نماذج من الخطابة في العصر العباسي
. نماذج من الخطابة:
قال الحسن بن سهل للمأمون يومًا:
“الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك وثني ما أعطاك؛ إذ قسم لك الخلافة، ووهب لك معها الحجة، ومكنك بالسلطان، وحلاه لك بالعدل، وأيدك بالظفر، وشفعه لك بالعفو، وأوجب لك السعادة وقرنها بالسيادة، فَمَن فُسح له في مثل عطية الله لك أمن ألبسه الله من زينة المواهب ما ألبسك، أمن ترادفت نعمة الله عليه ترادفها عليك، أم هل حاولها أحد وارتبطها بمثل محاولتك، أم أي حاجة بقيت لرعيتك لم يجدوها عندك، أم أي قيم للإسلام انتهى إلى عنايتك ودرجتك، تعالى الله تعالى، ما أعظمَ ما خص القرن الذي أنت ناصره، وسبحان الله أي نعمة طبقت الأرض بك، إن الله تعالى خلق السماء في فلكها ضياءً يستنير بها جميع الخلائق، فكل جوهر زها حسنه ونوره، فهل لبسته زينته إلا بما اتصل به من نورك، وكذلك كل ولي من أوليائك سعد بأفعاله في دولتك، وحسنت صنائعه عند رعيتك، فإنما نالها بما أيدته من رأيك وتدبيرك”.
على هذا النحو كانت مجالس خلفاء بني أمية عامرة بالبلغاء الخطباء والفصحاء، وكانت الفصاحة عندئذٍ يمكن أن تكون سببًا قويًّا في تقريب صاحبها من أصحاب النفوذ، بل من الخلفاء أنفسهم، ويمكن أن تكفل لهم الغِنى والحظوة عند هؤلاء الخلفاء ومَن دونهم من الأمراء والولاة والوزراء، فقد كان الحسن بن سهل – الذي أوردنا كلمته في مدح المأمون- كان وزيرًا للمأمون وما مكنه من الوزارة وقربه إليها إلا هذه البلاغة وتلك الفصاحة، ثم تزوج المأمون من ابنته، فَعَلَتْ منزلته، وكانت بلاغته هي السبب الأول في ذلك.
ومما يدل على أثر هؤلاء الخلفاء وفصاحتهم واهتزازهم للقول البليغ وتذوقهم له وتشجيعهم لأصحابه، أنه قيل للمهدي عن شبيب بن شبة، بغرض الإيقاع به: إن شبيبًا يستعمل الكلام ويستعدله، فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأةً لافتضح أمره. فأمر رسولًا فأخذ بيده حتى أصعده المنبر، وقال له: خُذ في مدح أمير المؤمنين؛ يعني: دون إعداد ودون استعداد، هكذا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه حق الصلاة، ثم قال:
“أيها الناس، ألا إن لأمير المؤمنين أشباهًا أربعةً: الأسد الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر، فأما الأسد الخادر فأشبَه منه بأسه ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبَه منه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر فأشبَه منه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبَه منه حسنه وبهاءه”.
فاستطاع هذا الرجل على البديهة أن يقول هذا الكلام الجميل البديع المؤثر الذي يشهد له بحسن الفصاحة، والقدرة على البلاغة والتملك من الخطابة.
كما يتجلَّى أثر هؤلاء الخلفاء في تسامحهم -كما أسلفت- وإتاحة حرية التعبير للوعّاظ الناصحين الذين كانوا يتوجهون إليهم بالموعظة، كما حَدَثَ من يزيد بن عمر بن هبيرة وقد دخل على المنصور، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن سلطانكم حديث، وإمارتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوة عدلها وجنبوهم مرارة جَوْرها، فو الله يا أمير المؤمنين لقد محضت لك النصيحة؛ أي: أخلصت لك النصيحة.
ومن هذا القبيل أيضًا ما قاله ابن السماك وكان عند الرشيد ذات يوم وقد طلب الرشيد ماءً ليشرب، فلما أهوى بالماء على فمه، قال له ابن السماك: بحق قرابتك من رسول الله يا أمير المؤمنين، لو منعت شربة الماء هذه بكم كنت تشتريها لتبل ظمأك، وتروي عطشك؟ فقال له الرشيد: بنصف ملكي، قال له: اشرب هنيئًا، فلما شرب قال له: لو حبست شربت الماء هذه في جسمك بكم كنت تشتري خروجها؟ فقال: بملكي كله، قال ابن السماك: فيما اغترارك يا أمير المؤمنين بمُلك لا يساوي إلا بولةً واحدةً؟! يقولون: فَبَكَى الرشيد وانصرف ابن السماك.
وهذه الروايات تدلك على سعة صدور هؤلاء الخلفاء لما كان يوجه إليهم من نصح ووعظ، ونحن نعتقد أن أكثر الحكام ديمقراطية -بالمعنى الحديث لها في هذا الزمن- لا يصبرون على سماع مثل النصائح.
وينتسب أكثر الخطباء والمفوهين في العصر العباسي إلى الدوحة العباسية؛ كأبي العباس السفاح، وأبي جعفر المنصور، وداود بن علي، والمهدي، وصالح بن علي، والهادي، وهارون الرشيد، وكان هناك غيرهم ممن يلوذون بهم أو يستخدمونهم في دواوين الكتابة والوزارات التي كانوا يشغلونها هؤلاء الخطباء الفصحاء.
ومن الخطب التي دُونت لهارون الرشيد هذه الخطبة التي يقول فيها:
“الحمد لله على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقًّا ونتوكل عليه، مفوضين إليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه على فترة من الرسل ودروس من العلم -ودروس من العلم: المراد به زوال العلم وانتهاؤه- وإدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة، بشيرًا بالنعيم المقيم ونذيرًا بين يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله فأدى عن الله وعده ووعيده حتى أتاه اليقين -يعني: الموت- فعلى النبي من الله رحمة وسلام”.
هذه هي المقدمة ثم يقول:
“أوصيكم عبادَ الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفير السيئات وتضعيف الحسنات، وفوزًا بالجنة ونجاة من النار، وأحذركم يومًا تشخص فيه الأبصار وتبلى فيه السرائر، يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاقي ويوم التناجي، يوم لا يعتب من سيئة ولا يزاد في حسنة يوم الآزفة: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ } [غافر: 18، 19] اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الله، إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولم تتركوا سدى، حصنوا إيمانكم بالأمانة وصلاتكم بالزكاة، ودينكم بالورع؛ فقد جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا زكاة له)) إنكم سفر مجتازون –أي: مسافرون- وأنتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء، فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة، وإلى الرحمة بالتقوى، وإلى الهدى بالأمانة؛ فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين ومغفرته للتائبين وهداه للمنيبين، قال الله عز وجل وقوله الحق: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكَـاةَ وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].
وقال: {وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ} [طه: 82] وإياكم والأماني؛ فقد غرت وأوردت وأوبقت كثيرًا، حتى أكذبتهم مناياهم فتناوشوا التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فأخبركم ربكم عن المثلات فيهم، وصرف الآيات وضرب الأمثال، فرغب بالوعد وقدم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلًا بعد جيل، وعهدتهم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين أظهركم، لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب، فأسلمتهم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب: { لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى} [النجم: 31].
إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص: 1-4] آمركم بما أمركم به الله، وأنهاكم عما نهاكم عنه، وأستغفر الله لي ولكم”.
ويظهر من سمات الخطابة على هذه الخطبة:
أولًا: الاقتباس من القرآن الكريم.
ثانيًا: القدرة الكبيرة على التعبير والبيان.
ثالثًا: وعظ للناس وتذكير وتخويف من العواقب ولفت لأنظارهم إلى ما حدث بمن قبلهم، ودعوة لهم لئن يعتبروا بالموت.
فالمعاني كلها معان من الإسلام أو مستمدة من الإسلام، والخطبة فيها تأثر كبير بالقرآن، وألفاظها جزلة قوية، وعباراتها محكمة ولا غريب فيها، فألفاظها واضحة ومعانيها قريبة، وهكذا كان خلفاء بني العباس يخطبون الجمعة ويؤمون الناس، وهذه من العوامل التي أدت إلى ازدهار الخطابة في هذا العصر.
2. سمات فنِّ الخطابة:
لغة الخطابة:
كانت الخطابة تمتلئ بمعاني العظمة والإباء والشمم والإحساس بالذات؛ إذ إن خلفاء بني العباس ووزراءهم وولاتهم، كانوا يعتقدون أنهم إنما أصابوا حقهم في هذه الخلافة وأنهم استردوا من الأمويين حقًّا مغتصبًا وأمرًا مسلوبًا؛ ولذلك كان يغلب على أحاديثهم وعلى خطبهم الافتخار بانتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الخلافة هي ميراثهم الطبيعي، وأنهم أحق الناس بها، وكانوا يعلنون أن الله سبحانه وتعالى هيأ لهم هذا الأمر -أمر الخلافة- ليقوموا المعوج، ويصلحوا أمر الرعية، ويعلنوا الحق، ويشيعوا الفضيلة، ويحكموا بين الناس بالعدل، ويمكنوا للخير، وأن هذا الأمرَ قد أخطأهم مدة من الزمن بسبب ظلم الأمويين واغتصابهم لحقهم -أي: حق العباسيين- في الخلافة، وكانوا يشكرون الله سبحانه وتعالى على أن مكنهم من هذا الأمر ورد إليهم حقهم فيه.
كما كانت تتسم الخَطابة في العصر العباسي بمعاني النكير على بني أمية ما كانوا يقترفونه من الآثام، ويرتكبونه من المظالم، وما أذاقوه من عَنَت وظلم لخصومهم ومخالفيهم.
أسلوب الخطابة:
فخامة الأسلوب:
كان أسلوب الخطابة العباسية أسلوبًا فخمًا؛ إذ كان الخطيب يختار الألفاظ الجزلة القوية والعبارات المحكمة، وكانوا كثيرًا ما يقتبسون من القرآن الكريم ومن السنة النبوية الشريفة، وتتجلى قدرتهم على الاستفادة من أساليب القرآن الكريم والاقتباس منه في هذه الخطبة التي يروى أن المنصور خطبها بمكة بعد بناء بغداد فقال فيها: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] أمر مبرم وقول عدل وقضاء فصل، والحمد لله الذي أفلج حجته -أي: أظهرها- وبعدًا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة غرضًا -يشير هنا إلى الأمويين- والفيء إرثًا، وجعلوا القرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطلة وقصر مشيد، أمهلهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة -يريد بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء علي- واعتدوا واستكبروا، وخاب كل جبار عنيد، ثم أخذهم، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟
وأنت إذا تأملت هذه العبارات وجدت أكثرها اقتباسًا من القرآن الكريم آية أو بعض آية، يفصل بين هذه الاقتباسات ببعض الكلام من عنده، وهو كلام بليغ، واستطاع بذلك أن يستفيد من تعبير القرآن الكريم وتصويره لمصائر الظالمين، والخطيب هنا يقصد بالظالمين بني أمية.
البعد عن الحوشي الغريب:
قلما تجد في الخطابة العباسية لفظًا غريبًا في خطبهم، وقد كانوا بذلك دالين على حسن فقههم للخطاب الذي ينبغي أن يتوجهوا به إلى الناس؛ ليأثروا فيهم، فليس الاستكثار من الألفاظ الغريبة الغامضة دليلاً على القدرة البيانية، إنما هو دليل في الحقيقة على العجز ومحاولة مداراة هذا العجز بالتفاصح عن طريق هذه الألفاظ التي تكون غامضة وغريبة، ولا يهتدي إلى معانيها كثير من الناس.
3. ضعف الخطابة بعد العصر العباسي الأول:
من أسباب الضعف:
ضعفت دواعي وعوامل ازدهار الخطابة ونموها في العصر العباسي الثاني؛ فالعامل المرتبط بالسياسة وقيام الدولة انتهى بالقضاء على الأمويين وضعف بني هاشم أو ضعف العلويين، ثم العامل المهم الذي كان متمثلًا في الخلفاء ومجالسهم، هذا العامل أيضًا ضعف بسبب تدخل الأتراك فيما بعد ذلك في شئون الحكم واستيلائهم على مقاليد الأمور، وضعف الخلفاء العباسيين ضعفًا شديدًا، وصيرورة أكثر المناصب في الدولة إلى هؤلاء الأتراك الذين كانوا بطبيعة الحال لا يُحسنون فَهْم اللغة العربية، ولا يتحمسون لها كما كان شأن بني العباس، فضعف الخلافة العباسية وذهاب العوامل التي أدت إلى نهضة الخطابة في بداية الدولة العباسية، كل ذلك نال من الخطابة في العصر العباسي الثاني، ولم تعد لها القوة التي كانت لها في العصر العباسي الأول واحتضان الخلفاء العباسيين لها.
ومع ذلك فنحن لا نريد أن نقول: إن هذا الفن قد انقرض أو انتهى بعد العصر العباسي الأول؛ فقد كانت هناك دواعٍ تتمثل في حَثِّ الناس على الجهاد، وكانت الخطابة الدينية في الجمع والأعياد والمناسبات الدينية مستمرةً كما هي مستمرة إلى يومنا هذا بحمد الله عز وجل.
ولكننا نقول: إن العوامل المهمة التي تجعل الخطابة تزدهر ويُتوسع في أغراضها قلت، فالخطابة الحفلية -أو المحفلية، وهي التي كانت تشهدها الوفود التي تأتي إلى قصور الخلفاء – ضعفت بسبب اتخاذ خلفاء بني العباس الحجابةَ واحتجابهم عن الناس، وبسبب سيطرة الأتراك -كما أشرت- على مقاليد الحكم والمناصب المهمة في الدولة، ولما ضعفت الدولة العباسية ظهرت الدويلات والأسر القوية التي ملكت مستقلة عن الخلافة في بغداد، واختلفت بالتأكيد هذه البيئات في مِقدار تشجيعها للأدب واحتضانها للبلغاء والفصحاء.
من سمات الخطابة الضعيفة:
نستطيع أن نتلمس سماتِ الخطابة الضعيفة، فنجدها متمثلة في التكلف والتقعر أحيانًا، وغموض التعبير، واللجوء إلى بعض المحسنات البديعية الثقيلة؛ مما يخالف الطبع الأصيل العربي المفطورَ على البيان الواضح المؤثر.
وأنا أقدم هذا النموذج لهذه الخطابة الضعيفة؛ فهذه خطبة لرجل يسمى شميم الحلي، يقول فيها:
“الحمد لله، فالق قمم حب الحصيد بحُسام سَحِّ السحب، صابغ خد الأرض بقاني رشيق يانع العشب، نافخ روح الحياة في صور تصاويرها بسائح القُراح العذب، يحيي ميت الأرض بإماتة كالح الجدب لابتسام ثغر نسيم أنفاح الخِصب، محيل جسم طبيعة الماء المبارك في أشكال الحب والعنب والزيتون والقضب، جاعله للأنام والأنعام ذاتِ الحمل والحَلْب، محلي جيد الأفلاك بقلائد دلال النجوم الشُّهب، ومجلي جند الأملاك عن مباشرة التصرف والكَسْب، والقيام بالواجب وأصل التسبيح والتقديس للرب، قابل التوبة من المذنب المنيب وغافر الذنب، الواحد المنفرد بوحدانيته عن ملائمة قسمة أعداد الحساب والضرب، المستغني بصمديته عن مسيس الحاجة إلى دواعي الأكل والشرب، الشاهد على خلقه بما يفيضون فيه، لا لاتصاف بُعد ولا قرب، المهمين على سر اجتراح كل جارحة، وخاطر خاطر، وتقلب قلب.
أحمده على ما منح من موضع بيان بما ألب في سويداء لُب، وأشكره على ما جلى من مظلم ظالم جهل وكشف من كثيف رُكام كرب، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة سالمة من شوائب النفاق والخَّب، مؤمّنة قائلها يوم الفزع الأكبر من إيحاش الرهب والرعب، وأشهد أن محمدًا عبده المحبوب بعقد حَبَا خاتم الأنبياء من جميع أصحاب الصحف والكتب، وصفيه المنتخب لنصر الدين وإقامة دعوة الإسلام بالبيض القضب، والجرد القب، والأسد الغلب -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه- ما سنحت الغزالة بأفق شرق وحجبت بغارب غرب؛ صلاة يفني تكرارها صم الحصى الصلب، ويبيد أربد الترب.
عباد الله، مَن اختلف عليه الآباد باد، ومن تمكنت يد المنون من عنقه انقاد، ومَن تزود التقوى استفاد خير الزاد، ومن بدأ ببره وعاد للمعاد فاز بالإحماد: {يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
اللهم نول آمالنا مناها، وكفل أعمالنا تُقاها، وحول أطماعنا رِضاها، ولا تشرب قلوبنا هوى دنياها، فإن المعاطب في حبها وشين المَعايب مذر بها، فلا تجعل اللهم مَهامنا فيها المُنى، وآمنا بأمننا من كيد أمنا الدنا برحمتك يا أرحم الراحمين، أستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين ولوالدي ولمن علمني”.
هذه خطبة متأخرة جدًّا؛ لأن تاريخها يذكر أن صاحبها تُوفي سنة 601 من الهجرة، وقد ترجم لهذا الرجل ياقوت في (معجم الأدباء) لكن المهم هو أن هذه الخطبة تتسم بالتكلف الواضح، والحرص على السجع الثقيل، فالرجل يحرص على حرف الباء في أكثر من نصف خطبته، وهي خطبة طويلة يختم بها سائر جمله، ثم إن التكلف واضح جدًّا أيضًا في قوله: “حسام سح السحب، وصابغ خد الأرض، ورشيق يانع العشب…”، إلى آخر هذه الصور البيانية الواضحة التكلف.
وهذا يدل على الفرق الشاسع بين الخطابة في أول الدولة العباسية وفي آخرها، وكل ذلك حدث بسبب تغير العوامل التي تساعد على القوة أو التي تؤدي إلى الضعف.