نماذج من افتراءات المستشرقين على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم
نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم تناوله المستشرقون بكتاباتٍ عديدة، وارتبط موقف المستشرقين من القرآن بموقفهم من النبوّة في ذاتها؛ لأنهم يقفون من النبي ومن النبوّة موقف الإنكار المطلق. هذا ما عليه جمهور المستشرقين؛ لكن بعضهم قد يُنكر نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لكن يؤمن بنبوّة عيسى ونبوّة موسى، كبعض المستشرقين من أهل الديانتيْن. وهناك من يُنكر أصلًا النبوّة ويُنكر قضية الوحي، ويترتّب على هذا أنه ينكر أن يكون القرآن وحيًا إلهيًّا. وربما غالى بعضهم أيضًا أو صرّح بعضهم بأنه ليس هناك وحي نزل لا على موسى ولا على عيسى ولا على محمد.
ومعلوم: أن الإيمان بالنبيّ وبالنبوّة أصل من أصول الاعتقاد التي لا تقبل الشك، يؤمن بها كل مسلم إيمانًا جازمًا كإيمانه بالله. والإيمان بالنبوّة هو المِفتاح الحقيقي لتقبُّل كلّ ما جاء به الوحي ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكأنَّ الإيمان بالنبوّة هو المدخل الطبيعي للإيمان بالإسلام وبمصادر الإسلام؛ بل أكثر من هذا: هي المدخل الطبيعي للإيمان بما نزل على نبيّ الله موسى من التوراة الصحيحة. وهي المدخل الطبيعي للإيمان بما نزل على نبيّ الله عيسى ممّا صح من الأناجيل. فكأنّ قضيّة النبوّة هي أصل من أصول الإيمان لعلاقة الأرض بالسماء، لعلاقة الخالق بالمخلوق. ومن هنا نجد أنّ كثيرًا من المستشرقين وجّهوا سهامهم أصلًا إلى قضية النبوّة، وبعضهم خصّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالذات. هذا موقف يجسِّد قضية الاستشراق، وموقف المستشرقين من مصادر الإسلام الأولى: القرآن الكريم والسُّنة النبويّة المطهّرة.
ولكي يكون عند السامعين فكرةٌ عن النبوّة، ينبغي أن يعلموا: أن النبوّة في جوهرها هي: إنباء الله تعالى عبدًا من عباده بشرعٍ ما، وبوحْيٍ ما. فإن أمَره بتبليغ هذا الشرع إلى الناس كان رسولًا نبيًّا، وإن لم يأمره بتبليغ هذا الشرع إلى الناس كان نبيًّا فقط.
وينبغي أن يُعلم: أن هناك فَرْقًا بين النبوّة والرسالة، بين النبيّ والرسول. فالنبيّ ينزل عليه الوحي لكن لا يُؤمر ببلاغه أو بإبلاغه إلى الناس. والرسول ينزل عليه الوحي، ويُؤمر بتبليغ هذا الوحي إلى الناس. ولذلك الفارق ينبغي أن يكون واضحًا في أذهان القراء بين النبي والرسول.
والنبوّة في جوهرها أيضًا: اصطفاء وعطاء من الله I وليست كسبًا، ولا اجتهادًا كما يرى بعض المفكِّرين في الغرب. وما بلّغته الرسل إلى الناس من شرائع وعبادات ليست من عند أنفسهم، وإنما هي وحي من الله I نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون منذرًا بما جاء في هذا الوحي، ومبشِّرًا بما جاء في هذا الوحي. فإن نزل الوحي بالعربية كان قرآنًا، وإن نزل بالسريانية كان إنجيلًا، وإن نزل بالعبرية كان توراة، تحقيقًا لقوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ }[إبراهيم: 4].
وهذا الوحي ليس فيضًا من العقل الفعّال كما تدّعي الفلاسفة، وكما عليه كثير من المستشرقين، وليس إبداعًا لعبقرية النبيّ كما يقول بعض المستشرقين، وإنما هو وحي من الله على قلب الرسول بواسطة ملَك الوحي جبريل عليه السلام فهو من عند الله بلفْظه ومعناه كما هو الحال في القرآن الكريم، أو بمعناه دون لفْظه كما هو الحال في السُّنة النبويّة المطهّرة. لكن المستشرقين يرون القضية على عكس ذلك تمامًا. فهم أولًا يُنكرون قضيّة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يعترفون له بالنبوّة ولا بالرسالة.
واختلفوا فيما بينهم في تحديد ماهية هذا الرجل، ماهية النبيّ صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لماذا اختلفوا؟ لأنّ الرسالة التي بلّغها إلى الناس أكبر من أن يقوم بها بشر، عالِمًا كان، أو فيلسوفًا، أو من كبار مفكِّري العالَم. فقد أعجزهم تفسير هذا الوحي، وأعجزهم أن يكون هذا الوحي من صنع البشر؛ لكن في نفس الوقت يُكابرون ويعاندون ويقولون إنه ليس وحيًا من السماء. ومن هنا اختلفت مواقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم .
فهو عند البعض أحد عباقرة العالم العشرة. بعض المستشرقين عدّد زعماء العالَم وكبار مفكِّري العالَم، فجمَعهم عشرة، وقال: إن محمدًا نبيّ العرب هو أحد عباقرة العشرة، لكن ليس نبيًّا يوحى إليه من السماء. والبعض الآخر جعل النبيّ أحد الأبطال العظماء في صناعة التاريخ البشري. وعند البعض الآخر: ناقل ذكيّ متأثر بكتب الأوّلين السابقين، سواء كان الأولون السابقون من رهبان النصارى، أو من كبار مفكري العالم السابقين على الدعوة الإسلامية. وأكثر من هذا غرابةً: أنّ بعض المستشرقين يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أحد المشعوذين، أو طلاب الرياسة والزعامة. نعم، بعضهم صرّح بذلك، وهكذا قال بعضهم في حق نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم .
وهذا يدعونا إلى أن نتناول هذه الأمور بشيء من التفصيل. وسوف أكون مضطرًّا إلى ذكْر بعض أسماء المستشرقين حتى يكون كلامُنا عنهم موثّقًا علميًّا ومنهجيًّا، وحتى لا نكون من أصحاب الدعاوى الخالية من الدليل. وسوف أختار نماذج فقط من بعض المدارس الاستشراقية؛ لأن تناول المستشرقين على سبيل الاستقصاء والإحصاء أمْر فوق الطاقة في مثل هذه المواقف، ولكن سوف أركّز على نماذج معيّنة، والدعاوى التي يقول بها هذا المستشرق الذي أختاره مردّدة في كتابات غيره من المستشرقين.
يقول أحد المستشرقين الألمان وهو: (هربرت جريني) في كتابه عن محمد، وهذا هو عنوان الكتاب “محمد” صلى الله عليه وسلم : “لم يكن محمد في بادئ الأمر يبشِّر بدين جديد، بل إنما كان يدعو إلى الاشتراكية. فالإسلام في صورته الأولى لم يكن يحتاج إلى أن نُرجعه إلى ديانةٍ سابقةٍ تأثّر بها، أو تفسّر لنا تعاليمه؛ وإنما هو محاولة للإصلاح الاجتماعي تهدف إلى تغيير الأوضاع الفاسدة، وعلى الأخص إزالة الفوارق الصارخة بين الأغنياء والفقراء في مكة. لذلك نراه -أي: محمدًا صلى الله عليه وسلم يفرض ضريبة معيّنة لمساعدة المحتاجين. وهو يستخدم فكرة الحساب في اليوم الآخِر كوسيلةٍ للضغط المعنوي، ولتأييد دعوته في جمع الأموال من الأغنياء”.
هذا مستشرق ألماني، فهو يرى أن الزكاة التي فُرضت على المسلمين ليست وحيًا، ليست أمرًا إلهيًّا. لم ينزل بها قرآن، ولم يأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين نتيجة نزول الوحي عليه. وإنما يراها ضريبةً فرضها محمد صلى الله عليه وسلم يساعد بها الفقراء والمحتاجين في هذه المنطقة من العالم، ضريبة وليست زكاة، من أوامر محمد صلى الله عليه وسلم وليست وحيًا إلهيًّا، هذا نموذج.
نموذج آخر من المستشرقين الإنجليز وهو: “جِب”، وضع كتابًا أسماه (المذهب المحمدي). وقد يترجم أحيانًا بـ(الديانة المحمدية). يقول هذا المستشرق: “إن محمدًا صلى الله عليه وسلم ككل شخصيةٍ مُبدعة، قد تأثرت هذه الشخصية بضرورات الظروف الخارجية المحيطة به في مكة. ثم هو من جهة أخرى قد شقّ طريقًا جديدًا بين الأفكار والعقائد السائدة، خاصةً ما كان معروفًا في زمانه من عقائد، هذه العقائد التي دارت وانتشرت في المكان الذي نشأ فيه محمد. ولقد نجح محمد؛ لأنه كان واحدًا من المكيِّين. ومعارضة المكيين له لم تكن من أجل تمسّكهم بالقديم، ولا بسبب عدم رغبتهم في الإيمان، وإنما كانت لسبب سياسي أو اقتصادي نتيجة ما نادى به محمد”.
فهذا المستشرق يفسِّر موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم فيرى: أنّ دعوة محمد، أو أن قوله بأنه نبيّ رسول لم يكن نتيجة وحي من السماء، وإنما نتيجة الظروف المكية التي جعلت منه زعيمًا سياسيًّا، ومصلحًا اجتماعيًّا، وأعطته الفرصة لكي يظهر في وسط قومه المكيِّين بهذه الصورة، وأن يلتفّ حوله الفقراء؛ طلبًا للإنصاف من الأغنياء. فكانت تفسيراته لموقف النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرًا سياسيًّا واقتصاديًّا، خاصةً أنه يقول في هذا الكتاب: “إن محمدًا كان يهرب صلى الله عليه وسلم من الأوضاع الاجتماعية في مكة إلى الجبل، ويختبئ فيه عن أعين الرقباء. وهذه الخلوات التي كان يقوم بها صلى الله عليه وسلم أعطته نوعًا من التفكير والتأمل في أوضاع مكة، وفي أوضاع الفقراء فيها، فجعل يدعو الأغنياء إلى معاونة الفقراء، والتفّ حوله الفقراء، فجعلوا منه زعيمًا حاربوا به أغنياء مكة”.
هذا تفسير “هامِلتون جِب” لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم ولنبوّته صلى الله عليه وسلم .
لكن هناك نمط آخر من المستشرقين يروْن: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد حلّت به حالة نفسية أدّت به إلى نوع من التأمّل الذاتي في السماء، وما فيها من نجوم، وما فيها من أقمار، وساعده هذا التأمل على تألّق هذا النوع النفسي. وتأمّله في أجواء مكة، وما تتركه هذه الحالات من رهبة في قلوب المتأمِّل، خاصة إذا خلا ونفسه، إذا خلا وعالمه الطبيعي الموحش، إذا خلا وجبال مكة، إذا خلا بنفسه في هذه الظلمة في داخل الكهوف التي كان يعيش فيها، تثير في النفوس حالات من الهلع والتأمّل الذاتي، تجعل من صاحبها يدّعي كثيرًا من الادعاءات التي يطلع ويخاطب بها بني قومه. كأنهم يريدون أن يقولوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أصابته نوبة من نوبات الجنون أو الهوَس نتيجة اعتكافه وخلوته في الغار الذي كان يخلو فيه صلى الله عليه وسلم .
وعلى مثل هذا النحو من الفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موقف كثير من المستشرقين. على سبيل المثال أيضًا، يقول (غوستاف لوبون): “يجب اعتبار أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم من فصيلة المتهوّسين من الناحية العلمية، وكأكبر مؤسّس للديانات. ولا نعجب من ذلك؛ فلم يكن ذوو المزاج البارد من المفكِّرين هم الذين يُنشئون الديانات ويقودون الناس. وإنما أولو الهوس العقلي هم الذين مثّلوا هذا الدور، وهم الذين أقاموا الأديان وهدموا الدول، وقادوا البشرية”.
هذا المستشرق (غوستاف لوبون) وضع كتابًا أسماه: “حضارة العرب”، صرَّح فيه بآراء وأفكار تدل على جهله بالوحي والنبوّة، وتدل على جهله بطبيعة الحضارة الإسلامية، وعلى جهله بالحياة الخاصة للرسول صلى الله عليه وسلم لذلك نجده يتّهمه في هذا الكتاب بالشهوانية، ويتّهمه في حياته الزوجية. ويرتّب على هذا الاتهام مجموعة من الأحكام التي تدل على جهله بخصوصيات الرسل، وخاصة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويجعل من القرآن دليلًا على عبقرية الرسول وإبداعه، أو يحاول في مكان آخر من الكتاب أن يضعه في مكانة أدنى من كتب الهندوس الدينية. ويرى أنه كتاب مؤقّت بعصره، لا يحقق حاجات الناس في العصور التالية. وقد انتشرت دعوى هذا المستشرق (غوستاف لوبون) في كثير من الكتابات الاستشراقية التي أتت بعده. نفس الدعوى ونفس القضية، بل تكاد تكون نفس الألفاظ.
نموذج آخر: “جولد تسيهر” وضع كتابًا أسماه: (مذاهب التفسير الإسلامي). صرّح في هذا الكتاب بأن المعرفة التي جاءت في القرآن الكريم، والتي تلقّاها محمد صلى الله عليه وسلم يقول: “إنه تلقاها عن مصدريْن أساسيّين. فتبشير محمد العربي ليس إلّا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينيّة عرَفها بفضل اتّصاله بالعناصر اليهودية، والعناصر المسيحية التي تأثّر بها تأثرًا عميقًا”.
و”جولد تسيهر” هذا من كبار المستشرقين اليهود الذين خاضوا في حق الرسول وفي حق القرآن الكريم. يقول “جولد تسيهر”: “والتي رآها جديرة بأن توقظ في بني وطنه عاطفة دينية صادقة، وهذه التعاليم التي أخذها عن تلك العناصر الأجنبية اليهودية والمسيحية، كانت في وجدانه ضرورية لإقرار لون من الحياة في اتجاه يريده الله. ولقد تأثر بهذه الأفكار تأثرًا عميقًا، وأدركها بإيحاء التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه. كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيًا إلهيًّا، نتيجة تأمله في هذه التعاليم”.
ويسير في نفس الاتجاه “بلاشير” في كتابه الذي أسماه: (معضلة محمد)؛ حيث يرى: أنّ التشابه الواقع بين قصص القرآن وقصص التوراة والإنحيل، كان سببًا في القول بأنّ محمدًا أخذ القرآن عن هذيْن المصدريْن.
هذه نماذج من مدارس مختلفة، بعضها إنجليزي، بعضها ألماني، بعضها فرنسي، موقفها من القرآن الكريم، وموقفها من النبي صلى الله عليه وسلم .
نموذج آخر يبيّن موقف المستشرقين من التراث الإسلامي ككل. على سبيل المثال: نجد المستشرق الفرنسي “نيكلسون” كتب كتابين عن التصوف الإسلامي، وعن الدراسات الصوفية، بيّن فيهما أو صرّح فيهما: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أخذ القرآن عن مصادر متعدّدة، لكن أهم هذه المصادر عند “نيكلسون” هي: المسيحية. ويتَّهم القرآن بالتناقض والتضارب الذي لم يستطع أهل مكة اكتشاف ما فيه من تناقض لسذاجتهم وعدم قدرتهم. هكذا يصرح نيكلسون؛ حيث يقول: “والقارئون للقرآن الكريم من الأوربيَّين لا تعوزهم الدهشة من اضطراب مؤلّفه -وهو محمد- وعدم تماسكه في معالجة كبار المعضلات. وهو نفسه -يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن على علم بهذه المعضلات، كما لم تكن حجَر عثرة في سبيل صحابته الذين تقبّل إيمانهم الساذج بالقرآن الكريم على أنه كلام الله”. كما اتّهم هذا المستشرق الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه حرَّف النصرانية، وأساء فهْمها.