Top
Image Alt

نماذج للنقد التطبيقي في كتاب (الديوان)

  /  نماذج للنقد التطبيقي في كتاب (الديوان)

نماذج للنقد التطبيقي في كتاب (الديوان)

نقد العقاد لأحمد شوقي:

ومن نماذج النقد التطبيقي الذي يحتوي عليه كتاب (الديوان)، ما قاله العقاد في نقده لشوقي في قصيدته التي قالها شوقي في رثاء محمد فريد، قال العقاد: نعود أيها القارئ إلى هذه القصيدة فلا نرى فيها مما لم نسمعه من أفواه المكدين والشحاذين، إلا كل ما هو أخس من بضاعتهم، وأبخس من فلسفتهم، كلها حكم يؤثر مثلها عن جملة الكيزان والعكاكيز؛ إذ ينادون في الأزقة والسبل: دنيا غرور، كله فان، الذي عند الله باق، ياما داست جبابرة تحت التراب، من قدم شيئًا التقاه … إلى آخره.

تلك أقوال الشحاذين، وهذه أقوال أمير الشعراء:

كل حي على المنية غادي

* تتوالى الركاب والموت حادي

ذهب الأولون قرنًا فقرنًا


* لم يدم حاضر ولم يبقَ بادي

هل ترى منهم وتسمع عنهم

* غير باق مآثر وأيادي

إلى آخره وما خلا هذه العظات مما نحا فيه فيلسوف الموت منحى الابتكار، ونزع فيه إلى الاستقلال بالرأي، فمعناه أحط من ذلك معدنًا وأقل طائلة وأفشل مضمونًا، والجيد منه لا يعدو أن يكون من حقائق التمرينات الابتدائية، كالزبيب من العنب واثنان زائد اثنان يساوي أربعًا، وهلم جرًّا، وأكثره أتفه من هذه الطبقة.

إذًا في هذا النقد العقاد يرى أن قصيدة شوقي في رثاء محمد فريد، تحتوي على معان تافهة وسطحية، وكلام متداول يقوله الشحاذون الذين يحملون الكيزان والعكاكيز، وأنه لا يقول جديدًا، وحتى الجيد من كلامه لا يعدو أن يكون حقائق، يصوغها في كلام مبتذل، وواضح في كلام العقاد القسوة والعنف في النقد.

ثم يوازن العقاد بين قصيدة شوقي هذه وقصيدة أبي العلاء، التي يقول فيها:

 نوح باك ولا ترنم شادي

* غير مجدي في ملتي واعتقادي

ويقول العقاد: أين شوقي من هذا المقام؟ ويواصل حديثه مخاطبًا شوقي: فاعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجواهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء: ماذا يشبه؟ وإنما مزيته أن يقول: ما هو ويكشف لك عن لبابه، وصلة الحياة به، وليس هم الناس من القصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنما همهم أن يتعاطفوا، ويودع أحسهم، وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه، وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وإذا كان وكدك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر، ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد.

ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة، ممن طبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه في رسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال، والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه، واتساع مداه، ونفاذه إلى صميم الأشياء، يمتاز الشاعر على سواه.

ثم يقول: وصفوة القول: أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس، فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًّا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذية إلى الدم، ونفحات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية، وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء، وهو شعر الحواس الضالة، والمدارك الزائفة، وما أخال كلامًا أشرف منه بكم الحيوان الأعجم.

وهو هنا كأنه يريد أن يعلم شوقي حقيقة الشعر، ويعلمه التشبيه الجيد كيف يكون، ويتهم شعر شوقي بأنه شعر الطلاء والقشور، وأنه يأتي في مرحلة حقيرة، أو درجة متدنية من الكلام، وأن هذا الشعر لا يرتد إلى أعماق النفس، ولا يمكن إرجاعه إليها، وإنما لا يتجاوز المحسوسات، وفي موضع آخر يتهم العقاد شوقي بفساد الذوق، وأنه يقذع في الهجاء من حيث أراد أن يمدح، أو ينوي الذم فيأتي بما ليس تفهم منه غير الثناء.

ويقول: أشد من ذلك إيغالًا في سقم الذوق، وتغلغلًا في رداءة الطبع شاعر يهزل من حيث أراد البكاء، وتخفى عليه مظان الضحك، وهو في موقف التأبين والرثاء، والعبرة بالفناء ويتهم العقاد شوقي بأنه ارتكب هذا وهو يرثي عثمان غالب، فيقول:

ضجت لمصرع غالب في الأرض مملكة النبات

أمست بتيجان عليه

* من الحداد منكسات

قامت على ساق لغيبته





* وأقعدت الجهات

في مأتم تلقى الطبيعة



* فيه بين النائحات

وترى نجوم الأرض من جزع



* موائد كاسفات

ويتهكم العقاد على شوقي قائلًا، فلو فجعت مثلًا بموت عالم من علماء المعادن، لما سمح لزهرة واحدة أن تزيل دمعة أسفًا لفرقته، وإنما كان لا يضيق به الخيال الفسيح، والذوق المليح، فكان يجعل اسوداد الفحم حدادًا عليه، وصلابة الحديد جمودًا لهول المصيبة فيه، وكان يجعل اصفرار الذهب وجلًا، واحمرار النحاس احتقانًا، ولين القصدير ذوبانًا، ثم يتابع سخريته الحادة فيقول: وأي تفسير أو تأويل كنت لا تسمعه من الشاعر الندابة في صهيل الخيل، ونهيق الحمير، ومواء القطط، وعواء الكلاب ونقيق الضفادع، لو كان العالم المفقود من علماء الحيوان لا من علماء النبات.

فالعقاد هنا يرمي شوقي بفساد الذوق، وأن كلامه في رثاء عثمان غالب يبعث على الضحك، ولا يليق بالرثاء؛ لأنه جعل النبات تحزن على هذا الرجل؛ لأنه عالم في النبات والعقاد يستمر في سخريته، ويقول: لو كان هذا العالم الذي مات، وأراد شوقي أن يرثيه لو كان عالمًا في الحيوان، كان خيال شوقي سيسعفه بأن يجعل نقيق الضفادع، وعواء الكلاب، وصهيل الخيل، ونهيق الحمير، سيجعل شوقي كل ذلك من مظاهر الحزن على عالم الحيوان.

ولو كان العالم الذي مات، وأراد شوقي أن يرثيه عالمًا في الطبيعة، كان شوقي سيجعل اسوداد الفحم حدادًا عليه، وصلابة الحديد جمودًا لهول المصيبة، واصفرار الذهب واحمرار النحاس، ولين القصدير، سيجعل الشاعر كل ذلك من مظاهر حزن هذه المعادن على عالم الطبيعة.

النقد يدل على عقل كبير، ويدل على ثقافة تستطيع أن ترى، وأن تحكمك، وأن تنقد، لكنه في الوقت ذاته فيه كثير من التحامل على شوقي بهدف إسقاط شعره وهدمه، كما ذكر العقاد في مقدمة كتاب (الديوان).

error: النص محمي !!