Top
Image Alt

نماذج من شعر المخضرمين

  /  نماذج من شعر المخضرمين

نماذج من شعر المخضرمين

الشاعر الأول: مروان بن أبي حفصة:

نسبه:

مروان بن أبي حفصة ينحدر من أصل ينتهي إلى الموالي، فقد ذُكر أن جده “يزيد” الذي كان يُكنى: أبا حفصة، والذي ينسب الشاعر إليه فيقال: مروان بن أبي حفصة، كان من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه ورأي آخر يقول: إن هذا الجد كان من موالي السموأل بن عادياء اليهودي، وأن عثمان بن عفان اشتراه وأسلم على يديه، ثم وهبه لمروان بن الحكم؛ فشهد مع مولاه يوم الدار، وقاتل معه عن عثمان قتالًا شديدًا حتى قُتل.

ويذكر مؤرخو الأدب أن مروان بن أبي حفصة كان من أسرة عريقة في قول الشعر، توارث أبناؤها نظمه كابرًا عن كابر، وتناسق منهم عشرة على الولاء، مذكورون بالشعر أنشدوا الخلفاء وأخذوا الجوائز منهم، والذين مدحهم بالتأكيد كانوا من الأمويين.

أخباره في العصرين: الأموي والعباسي:

مروان من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الدولة الأموية والدولة العباسية، وأخباره في العصر الأموي قليلة، وقد ذكروا أنه قال الشعر وهو لم يبلغ العشرين من عمره، وأنه وفد على الوليد بن يزيد مع الحسين بن مطير الأسدي، وعدد من الشعراء.

أما أخباره في العصر العباسي فكثيرة، وهي تدل على أنه لم يقصد أبا العباس المشهور بالسفاح، ولا أبا جعفر المنصور، لكنه تردد على عمال المنصور وولاته؛ ليمدحهم وليحصل على الجوائز منهم، ومدائحه في معن بن زائدة الشيباني الذي كان واليًا للعباسيين على اليمن كثيرة، وقد استفرغ جهده أو أكثر جهده في مدحه، ونال من عطاياه وصلاته الكثير.

ولما بويع المهدي وفد عليه وامتدحه، ولم يزل يقصده في العام بعد العام، ويمدحه بقصائده، ويحظى بهباته حتى تُوفي المهدي؛ فتحول مروان إلى مديح الهادي، ثم إلى مديح هارون الرشيد بعده، ويقال: إنهم جميعًا راجعوه في مديحه لمعن بن زائدة الشيباني ورثائه له، وتحاموه في أول الأمر، ولم يلبث أن تمكن من التقرب إليهم، والحظوة عندهم مستوليًا على أفئدتهم بدفاعه عنهم، واحتجاجه لهم حتى كان يحصل على عطاياهم الكثيرة، ولم يقتصر على مديح الخلفاء؛ فقد مدح الوزراء خاصة البرامكة يحيى بن خالد البرمكي وولديه الفضل وجعفر، وكانوا جميعًا يجزلون له العطاء، كما مدح عبد الله بن طاهر.

وتقول الأخبار: إنه على الرغم مما أخذه من الجوائز الكثيرة من الخلفاء والولاة والوزراء العباسيين؛ فقد كان بخيلًا بخلًا شديدًا، ضُربت به الأمثال ورويت عنه الحكايات، بل لقد عده أبو عبيدة معمر بن المثنى من البخلاء اللئام، ولشدة تعصبه للعباسيين، وطول انقطاعه إليهم، ومدحه لهم، وانتصاره لهم وتعريضه بالعلويين وانتقاصه إياهم، وذكره أن العباسيين أولى منهم بالخلافة، اغتاظ منه العلويون جدًّا؛ مما حمل بعض الشيعة المتطرفين على اغتياله، وقد توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، وفي رواية أنه توفي سنة تسع وثمانين ومائة.

المديح:

المديح هو الموضوع الذي عُني به مروان بن أبي حفصة، وأدار شعره عليه، وهو لا يضيف معاني جديدة كثيرة في مدحه للعمال والوزراء؛ لأن الشعراء العباسيين الذين كانوا يعاصرونه كادوا يأتون على المعاني المبتكرة مع تردادهم للمعاني القديمة المكررة، ومحاولتهم التي لا تحصى للتوليد فيها، والإضافة إليها.

أما مدحه للخلفاء العباسيين؛ فهو الذي لم يكتفِ فيه بالمعاني الموروثة من عراقة أصل، وجود فياض، وشدة وسداد رأي، وسهر على مصالح الرعية، وعدل في سياستها، وإنما تحول به إلى ما يُشبه الدفاع السياسي عن العباسيين، والدعوة إليهم، ومعارضة خصومهم من العلويين، والاحتجاج عليهم، ونقض ما كان يعتمدون عليه من الأدلة والبراهين.

وقد مضى يُكرر معنى واحدًا مستمدًّا من القرآن، وهو أن العم أولى من البنت في الوراثة، محتجًّا بذلك للعباسيين، وأحقيتهم في الخلافة من أبناء عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما وهذا هو الذي أرضى العباسيين عنه، وجعله يستولي على إعجاب خلفائهم، وهو الذي جلب له أموالهم وعطاياهم الكثيرة، ومن هذا الاحتجاج للعباسيين قوله، مخاطبًا العلويين:

هَل تَطمِسونُ مِنَ السَماءِ نُجومَها

*بِأَكُفِّكُم أَم تَستُرونُ هِلالَها

أَم تَجحَدونَ مَقالَةً عَن رَبِّكُم

*جبِريلُ بَلَّغَها النَبِيَّ فَقالَها

شَهِدَت مِنَ الأَنفالِ آخِرُ آيَةٍ

*بِتُراثِهِم فَأَرَدتُمُ إِبطالَها

وهو يحتج في هذه الآبيات على العلويين مبطلًا لحقهم في الخلافة، ومدللًا على ذلك بآخر آية من سورة الأنفال وهي قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـَئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] وعلى هذا النحو أخذ يردد هذا المعنى في المدحة بعد المدحة، مستغلًّا لآي الذكر الحكيم، حتى صاغه صياغة فقهية شعرية، كما يقول الدكتور طه حسين، وهذا ما أورده محقق ديوانه الدكتور حسين عطوان، لما مدح مروان بن أبي حفصة المهدي بقصيدته الميمية التي يقول فيها:

أَنّى يَكونُ وَلَيسَ ذاكَ بِكائِنٍ

*لِبَني البَناتِ وِراثَةُ الأَعمامِ

ما لِلنِّساءِ مَعَ الرِجالِ فَريضَةٌ

*نَزَلَت بِذلِكِ سورَةُ الأَنعامِ

يقول المؤرخون: إنه لما مدح المهدي بهذه القصيدة أخذ منه مالًا عظيمًا، كما خلب فؤاده حين أنشده القصيدة السابقة، وحمله على أن يزحف من صدر مصلاه، حتى صار على البساط إعجابًا بما سمع، ثم قال: كم هي؟ فقال: مائة بيت؛ فأمر له بمائة ألف درهم، فكانت أول مائة ألف درهم أعطيها شاعر في أيام بني العباس، ويروى أنه لما أنشد الرشيد قصيدته الرائية التي يقول فيها:

أُمورٌ بِميراثِ النَبِيِّ وَليتَها

*فَأَنتَ لَها بِالحَزمِ طاوٍ وَناشِرُ

أَبوكَ وَلِيُّ المُصطَفى دونَ هاشِمِ

*وَإِن رَغِمَت مِن حاسِديكَ المَناخِرُ

أعطاه خمسة آلاف دينار فقبضها بين يديه، وكساه خلعة، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه، وقوله في خطاب الرشيد:

أَبوكَ وَلِيُّ المُصطَفى دونَ هاشِمِ

*…. …. …. ….

يقصد بالأب هنا العباس رضي الله عنه جد العباسيين، وأنهم أولى بالخلافة من الهاشميين.

الرثاء:

ولمروان بن أبي حفصة قصيدة واحدة في الرثاء، أبّن فيها معن بن زائدة الشيباني تأبينًا حارًّا، وكان قد مدحه في حياته مدحًا كثيرًا، وقد أحصى في هذه المرثية خصاله الحميدة إحصاء؛ لأنه هو الذي غمره بنواله في صدر حياته، ولأنه هو الذي شهره في مطلع عمره وفيها يقول:

أقمنا باليمامة إذ يئسنا

*مقام لا نريد له زيالا

وَقُلنا أَينَ نَرحَلُ بَعدَ مَعنٍ

*وَقَد ذَهَبَ النَوالُ فَلا نَوالا

ويقول المؤرخون الأدبيون بطبيعة الحال: إن الخلفاء العباسيين كانوا يحتجون عليه بقوله هذا في رثاء معن بن زائدة يقولون له: أنت قلت في مرثيتك:

وَقُلنا أَينَ نَرحَلُ بَعدَ مَعنٍ

*وَقَد ذَهَبَ النَوالُ فَلا نَوالا

يريدون أنه لا يستحق النوال منهم بسبب قوله هذا. أما الأغراض الأخرى كالهجاء والوصف فقليلة في شعره.

مذهبه الشعري، وآراء النقاد فيه:

مذهب مروان وطبقته هو مذهب عبيد الشاعر، الذين كانوا يتفننون في تجويد شعرهم، ويطيلون النظر فيه لتدقيقه وتنقيحه وتجويده، يقول الأصمعي: مروان بن أبي حفصة متكلف يشبه زهيرًا والحطيئة، ومعروف أن زهيرًا والحطيئة إمامان من أئمة مدرسة عبيد الشعر، بمعنى تجويد الشعر وتحسينه والنظر في القصيدة مرة بعد مرة، قبل إخراجها للناس.

ويقول ابن المعتز: إنه من المجيدين المحككين للشعر -والمحككين أي: المهذبين- ويروى عن مروان أنه كان يقول: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر، وأحككها -أي: أهذبها وأحسنها- في أربعة أشهر، وأعرضها في أربعة أشهر -يعرضها يعني: ينظر فيها ويطيل النظر في أجزائها، ثم أخرج بها إلى الناس. ويمكن أن يكون معنى أعرضها أي: أنشدها بين العلماء والشعراء قبل أن يذيعها في الناس. وفي أخباره أنه كان يعرض بعض قصائده على بشار بن برد، وبعضها على يونس بن حبيب، كما كان يعرض بعضها على خلف الأحمر، ومحمد بن سلام الجمحي.

وشكل القصيدة عنده لا يختلف كثيرًا عنه عند الشعراء الجاهليين والأمويين؛ فقد كان يستهلها بالمقدمة الطللية أو الغزلية، أو غير ذلك من المقدمات، ثم ينتقل إلى وصف رحلته في الصحراء، ووصف الناقة، ثم ينتقل من ذلك إلى المديح، وكان يطيل في تصوير الصحراء ورحلته فيها إطالة شديدة، وهذا المنهج هو بالطبع المنهج القديم المتوارث في قصيدة المدح، وبعض النقاد يذكر أن معاني شعره قليلة معدودة، ومكررة معادة؛ لكنه كان متفوقًا في مسألة احتجاجه للعباسيين بأحقيتهم في الخلافة.

وللشريف المرتضى في شعر مروان بن أبي حفصة رأيٌ حسن؛ فقد ذُكر مروان عنده واختلف الناس فيه، وسألوه رأيه في شعره فقال: كان مروان متساوي الكلام، متشابه الألفاظ، غير متصرف في المعاني، ولا غواص عليها، ولا مدقق لها؛ فلذلك قلّت النظائر في شعره، ومدائحه مكررة الألفاظ والمعاني، وهو غزير الشعر قليل المعنى، إلا أنه مع ذلك شاعر له تجويد وحذق، وهو أشعر من كثير أهل زمانه وطبقته، وأشعر شعراء أهله، ويجب أن يكون دون مسلم بن الوليد في تنقيح الألفاظ، وتدقيق المعاني، وحسن الألفاظ، ووقوع التشبيهات، ودون بشار بن برد في الأبيات النادرة السائرة؛ فكأنه طبقة بينهما، وليس بمقصر دونهما شديدًا ولا منحطّ عنهما بعيدًا.

وكان الأصمعي يؤخّر منزلته، وكان يقول: مروان بن أبي حفصة كان مولّدًا، ولم يكن له علم بالعربية، وبشار أشعر؛ لأن مروان سلك طريقًا كثر سلّاكه، فلم يلحق بمن تقدمه وشركه فيه من كان في عصره، وإن بشارًا سلك طريقًا لم يسلكه أحد؛ فانفرد به، وأحسن فيه وهو أكثر فنون شعر، وأقوى على التصرف، وأغزر وأكثر بديعًا، ومروان آخذٌ بمسالك الأوائل.

وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأبو عمرو الشيباني يفضلانه -أي: يفضلان مروان بن أبي حفصة- على بشار ومسلم، في حين كان ابن الأعرابي يذهب إلى أن الشعر العربي خُتم به.

مختارات من شعره:

من شعر مروان بن أبي حفصة نختار هذا النص من قصيدته في مدح المهدي، قال بعد المقدمة الغزلية، ووصف الرحلة والناقة، قال:

أَحيا أَميرُ المُؤمِنينَ مُحَمَّدٌ

*سُنَنَ النّبِيِّ حَرامَها وَحَلالَها

مَلِكٌ تَفَرَّعَ نَبعُهُ مِن هاشِمٍ

*مَدَّ الإِلهُ عَلى الأَنامِ ظِلالَها

جَبَلٌ لِأُمَّتِهِ تَلوذُ بِرُكنِهِ

*رادى جِبالَ عَدُوِّها فَأَزالَها

لَم تَغشَها مِمّا تَخافُ عَظيمَةٌ

*إِلّا أَجالَ لَها الأُمورَ مَجالَها

حَتّى يُفَرِّجها أَغَرُّ مُبارَكٌ

*أَلفى أَباهُ مُفَرِّجًا أَمثالَها

ثَبتٌ عَلى زَلَلِ الحَوادِثِ راكِبٌ

*مِن صَرفِهِنَّ لِكُلِّ حالٍ حالَها

ثم يخاطبه فيقول:

كِلتا يَدَيكَ جَعَلتَ فَضلَ نَوالِها

*لِلمُسلِمينَ وفي العَدُوِّ وَبالَها

وَقَعَت مَواقِعها بِعَفوِكَ أَنفُسٌ

*أَذهَبتَ بَعدَ مَخافَةٍ أَوجالَها

أَمَّنتَ غَيرَ مُعاقِبٍ طُرّادَها

*وَفَكَكتَ مِن أُسَرائِها أَغلالَها

وَنَصَبتَ نَفسَكَ خَيرَ نَفسٍ دونَها

*وَجَعَلتَ مالَكَ واقِيًا أَموالَها

هَل تَعَلمونَ خَليفَةً مِن قَبلِهِ

*أَجرى لِغايَتِهِ الَّتي أَجرى لَها

طَلَع الدُروب مُشَمِّرًا عَن ساقِهِ

*بِالخَيلِ مُنصَلِتًا يُجَدُّ نِعالَها

ثم يقول مخاطبًا الهاشميين أو العلويين، وهي الأبيات التي سبقت الإشارة إليها:

هَل تَطمِسونُ مِنَ السَماءِ نُجومَها

*بِأَكُفِّكُم أَم تَستُرونُ هِلالَها

أَم تَجحَدونَ مَقالَةً عَن رَبِّكُم

*جبِريلُ بَلَّغَها النَبِيَّ فَقالَها

شَهِدَت مِنَ الأَنفالِ آخِرُ آيَةٍ

*بِتُراثِهِم فَأَرَدتُمُ إِبطالَها

فَذَروا الأُسودَ خَوادِرًا في غيلِها

*لا تولِغُنَّ دِماءَكُم أَشبالَها

رَفَع الخَليفَةُ ناظِرَيَّ وَراشَني

*بِيَدٍ مُبارَكَةٍ شَكَرتُ نَوالَها

وَحُسِدتُ حَتّى قيلَ أَصبَحَ باغِيًا

*في المَشيِ مُتَرَفَ شيمَة مُختالَها

وَلَقَد حَذَوتَ لِمَن أَطاعَ وَمَن عَصى

*نَعلًا وَرِثتَ عَنِ النَبِيِّ مِثالَها

الشاعر الثاني: الحسين بن مُطير:

الحسين بن المطير لم يكن له شعر كثير في ما يتعلق بالعباسيين، وأنه انكفأ على نفسه، فقد رُويت له قصيدة في رثاء معن بن زائدة الشيباني، وقد كان معن واليًا على اليمن للعباسيين، ويبدو أنه كان وصّالًا وكان كريمًا؛ لذلك نجد الحسين يرثيه بهذه القصيدة التي يقول فيها:

ألِمَّا بِمَعْنٍ ثُمَّ قُولاَ لِقَبْرِهِ

*سَقتْكَ الغَوادي مَرْبَعًا ثُمَّ مَرْبَعا

فيا قَبْرَ مَعَنٍ أنتَ أَوَّلَ حُفْرَةٍ

*من الأرضِ خُطّتْ لِلسَّماحَةِ مَضْجَعا

ويا قَبْرَ مَعَنٍ كيفَ وَارَيْتَ جُودَهُ

*وقد كان منه البَرُّ والبَحْرُ مُتْرَعا

بَلَى قَدْ وَسِعْتَ الجودَ والجُودُ مَيِّتٌ

*ولو كان حَيَّا ضِقْتَ حَتَّى تَصَدَّعا

ولما مضَى مَعْنٌ مضى الجودُ وانْقَضَى

*وأصبحَ عِرْنِينُ المَكارِمِ أَجْدَعَا

وما كان إلاَّ الجُود صُورَةَ وجهه

*فَعاشَ ربيعًا ثُمَّ وَلَّى ووَدَّعَا

وكنتَ لِدَارِ الجُودِ يا مَعْنُ عامِرًا

*فقد أصبحتْ قَفْرًا مِنَ الجُودِ بَلْقَعا

فَتىً عِيشَ في مَعْرُوفِهِ بَعْدِ مَوْتِهِ

*كما كانَ بَعْدَ السَّيْلِ مَجْراهُ مَرْتَعا

تَمَنَّى أُناسٌ شَأوَهُ من ضَلالِهِمْ

*فأضْحَوْا على الأذْقَانِ صَرْعَى وظُلَّعا

تَعَزَّ أبا العباسِ عَنْهُ ولا يَكُنْ

*عزاؤك مِنْ مَعْنٍ بأَنْ تَتَضَعْضَعا

أَبَى ذِكْرُ مَعْنٍ أَنْ تَمُوتَ فِعَالُهُ

*وإنْ كَان قَدْ لاقَى حِمامًا ومَصْرَعَا

فما ماتَ مَنْ كُنْتَ ابنَهُ لا ولا الذي

*له مثْلُ ما أَبقى أبوكَ ومَا سَعى

وواضح من هذا الرثاء أن الحسين بن مطير لم يكن يرى أحدًا بعد معن بن زائدة يمكن أن يسدّ مسده، أو يقوم مقامه في الجود، ولعل في ذلك غمزًا للعباسيين.

الشاعر الثالث: إبراهيم بن علي بن هَرمة:

كنية إبراهيم بن علي بن هَرمة: أبو إسحاق، وتذكر الأخبار أنه كان شرّابًا للخمر، مغرمًا بها، وأنه كان بخيلًا قصيرًا دميمًا، ويقال: إنه مدح المنصور مرة فأعطاه عشرة آلاف درهم؛ لكنه رفضها فقال له المنصور: إنها كثيرة، فقال: إن أردت إسعادي؛ فأبح لي الشراب فإني مغرم به، فقال الخليفة: ويحك! هذا حد من حدود الله، فقال: احتلْ لي بحيلة عليه يا أمير المؤمنين، قال: نعم، فكتب إلى والي المدينة: من أتاك بابن هرمة سكرانًا فاضربه مائة سوط واضرب ابن هرمة ثمانين سوطًا؛ فصارت شرطة المدينة تمر به وهو سكران؛ فينادي الواحد منهم: من يشتري الثمانين بالمائة.

وهذا يدل على أن ابن هرمة هذا كان ساقط المروءة، والذي يُهمنا هو الحديث عن الجانب الفني في شعره، وقد ذكرنا أنه كان يمثّل التقاليد القديمة المتوارثة عن الشعر الأموي، وأنه لم يحظَ عند العباسيين، ولم يتأثر كثيرًا بالحياة الجديدة في العصر العباسي.

وأشعاره تدل على التزامه بنهج القصيدة الموروثة؛ إذ يتحدث عن العيس والرحلة ويصف الصحراء في شعره قبل أن ينتقل إلى الغرض الذي يريد القول فيه. ومن شعره هذه القصيدة التي يقول فيها:

أَجارَتَنا بِذي نَفَرٍ أَقيمي

*فَما أَبكي عَلى الدَهرِ الذَميمِ

أَقيمي وَجهَ عامكِ ثُمَّ سيري

*بلا وَاهِي الجِوارِ وَلا مُليمِ

فَكَم بَينَ الأَقارعِ فالمُنَقَّى

*إِلى أُحُدٍ إِلى أَكنافِ ريمِ

إِلى الجَمّاءِ مِن خَدٍّ أَسيلٍ

*نَقيِّ اللَونِ لَيسَ بِذي كُلومِ

وَمِن عَينٍ مُكَحَّلَةِ الأَماقي

*بِلا كُحلٍ وَمن كَشحٍ هَضيمِ

أَرقِتُ وَغابَ عَنّي مَن يَلومُ

*وَلَكِن لَم أَنَم أَنا لِلهُمومِ

أَرقتُ وَشفَّني وَجَعٌ بِقَلبي

*لِزَينَبَ أَو أُميمَةَ أَو رَعومِ

ثم يقول:

كَأَنَّ الصبحَ أَبلَقُ في حجُولٍ

*يَشِبُّ وَيَتَّقي ضَرب الشَكيمِ

رَأَيتُ الشَيبَ قَد نَزَلَت عَلَينا

*رَوائِعُهُ بِحُجَّةِ مُستَقيمِ

إِذا ناكَرْتَهُ ناكَرْتَ مِنهُ

*خُصومَةَ لا أَلَدَّ وَلا ظَلومِ

وَوَدَّعَني الشَبابُ فَصرتُ مِنهُ

*كَراضٍ بالصَغيرِ مِن العَظيمِ

فَدَع ما لا يُرُدُّ عَلَيكَ شَيئًا

*مِن الجاراتِ أَو دِمَنِ الرُسومِ

وَقُل قَولًا تُطَبّقُ مَفصَلَيهِ

*بمَدحَةِ صاحبِ الرأيِ الصَرومِ

ومن شعره الذي يُمكن أن يُلقي الضوء على أزمته إذ لم يستطع أن يتوافق مع العصر الجديد قوله:

وَأَتركُ الثَوبَ يَومًا وَهوَ ذو سَعَةٍ

*وَأَلبَسُ الثَوبَ وَهوَ الضَيِّقُ الخلَقُ

إِكرامُ نَفسي وَإِنّي لا يُوافِقُني

*وَلَو ظَمِئتُ فَحُمتُ المشرَب الرَنقُ

ومن هذا الشعر الذي يمكن أن يدل على حالته في البعد عن الفوز بعطايا العباسيين وجوائزهم قوله:

عَجِبَت أُمامَةُ أَن رأَتني شاحِبًا

*ثَكَلَتكَ أُمُّكَ أَيُّ ذاكَ يَروعُ

قَد يُدرِكُ الشَرَفَ الفَتى وَرِداؤُهُ

*خَلَقٌ وَجَيبُ قَميصِهِ مَرقوعُ

وَيَنالُ حاجَتَهُ الَّتي يَسمو لَها

*وَيُطِلُّ وِترَ المَرءِ وَهوَ وَضيعُ

إِمّا تَرِيني شاحِبًا مُتَبَذِّلًا

*وَالسَيفُ يَخلقُ غِمدُهُ فَيَضيعُ

فَلَرُبَّ لَذَّةِ لَيلَةٍ قَد نِلتُها

*وَحَرامُها بحَلالِها مَدفوعُ

بأوانِسٍ حورِ العُيونِ كَأَنَّها

*آرامُ وَجرَةَ جادَهُنَّ رَبيعُ

على هذا النحو مضى الشعراء المخضرمون، كلٌّ يعبر عن حالته النفسية، وعن درجة قربه واندماجه في الحياة الجديدة في العصر العباسي، واستطاعته التخلص من ماضيه، حيث كان أكثرهم أو جميعهم من الذين يمدحون الأمويين قبل أن يزول سلطانهم، وتذهب دولتهم.

وعلى أي حال؛ فهذه الأحكام على هؤلاء الشعراء، وعلى الأطوار التي مرّ بها الشعر العباسي ليست أحكامًا حاسمة ولا جازمة؛ لأن الأطوار تتداخل، والحالات النفسية -أيضًا- تتغير وتختلف، ويمكن أن نجد التقاليد القديمة موجودة عند شاعر مجدد، وأن نجد بعض التجديد عند شاعر مخضرم، فكما قلت: ليست المسألة فواصل حاسمة، ولا جامعة مانعة؛ لأن الإبداع الشعري رهن بمؤثرات كثيرة تؤثر فيه.

error: النص محمي !!