت” و”اكتسبت”، “كسب” في الخير في البر، و”اكتسب” في الشر. لم يقل لنا: لماذا كان كذا، ولا يفسر ولا يعلل، يعد هذا منهجًا وصفيًّا.

أيضًا المقابلة: وهي جمع أمور مع مقابلتها مثل قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82] “فليضحكوا” تقابل “يبكوا”، و”قليلًا” تقابل “كثيرًا”.

والمشاكلة: وهي ذكر الشيء بلفظ غيره للصحبة ولو تقديرًا، نحو قول الشاعر:

قالوا اقترح شيئًا ُجِدْ لكَ طَبْخَهُ

*قُلْتُ لهم: اطبخوا جُبَّةً وقَمِيصًا

الجبة والقميص لا يطبخان؛ ولكن لأنه قرن بالطبخ، هنا مشاكلة، ونحو قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة:138] أي: تطهيرًا لله في مقابلة غمس النصارى لصبيانهم في ماء أصفر للتطهير.

ومراعاة النظير: وهي جمع المتناسبات في نحو قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 5، 6] الشمس تناسب القمر، والنجم يناسب الشجر، والشمس والقمر علويان، والنجم والشجر سفليان -النجم هنا المقصود به النبات الذي لا ساق له. الشمس والقمر بحسبان أي: يجريان بحساب دقيق طاعة لله سبحانه وتعالى مسخران من الله سبحانه وتعالى، وأيضًا النجم والشجر يسجدان هنا مراعاة نظير، ولكنه لم يذكر تفسيرًا ولا تعليلًا؛ فهنا أيضًا نقول بأنه منهج وصفي.

والمزاوجة: وهي ترتيب معنى واحد على معنيين في الشرط والجزاء، نحو قول البحتري:

إذا ما نهَى النَّاهي فلجَّ بيَ الهوَى


*أصاختْ إلى الواشي فلجَّ بها الهجرُ
 

لم يعلل ولم يفسر.

أيضًا من نفس النص العكس جعل الجزء المقدم من الكلام مؤخرًا، والمؤخر مقدمًا، نحو قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19].

واللف والنشر أيضًا: جمع متعدد ونشر ما يتعلق بكلٍّ ترتيبه نحو: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73] فهذا النص أيضًا لم يعلل عصام الدين إبراهيم بن عرب شاه الإسفراييني لماذا كان هذا؟ ولماذا كان ذاك؟ ولكنه منهج وصفي.

وذكر أيضًا جمع إدخال متعدد في حكم نحو: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].

نماذج تطبيقية للمنهج المقارن:

الذين يقولون بأن المنهج المقارن حديث ولم يكن قديمًا مخطئون؛ ولنضرب مثالًا من المنهج المقارن لعلماء اللغة القدامى:

يقول ابن فارس: للعرب كلام بألفاظ به معانٍ لا يجوز نقلها إلى غيرها؛ يكون في الخير والشر، وفي الحسن والقبيح، وفي الليل والنهار.

فابن فارس يقول للعرب كلام مختصين به هذا الكلام به معانٍ لا يجوز نقلها إلى غيرها من اللغات.

إذن ابن فارس عندما يقول ذلك يقارن ويوازن بين اللغة العربية واللغات الأخرى، فهذا منهج مقارن.

يقول ابن فارس: من ذلك قولهم: مكانك، قال أهل العلم: هي كلمة وضعت على الوعيد قال الله -جل ثناؤه-: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} [يونس: 28] كأنه قيل لهم: انتظروا مكانكم؛ حتى يفصل الله بينكم.

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملكم على أن تتايعوا في الكذب، كما يتتايع الفراش في النار))، قال أبو عبيد: هو التهافت ولم نسمعه إلا في الشر.

يقول ابن فارس: سمعت أبا القاسم علي بن أبي خالد يقول: سمعت ثعلبًا يقول: “أولى له” أي داناه الهلاك، وأصحابنا يقولون: “أولى” تهديد ووعيد وهو قريب من ذلك. ومن ذلك: “ظل فلان يفعل كذا” إذا فعله نهارًا هذا خاص باللغة العربية، و”بات يفعل كذا” إذا فعله ليلًا، وفي باب نظم للعرب لا يقوله غيرهم يضيف ابن فارس قوله: ويقولون: “عَادَ فلان شيخا”، وهو لم يكن شيخًا قط، و”عاد الماء آجنًا” وهو لم يكن آجنًا فيعود.

ومن ذلك في كتاب الله -جل ثناؤه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257] والكفار لم يكونوا في نور قط، ومثله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70] وهو لم يكن في ذلك قط، وقال الله -جل ثناؤه: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] فقال: “عاد” ولم يكن عرجونًا قبل.

ويذكر ابن فارس في باب إخراجهم الشيء المحمود بلفظ يوهم غير ذلك فيقول: يقولون: “فلان كريم غير أنه شريف” و”كريم غير أن له حسبًا” وهو شيء تنفرد به العرب؛ فهذا أيضًَا من المنهج المقارن.

يقول الشاعر:

ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفهم

*بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائب

“ولا عيبَ فيهم”: هذا مدح.

فعندما نكمل البيت، نجد أنه لم يستثنِ عيبًا، ولكنه استثنى مدحًا لهؤلاء القوم. إذن هذا الأسلوب انفردت به العرب، ويسمى “تأكيد المدح بما يشبه الذم” فهنا أكد مدحه بما يشبه الذم؛ لأنه أتى بـ”غير” فأوهمنَا أن هناك عيبًا، هذا العيب وجدناه مدحًا؛ لأننا عندما نقول: “ولا عيب فيهم” مدحنا هؤلاء القوم، وعندما نقول: “غير” إذن نريد أن نستثني عيبًا من هذه العيوب، فوجدناه استثنَى مدحًا أيضًا.

وقال الآخر:

فتى كمُلتْ أخلاقُهُ غيرَ أنه

*جوَادٌ فما يُبقي من المال باقيا

قال “فتى كملت أخلاقه”: مدح. “غير أنه”: هذا الاستثناء يُوهم أن هناك عيبًا من العيوب سيستثنى من كمال الأخلاق، فوجدناه ليس عيبًا، ولكنه مدح بما يشبه الذم، فهذا يسمى في علم البديع: تأكيد المدح بما يشبه الذم.

ويقول ابن فارس أيضًا في باب الإتباع للعرب: الإتباع وهو أن تَتْبَعَ الكلمةُ الكلمةَ على وزنها أو رويها إشباعًا وتأكيدًا, وروي أن بعض العرب سئل عن ذلك فقال: هو شيء نتدبه كلامنا، يعني نؤكد به كلامنا، ومن ذلك قولهم: “ساغب لاغب” و”خراب يباب” نأتي بالكلمة على وزنها أو رويها إشباعًا وتأكيدًا؛ فنؤكد كلام السابق وهو “خَبٌّ ضب” و”خراب يباب” ثم يقول ابن فارس: وقد شاركت العجم العرب في هذه الباب.

إذن هذا منهج مقارن، يقارن بين اللغة العربية واللغات الأخرى، وهذا شيء انفردت به العرب، أو شيء قالته العرب، وقاله غير العرب؛ إذًا منهج الموازنة أو المقارنة كان موجودًا عند العرب قديمًا.

وكثيرًا ما تكون الكلمة الثانية لا معنى لها، وغير ذلك كثير مما اختصت به العربية دون غيرها من اللغات، وتكلم عنه علماء العربية، أو لم تنفرد به العربية، ووازنوا بينه في العربية وغيرها، أو لم يوجد له نظير في العربية، وحاولوا تعريبه، أو وُجِدَ له نظيرٌ إلا أنه أثقل نطقًا من نظيره الأعجمي.

 يقارن أو يوازن بين العربية وبين غيرها من اللغات عن طريق أنه يأتي بما اختصت به العربية، ويقول هذا اختصت به العرب، هذا وُجِدَ عند العرب وعند غيرهم. يقارن ويوازن بين اللغة العربية وبين غيرها من اللغات.

ونختم منهج المقارنة والموازنة بين اللغة العربية وغيرها، بما قاله ابن جني عن اجتماع السواكن والتقاء الساكنين في لغة العجم. فيقول:

ومن طريف اجتماع السواكن شيء وإن كان في لغة العجم؛ فإن طريق الحس موضع تتلاقَى عليه طِباع البشر، ويتحاكم إليه الأسود والأحمر، وذلك قولهم: “آرْدْ” الراء ساكنة، والدال ساكنة، ومعنى أرد: الدقيق. و”ماسْتْ” للبن، فيجمعون بين ثلاثة سواكن، عندنا هنا: “أرد” الألف والراء والدال، وهنا أيضًا “ماست” الألف ساكنة، والسين ساكنة، والتاء ساكنة، فاجتمع هنا ثلاثة سواكن. عندنا في اللغة العربية لا يجتمع ساكنان إلا في آخر الكلمة -إنما في وسط الكلمة لا يجتمع ساكنان- وفي حالة الوقف عندما -مثلًا-: {مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] الياء ساكنة والنون ساكنة، {الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110] الواو ساكنة والنون ساكنة أيضًا، ونسميه هنا في علم التجويد “المد العارض للسكون”.

يقول ابن فارس: بأنه لا يرى اجتماع السواكن إلا إذا كان الأول من السواكن ألفًا؛ وذلك لأن الألف لَمَّا قاربت بضعفها وخفائها الحركة، صارت “ماسْتْ” الألف ساكنة والسين ساكنة والتاء ساكنة، اجتمع هنا ثلاثة سواكن، قصرنا الحركة الطويلة -الألف- إلى حركة قصيرة -الفتحة- فصارت “ماسْتْ” “مَسْتْ”؛ لأننا إذا نظرنا إلى حروف اللين نجد أن حروف اللين: هي الفتحة والضمة والكسرة، عندما تكون قصيرة، والألف والواو والياء عندما تكون طويلة.

فالفتحة حركة قصيرة، والألف حركة طويلة، والكسرة حركة قصيرة، والياء حركة طويلة، والضمة حركة قصيرة، والواو حركة طويلة.

لا فرقَ بين الحركة القصيرة والحركة الطويلة، إلا فيما يستغرقه الصوت من الزمن، إذا نطقنا بالحركة القصيرة كالفتحة -مثلًا- فننطق بها مقدار قبض الإصبع أو بسطه.

فإذا مددنا هذه الحركة وأطلناها بمقدار حركتين، تصبح هذه الحركة القصيرة حركة طويلة؛ لأنها تسمى عندنا في علم التجويد “المد الطبيعي”.

إذن، في اللغة الفارسية أو في اللغة الأعجمية عمومًا، عندما يجتمع ساكنان كالكلمة الموجودة عندنا “ماست” هنا اجتمع الساكنان مع الألف، والألف ساكنة أيضًا، قالوا: لأن هذا يوجد في ما كان الساكن الأول ألفًا.

ويضيف ابن جني قوله:

ورأيت أبا علي -أي: أبا علي الفارسي -رحمه الله- غير المستوحش من الابتداء بالساكن في كلام العجم، ولعمري إنه لم يصرح بإجازته -يعني: أنه لم يجز ذلك- لكنه لم يتشدد فيه تشدده -يعني: أنه لم يتشدد في الابتداء بالساكن كما تشدد في اللغة العربية؛ لأن اللغة العربية لا يبتدأ فيها بساكن- في إفساد إجازة ابتداء العرب بالساكن.

ثم يضيف قوله: وإنما خفي حال هذا في اللغة العجمية -أي: في اللغة غير العربية كالفارسية وغيرها- لِمَا فيها من الزمزمة، يريد أنها لما كثر ذلك فيها، ضعفت حركاتها وخفيت.

يقول ابن جني في موضع آخر من (الخصائص):

وقد تجد في بعض الكلام التقاء الساكنين الصحيحين في الوقف وقبل الأول منهما حرف مد، وذلك في لغة العجم، نحو قولهم: “آرد وماست”. وذلك أنه في لغتهم مشبه بِدَابّة وشابّة في لغتنا. فعندنا “ماست” في اللغة الفارسية أو تُشبه بـ”دابة” ألف ساكنة، والباء مشددة، وعندنا الحرف المشدد بحرفين؛ الأول منهما: ساكن، والثاني: متحرك. و”شابة” أيضًا، الألف ساكنة، والباء الأولى من الحرف المشدد ساكنة أيضًا، التقى هنا ساكنان في اللغة العربية.

نماذج  للمنهج المعياري:

وأسوق إليك أيضًا توضيحًا للمنهج المعياري عند العرب.

يقول ابن جني في كتابه (المقتضب من كلام العرب):

“متى أُشكلت عليك لفظة، فلم تدر مقصورةً أم ممدودةً، فَاقْصرها، فإن قصر الممدود جائز، ومد المقصور خطأ”.

نحن قلنا: إن المنهج المعياري يعلِّل ويرجح ويقوي ويفسر، يعترف بالبنية التحتية. كل هذا طبعًا من خلال الأمثلة التي سنتعرض لها الآن.

مثال ابن جني في (المقتضب): عندنا الكلمة الممدودة صحراء -مثلًا-: عندما نقصرها نقول: صحرا بدل صحراء.

يقول ابن جني: ومتى أشكلت عليك لفظة ثلاثية، فلم تدر من الياء هي أم من الواو؟ فاكتبها بالألف، فإن كَتْبَ ذوات الياء بالألف جائز حسن، وكتب ذوات الواو بالياء خطأ.

هنا يعلل، اكتبها بكذا بسبب كذا، والتعليل هو من مكونات المنهج المعياري، بخلاف المنهج الوصفي لا يعلل ولا يفسر.

يقول ابن جني: متى أشكلت عليك لفظة مذكّرة هي أم مؤنثة، فذكرها، فإن تذكير المؤنث أسهل من تأنيث المذكر، لماذا؟ وذلك لأن التذكير هو الأصل، والتأنيث هو الفرع، المذكر أصل للمؤنث، يعني: عندنا في اللغة العربية الفتح أصل والإمالة فرع، الإظهار أصل والإدغام فرع؛ لأن الفرع لا يكون إلا بسبب، أما الأصل فيكون دون سبب. كما أن القصر هو الأصل، والمد هو الفرع، نقول: زكريا وزكرياء، زكريا: مقصور، زكرياء: ممدود، الأصل زكريا فيجوز لنا أن نقول: زكرياء، إنما الأصل القصر، وكما أن كتْبَ الألف في اللفظ ألفًا هو الأصل، وكتبْهَا ياء هو الفرع، فاعرف ذلك وقِس، تُصِبْ -إن شاء الله تعالى.

ويقول أيضًا ابن جني في كتابه (الخصائص):

فأما قول الله I: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] فلا يكون فيه “أو” على مذهب الفراء بمعنى “بل”: يعني: أرسلناه إلى مائة ألف بل يزيدون، ولا على مذهب قطرب في أنها بمعنى الواو، لكنها عندنا -يعني: عند ابن جني- على بابها في كونها شكًّا؛ وذلك أن هذا الكلام خرج حكايةً من الله عز وجل لقول المخلوقين، وتأويله عند أهل النظر: وأرسلناه إلى جَمْعٍ لو رأيتموه، لقلتم أنتم فيهم: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون.

ويذكر ابن جني: ومثله مما مخرجه منه تعالى على الحكاية، قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وإنما هو في الحقيقة الذليل المُهان، لكن معناه: ذق إنك أنت الذي كان يُقال له: العزيز الكريم.

ومثله: قوله عز وجل: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف: 49]. أي: يا أيها الساحر عندهم لا عندنا، وكيف يكون ساحرًا عندهم وهُم به مهتدون! وكذلك قوله: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] أي: شركائي عندكم.

نماذج المنهج التاريخي:

وُجِدَ المنهج التاريخي عند العرب أيضًا. كيف ذلك؟

يقول ابن جني في (الخصائص):

وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصَهيل الفرس، ونذيب الظبي، ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك.

من أمثلة المنهج التاريخي أيضًا ما ذكره ابن جني في موضع آخر، فقال:

وقد يُمكن أن تكون أسباب التسمية تخفَى علينا –أي: ولماذا سمي هذا بهذا الاسم؟ ولماذا سمي ذلك بهذا الاسم؟- لبعدها في الزمان عنَّا، ألا ترى إلى قول سيبويه: أو لعل الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر، أي أن الأول الحاضر شاهد الحال، فعرف السبب الذي له ومن أجله وقعت عليه التسمية، أي: الذين وُجِدوا أولًا عَرَفوا علةَ التسمية، وشاهدوا ما كانت عليه الأشياء، هذه العلل وهذه الأسباب ربما لم تصل إلينا.

يقول سيبويه: أما الآخر -الذين أتوا بعد ذلك- لبعده عن الحال، فلم يعرف السبب للتسمية، ألا ترى إلى قولهم للإنسان إذا رفَعَ صوته: قد رفع عقيرتَه، فلو ذهبتَ تشتقَّ  “رفع عقيرته” معناه في اللغة العربية: صوَّت. من أين أتى هذا المعنى؟ أتى هذا المعنى في أصل التسمية: أن رجلًا عُقرت رجلُه، فوضع رجله على الأخرى، وصاح بأعلى صوته، فقالوا: رفع عقيرته، فسُمي كل مَن يصوِّت: رفع عقيرته.

ثم يُضيف ابن جني قولَه: فإن هذا الكتاب -كتاب (الخصائص)- ليس مبنيًّا على حديث وجوه الإعراب، وإنما هو مقام القول على أوائل أصول الكلام.

وفي موضع آخر يقول ابن جني: الأصل في “قام”: قَوَمَ، والأصل في “باع”: بَيَعَ، وفي “طال”: طَوَلَ.. إلى آخره. عندما نأتي إلى “شد” أصله: شدد، “ودَّ”: ودِدَ، “حبَّ”: حبُبَ.

إذن ابن جني بهذا يمثل لنا بالمنهج التاريخي أصل هذا المثال كذا ثم بعد ذلك طُوِّرَ إلى كذا. “استقام” يقول: أصله: اسْتَقْوَمَ، وهذه أمثلة للمنهج التاريخي. فأما أن يكون استُعمل وقتًا من الزمان كذلك انصرف عنه فيما بعدُ إلى هذا اللفظ، يعني: أن هذه الألفاظ أو هذه الأمثلة، كان أصله كذا، أي: أنه لو جاءَ مجيءَ الصحيحِ، لَكَان هكذا.

error: النص محمي !!