نماذج من عتاب القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم ودلالة ذلك على أنه من عند الله
عرفنا الاتّهامات والافتراءات والأكاذيب التي وجّهها المستشرقون حديثًا إلى القرآن الكريم، وإلى وحي الله المنزل، وإلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم وذكَرنا أنّ القرآن الكريم قد أتى على جميع هذه الاتهامات تهمة تهمة، وأن المشركين في مكة قد واجهوا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الاتهامات قبل المستشرقين في العصر الحديث. فالقرآن الكريم قد ذكَر هذه الاتهامات وسجّلها تُتلى في آياته الكريمة، والمؤمنون يتعبّدون الله بتلاوتها صباحًا ومساءً. ونودّ أن نسجِّل بعض الملاحظات المهمّة في ذكْر القرآن لهذه الاتهامات، وبيان أنّ هذا كان لونًا من ألوان التأكيد على عدّة أمور تتعلق بصدْق النبي صلى الله عليه وسلم وتردّ في نفس الوقت على اتّهامات المشركين قديمًا والمستشرقين حديثًا، وكلّ مَن يتعرّض للقرآن أو للوحي أو للنبي في مستقبل هذا الزمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد تعهّد بحفْظه؛ حيث قال سبحانه: {إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وتسجيل القرآن الكريم لهذه الاتّهامات التي ذكرناها على ألْسِنة المستشرقين حديثًا، والمشركين قديمًا، يدل على أمريْن مهمّيْن جدًّا في شأن الدعوة الإسلامية عمومًا، وفي شأن صدْق النبي وألوهيّة المصدر الإلهي للقرآن الكريم.
– فالأمر الأوّل الذي ألْفِت النظر إليه هو: دلالة القرآن الكريم على صدْق النبي صلى الله عليه وسلم ودلالته على أمانته صلى الله عليه وسلم في النقل عن ربه؛ لأنه بذكْر هذه الاتهامات يبيِّن لنا أمانة النبي في النقل، وصدْقه في التبليغ. لماذا؟ لأنه ليس من صالح أصحاب الرسالات أن ينقلوا إلى أتباعهم هذه الاتهامات التي تحمل معنى التكذيب أحيانًا، ومعنى التشكيك أحيانًا، ومعنى الافتراء والمواجهة أحيانًا أخرى؛ بل كان الأولى من ذلك -لو لم يكونوا رسلًا صادقين أمناء في التبليغ- أن يُخفوا تمامًا عن أتباعهم هذه الاتّهامات، وألّا يذكروها أصلًا؛ بل من الأوْلى أن يجيئوا بدلًا منها بشهادات تؤيِّد صدقهم على ألْسنة أعدائهم كما يحدث في عهدنا هذا في كثيرٍ من المناسبات؛ ولكنّ الأمر يختلف تمامًا، إنه صلى الله عليه وسلم هو النبيّ وهو الصادق الأمين، وحاشا له وحاشا لواحد من إخوته الأنبياء أن يكونوا غير ذلك، أن يكونوا غير أمناء، أن يكونوا غير صادقين؛ {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] حتى في تبليغ أتباعهم ما واجههم به أعداؤهم من افتراءات وأكاذيب واتهامات.
– أمّا الأمر الثاني فهو: أنَّ هذا النص القرآني بذكْره لهذه الاتِّهامات يدلُّ على ألوهيَّة مصدره، وأنَّ القرآن هو كلام الله تعالى، نزل به الوحي الأمين على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس من قول البشر. والذي له صلة بالقرآن الكريم يعلم تمامًا: أن ذلك هو حقُّ اليقين، وصدَق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].
– وهناك أمر آخَر ألفت النظر إليه، على درجة كبيرة من الأهمية: أنّ الذي له صلة بالقرآن الكريم يعلم أنَّ القرآن قد اشتمل على كثير من مواقف اللَّوم، ومواقف العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكرَّر ذلك في أمور كثيرة كان صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها من واقع بشريته الخالصة، فكان ينزل القرآن معاتبًا للرسول على ما فعَل، وموجِّهًا نظره إلى ما صحّ وما يصحّ من القضية. حدث ذلك في موقفه صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة؛ نذكر منها:
موقفه صلى الله عليه وسلم مع ابن أم مكتوم، حين انصرف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غيره يدعوه ويرجو له الإيمان، ويرجو له التبليغ وحُسن الاعتقاد في الله سبحانه وتعالى ونزل القرآن معاتبًا الرسول في ذلك، قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلّىَ}(1) {أَن جَآءَهُ الأعْمَىَ}(2) {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّىَ}(3) {أَوْ يَذّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَىَ}(4) {أَمّا مَنِ اسْتَغْنَىَ}(5) {فَأَنتَ لَهُ تَصَدّىَ}(6) {وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزّكّىَ}(7) {وَأَمّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىَ}(8) {وَهُوَ يَخْشَىَ}(9) {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهّىَ}(10) [عبس: 1 – 10].
الرسول صلى الله عليه وسلم لِعلْمه بعقيدة ابن أم مكتوم، وأنه مؤمن صادق الإيمان، ترَكه وانصرف إلى غيره يدعوه ويبلِّغه الدعوة؛ أملًا في إيمانه، وأملًا في حُسن اعتقاده، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم أن ذلك لن يكون؛ فنزل القرآن معاتبًا الرَّسول صلى الله عليه وسلم : لماذا انصرفتَ عن ابن أم مكتوم، وانشغلتَ بغيره؟ وهو لن يؤمن، ولن يصدق، ولن تحسن عقيدته.
وحدث ذلك أيضًا في شأن أسرى بدر، حين انتهت المعركة وانكشف غبارها، ومات من المشركين من مات، وأُسِر منهم من أُسِر، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في شأن هؤلاء الأسرى: ماذا يفعل بهم؟ أيقتلهم؟ هل يَقبل الفدية منهم ويفديهم ويفكّ أسْرهم؟ هل يبادل أسيرًا بأسير؟ شاور أبا بكر رضي الله عنه وشاور عمر، فكان رأي أبي بكر >: أن نأخذ منهم الفدية. وكان من رأي عمر: أن ندقّ أعناقهم. قاتلونا في مكة، وأخرجونا من مكة، أخرجونا من ديارنا وأخذوا أموالنا. وأوشك الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل على رأي أبي بكر، ويأخذ الفدية منهم ويُطلق سراحهم؛ ولكن هنا نزل الوحي مخالفًا لرأي الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاتبًا له. يقول الحق -تبارك وتعالى{مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتّىَ يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(67) {لّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68].
هذا لون من العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر شديد الخطورة، أمر المعركة، وأمر الأسرى الذين وقعوا تحت أيديهم بعد انتهاء هذه المعركة، أمر يمكن أن يتعلق بالاستراتيجية العامة للدعوة وهي ما زالت في أوّل عهدها.
وتكرّر مثل ذلك أيضًا في سورة “الكهف” حين اهتمّ الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض وجهاء مكة؛ أملًا في إسلامهم، وأعرض عن بعض أتباعه لإيمانه صلى الله عليه وسلم بأنهم مؤمنون حسَنو العقيدة؛ فنزل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28].
وحدث نظير ذلك أيضًا في مواقف عديدة ذكَرها القرآن الكريم، حين قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : “أقْبِلْ على بعض أمرنا ونحن نُقبل على بعض أمْرك”، يعني: خُذ منا بعض الآراء وبعض العقائد، ونحن نأخذ منك بعض الآراء وبعض العقائد؛ فنزل قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاّتّخَذُوكَ خَلِيلاً}(73) {وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}(74) {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 73 – 75].
تأمّل معي هذه العتابات، أو هذه الألوان المتكرّرة من العتابات: بعضها يجيء هيّنًا ليّنًا سهلًا، ثم يشتد شيئًا فشيئًا إلى أن يصل إلى العتاب القاسي الشديد. تأمل الآية الأخيرة: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ }[الإسراء: 75]: هذا لون من العتاب القاسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونظائر ذلك في القرآن الكريم كثيرة، يتلوها المسلم ويتعبّد بها كما يتعبّد بتلاوة الأوامر والنواهي، فهل يكون ذلك اللوم وذلك العتاب من عند محمد صلى الله عليه وسلم موجَّهًا منه إليه؟ أليس من الأوْلى -لو كان القرآن من صنع محمد كما زعموا- أن يجيء القرآن الكريم خاليًا من مثْل هذا اللّوم الموجّه إلى شخصه صلى الله عليه وسلم ؟ وهل يكونُ القرآن من عند محمد ويكون مشتملًا على مثل قوله تعالى: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } [الإسراء: 75]؟
إنّ القرآن الكريم نفسه قد احتوى على ألوهيّة مصدره كجزءٍ ذاتيٍّ فيه وليس خارجًا عنه. من ذلك مثلًا: ما أشرنا إليه آنفًا من مثْل اشتمال القرآن الكريم على هذه الألوان المتكررة والمتعددة من ألوان العتاب. كما اشتمل القرآن على مواقف المشركين وأهل الكتاب، وإنكارهم لألوهية مصدره، ودعواهم أنه من عند محمد صلى الله عليه وسلم تارةً، أو أنه قد اتّخذه من أهل الكتاب يهود ونصارى تارةً، أو أنه قد تعلّمه من بشَر تارةً أخرى. ثم إنّ إشارة القرآن الكريم إلى اتّهام المشركين لمحمد بأنه ساحر أو شاعر أو معلَّم أو مجنون؛ إذ لو كان القرآن من عند محمد لجاء خاليًا من مثل هذه الاتهامات، وكان أوْلى به أن يأتي بشهاداتٍ تؤيِّد صدْقه.
ممّا ينبغي أن نعْلمه: أنّ القرآن الكريم عندما ذكَر هذه الإشارات لم يذكُرها إلّا مقرونة بدليل إبطالها، وبيان فسادها. فكان يذكر الفرية أحيانًا، ثم يُتبعها بقوله تعالى:{ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ }[الأنعام: 116] لِينفي أن يكون معهم دليل على كذبهم، كما في قوله تعالى: }قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111]، وقوله سبحانه: إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَـَذَآ} [يونس: 68] ليبيِّن أنّ كلامهم متهافت في ميزان المنطق وفي ميزان العلم؛ لافتقاره إلى دليل صدْقه. وكان القرآن الكريم يذكر الفرية أحيانًا، ثم يُتبعها بالقضية الجازمة بأن القرآن من عند الله، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ}[الفرقان: 6]. وكان ينفي أحيانًا عنهم صفة العلم اليقيني بمستوياته المختلفة، كما في قوله تعالى: }قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] بهذه الصيغة صيغة النفي الجازم: }بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 101]. ولعل القرآن الكريم كان يلفت نظر المسلمين بذلك إلى جنس هذه الافتراءات، وأنّ أدعياءها لا يملكون دليلًا على صحة دعواهم، وإن هي إلا ظنون وأوهام أنبتتْها بذور الحقد والكراهية لهذا الدِّين ولنبيّه الكريم.