نماذج من أهم الوفود
كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بلقاء هذه الوفود التي كانت تأتي لتعلن إسلامها، فكان صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ثيابه، وكانت له حلة يمانية، كذلك كان يحضر هذا اللقاء الصحابة، وعليهم مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من جميل الثياب، وهذا نوع من رقي الذوق في الإسلام.
كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يُعَلِّم هذه الوفود أركان الإسلام، ويجيب على من يريد التفقه منهم في أمور الدين العامة، أو فيما يخصه من المسائل، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يودعهم، ويحسن العطاء لهم.
ولقد ترددت في كثير من الوفود عبارات أنهم نزلوا في بيت رملة بنت الحارث، وهي امرأة من الأنصار لها صحبة، وكانت زوجًا لمعاذ بن عفراء، وكانت دارها معدة لنزول الوفود.
وإذا ألقينا نظرة على الكتب التي تناولت أمر الوفود سنجد أن بعضها نهج نهجًا في الترتيب غير الآخر.
فمثلًا ابن سعد قسم الوفود ورتبها على أساس نسبها، فبدأ بوفود قبائل مضر، وذكر منهم ثلاثة وعشرين وفدًا، ثم ذكر وفود ربيعة التي كانت خمسة وفود، ثم وفود اليمن التي بلغت اثنين وأربعين وفدًا.
أما ابن كثير، فذكرهم على حسب أفضليتهم في السبق؛ حيث ذكر أول ما ذكر: وفد مزينة الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الخامسة للهجرة، وكانوا أربعمائة رجل، وكان ذلك في رجب من السنة الخامسة، وقد جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم وفادتهم هجرة لهم، ولكنه جعل هجرتهم في دارهم وقال: “أنتم مهاجرون حيث كنتم، فارجعوا إلى أموالكم”، وكان أول من قدم منهم خزاعي ابن عبد نهم، مع عشرة من قومه، فبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه، لكنهم تأخروا بإسلامهم.
ومن أهم الوفود التي وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم في عام الوفود كان وفد ثقيف أهل الطائف، الذين قدموا عليه صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة التاسعة مرجعه من غزوة تبوك.
وكان الذي دفعهم إلى هذا أن الإسلام وقع في قلوب رجال كان لهم شأنهم في ثقيف، أمثال: عروة بن مسعود الذي لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مضى إلى المدينة من حصار الطائف، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يحرص على ثقيف، كما كان يحرص على قريش، لأن بقاءها في هذه النواحي ما يعد قوة للإسلام.
ولعلنا نذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان أول بلد خرج إليه يدعوه إلى الإسلام -بعد مكة- كانت الطائف، ولما حاصر الطائف لم يشتد في حصارها، ولم يستمر حتى يفتحها؛ لأنه أراد أن تأتي ثقيف مسلمة بأمر الله؛ ولذلك لما طلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف قال: “اللهم اهد ثقيف، وائت بهم”، فلما قدموا إلى المدينة رآهم المغيرة بن شعبة وكان في ركاب المسلمين يرعاها، فلما رآهم أسرع يخبر النبي صلى الله عليه وسلم ويبشره صلى الله عليه وسلم بمجيء قومه، فتلقاه أبو بكر وعلم منه وأقسم عليه ألا يسبقه بهذا الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون أبو بكر هو الذي يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك سر النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئهم، وضرب لهم قبة في المسجد، وكانوا ضيوفًا عليه نحوًا من عشرة أيام.
وكان صلى الله عليه وسلم من حرصه على ثقيف فإنه كان يأتيهم كل ليلة بعد العشاء فيقف عليهم ويحدثهم ويراوح بين قدميه من التعب في الوقوف، كما أنه صلى الله عليه وسلم حرص على تعليمهم القرآن، وتفقيههم في أمر الدين.
ومن ناحية أخرى؛ فإن وفد ثقيف سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورًا لم يجبهم إليها، فقد سألوه صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهي: اللات ثلاث سنوات فأبى عليهم صلى الله عليه وسلم ذلك، فما برحوا يسألونه سنة، سنة ويأبى عليهم صلى الله عليه وسلم ذلك، حتى سألوه أن يستبقيها شهرًا بعد مقدمهم إلى الطائف فأبى كل ذلك عليهم صلى الله عليه وسلم ثم إنهم وما كان قصدهم من وراء هذا إلا أن أهل الطائف كانت قد أشربت قلوبهم حب اللات، وكانوا يخشون من سفهائهم، ومن النساء؛ ولذلك فإنهم لما رأوا شدة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الإباء استعفوه من أن يهدموها بأيديهم، فأجابهم إلى ذلك.
كما أنهم طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: ((وأما الصلاة: فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه))، وهكذا أسلم هذا الوفد، وكتب لهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابهم.
ثم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنًّا، وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام، وتعلم القرآن، وكان من وصاته صلى الله عليه وسلم لعثمان: أن يسير فيهم بأمر الدين، وفيما يتعلق بأمر الصلاة فإنه أمره أن يتجوز فيها وأن يقدر الناس بأضعفهم، حتى يكون في ذلك استمالة لقلوب ثقيف إلى الصلاة، ما داموا قد طلبوا إعفاءهم منها.
أما أمر اللات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة أخاهم لهدم اللات.
كذلك وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم وهي من القبائل التي لها شهرتها بين العرب.
وكان قدومهم عليه صلى الله عليه وسلم لما نالهم على يد السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم وجعل عليها عيينة بن حصن، ذلك أنهم تعرضوا للمصدق الذي جاء يأخذ زكاة خزاعة، ذلك أن خزاعة جمعت زكاتها فاستنكرت بنو تميم ذلك، واستكثرت هذه الزكاة، وشهروا سيوفهم مما دفع عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الصدقات إلى أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “من لهؤلاء؟” فانتدب عيينة بن حصن فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمدوا له، بعد أن أغار عليهم، ويقال: بأنه أسر أحد عشر رجلًا منهم، وسبى إحدى عشرة امرأة، وثلاثين صبيًّا، وقدم بهم إلى المدينة، ومن ثم جاء رؤساء بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، ورجالٌ كثيرون من رؤسائهم، وتذكر بعض الروايات أنهم كانوا نحوًا من ثمانين أو تسعين رجلًا، فدخلوا المسجد وقد أذن بلال لصلاة الظهر والناس ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم ولما كان بنو تميم لم يعرفوا آداب المسجد، وقد جاءوا فإنهم صاحوا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات: اخرج لنا يا محمد.
ولذلك ذكرت هذه الحادثة آيات سورة الحجرات التي سميت بالحجرات، حجرات نساء النبي صلى الله عليه وسلم التي نادوه من ورائها، ثم إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما جئنا نفاخرك، وكان هذا بعد أن صلى صلى الله عليه وسلم الظهر بالناس، فأذن صلى الله عليه وسلم لخطيبهم أن يتكلم، فقام عطارد بن حاجب فتكلم يفخر بقومه وأعمالهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس أن يقوم فيجيب عن المسلمين فقام فخطب وأجاد رضي الله عنه ثم قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا فأذن له صلى الله عليه وسلم فقام الزبرقان بن بدر فأنشد قصيدة يعدد فيها -كذلك- مآثر قومه ويفاخر بهم، فلما فرغ الزبرقان من شعره، طلب النبي صلى الله عليه وسلم من حسان أن يجيبه، فقام حسان فقال: شعرًا يرد به على شاعر بني تميم، ويذكر فيه مآثر المهاجرين والأنصار، فلما فرغ حسان من شعره، قال الأقرع بن حابس: وأبي يقسم إن هذا الرجل -يقصد النبي صلى الله عليه وسلم- لمؤتًا له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا، ثم بعد ذلك أعلن القوم إسلامهم، وجوزهم النبي صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم.
كذلك وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ضمام بن ثعلبة وافدًا عن قومه بني سعد بن بكر، وقد جاء إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأناخ بعيره على باب المسجد، ثم دخل وسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان جالسًا في أصحابه، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عن حق رسالته، وأن ما أمره الله به من أوامر الإسلام، وعدد فرائض الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يجيبه عن كل ما يسأل، ثم إنه لما فرغ من سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى قومه راجعًا، ولما أتى قومه دعاهم فاجتمعوا إليه، فكان أول ما قال فيهم: بئست اللات والعزى، فقالوا: مه، يا ضمام اتق البرص والجذام والجنون، يخوفونه أن تصيبه اللات والعزى، فقال: إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه، فأجابه قومه إلى الإسلام.
وكان من خير الوفود التي وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس، هذه القبيلة التي كانت تسكن البحرين، وكانت لهم وفادتان على النبي صلى الله عليه وسلم:
الأولى: قبل الفتح في سنة خمس أو قبلها، وهم أول من أقاموا الجمعة بعد المدينة بقريتهم المعروفة باسم جواثا التي سبقت القرى كلها في تجميع الجمعة.
وكان وفدهم الأول ثلاثة عشر رجلًا، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأشياء نأخذ بها وندعو مَن وراءنا، فأوجز لهم صلى الله عليه وسلم الأمر والنهي في الدين، وكان صلى الله عليه وسلم بشر بمقدمهم بين أصحابه، وقال عنهم بأنهم خير أهل المشرق؛ ولذلك قام عمر يستقبلهم ويخبرهم بما قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلوا سراعًا عن رواحلهم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتدوا لباس اللقاء به صلى الله عليه وسلم وإنما تلقوه بلباس سفرهم فرحًا بهذه البشرى، وتناولوا يده الشريفة يقبلونها.
الثانية: فكانت سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلًا فيهم الجارود بن عمرو الذي كان على النصرانية، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد، إني كنت على دين، وإني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “نعم، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه” فأسلم وأسلم أصحابه.
كما قدم المدينة وفد طيئ فيهم سيدهم زيد الخيل، وقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد: ((ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته، دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل؛ فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه، ثم سماه صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقطع له مكانًا بشرقي سَلْمى)) وهو أحد جبلي طيئ، كما أقطعه أرضين معه، وكتب له بذلك كتابًا فخرج من عنده صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى قومه، ولكن أدركته الوفاة وهو في طريقه.
وما دمنا في الحديث عن طيئ فنذكر أمر عدي بن حاتم الطائي الذي أسلم هو الآخر، ولكن بعد أن هرب إلى الشام كرهًا في الإسلام، وكان قد فر إلى الشام لما غزا المسلمون طيئ، فر بأهله وترك أخته التي أخذت مع من أخذ من أهل طيئ، فلما جيء بهم إلى المدينة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنّ عليها بالفداء، وكررت ذلك عليه أيامًا، حتى منّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولكن قال لها: “لا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لكي ثقة حتى يبلغك بلادك، ثم آذنيني”. ولكنها كانت تقصد أن تذهب إلى أخيها بالشام، فانتظرت حتى قدم ركبٌ من بلي، أو قضاعة، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في أن تخرج فأذن لها صلى الله عليه وسلم وكساها، وأعطاها نفقة، وحملها على ما يبلغها غايتها.
ولما وصلت إلى الشام عاتبت أخاها على تركه إياها، ونصحته أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم معها؛ ولذلك قدم أخوها عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه.