Top
Image Alt

هدي الصحابة: النموذج الأمثل للتربية الإسلامية

  /  هدي الصحابة: النموذج الأمثل للتربية الإسلامية

هدي الصحابة: النموذج الأمثل للتربية الإسلامية

الصحابة هم أولئك الذين صَحِبُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهلوا من معين معارفه، وتخرّجوا في مدرسته، وتأدّبوا بآدابه، وتحققت فيهم كل معاني الخلافة في الأرض؛ لأنهم تربّوا بآداب القرآن وبآداب المصطفى صلى الله عليه وسلم قلبًا وروحًا وجسدًا وعقلًا، وخُلُقًا وسلوكًا؛ إذ كانوا يشعرون أن عين الله تراقبهم، وأن سمع الله إليهم، وأن ما يلفظ أحد منهم من قول، بل ما ينوي من نية إلا وقد تصبح مكشوفة للناس، يتنزل في شأنها قرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا صدورهم لله، وقلوبهم لله، وأحبوا الله ورسوله حبًّا لا يدانيه حب، وكان الواحد منهم إذا حزبه أمر دعا، ولدعائه تتفتح أبواب السماء، ويتنزل منها قضاء في شأنه.

روي أن معقل بن يسار زوّج أخته رجلًا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يُراجعها، حتى انقضت عدتها، فَهَوِيَهَا وهويته، ثم خطبها مع الخُطّاب فقال معقل له: أكرمتك بها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدًا! قال: فعلم الله سبحانه وتعالى حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [ البقرة: 232] فلما سمعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعة، ثم دعاه فقال أزوجك وأكرمك فزوجه إيّاها.

أما تربية الله للصحابة فواضحة من خلال القرآن الكريم، منذ كان القرآن يتنزّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليربّي جيل الصحابة، وليؤهلهم لحمل رسالة تبليغ الدين للبشرية كلها، ولتعليم الناس في أرجاء المعمورة كيف يعبدون الله عز وجل لا يشركون به شيئًا، وتحقّقت تربية الله لهم على مدى عشر سنوات هي مدة القرآن المدني، حتى وثقوا أنه يمكن الاستتار من الناس لكن لا يمكن الاستتار أو اخفاء شيء في النفس عن الله. قال تعالى: “يعلم السر وأخفى”.

وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء.

وقيل أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [الحجرات: 13] أنها نزلت في ثابت بن قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من الذاكر فلانة؟ فقال ثابت: أنا يا رسول الله. فقال: انظر في وجوه القوم، فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت. فقال: رأيت أبيض، وأحمر، وأسود، قال: فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى».

وكانت المرأة في الجاهلية تمرّ بين الرجال كاشفة صدرها، لا يواريه شيء، وربما كانت تفعل ذلك؛ لأن قانون الجماعة لا يحرّمه، وعُرف البيئة لا يمنعه، حتى جاء أمر الله سبحانه وتعالى، ونَزَل توجيهه لتربية الأمة الإسلامية، قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31].

فامتثل النساء لتوجيه الله وهديه، فما منهنّ امرأة إلا قامت إلى مرطها فاعتجرت به، تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت صاحب خمر في الجاهلية، فقلت: لو أَذْهَبُ إلى فلان الخمار فأشرب، وظلّ عمر يشرب الخمر في الإسلام حتى نزل قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219].

قال: اللهم بيّن لنا بيانًا شافيًا في الخمر! واستمر في الشرب، حتى نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ} [النساء: 43]. قال اللهم بيّن لنا بيانًا شافيًا في الخمر! حتى نزلت آية التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون} [المائدة: 90، 91] قال عمر: “انتهينا، انتهينا”، وأن المال مال الله، وأن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده، فكانوا يتسابقون في الإنفاق.

وكان مجرد استحضار هذه الحقائق كفيل وحده أن يبعد النفس البشرية عن الشح، والحرص ويجعلها تترك التكالب المسعور في جمع المال وبالتالي يملؤها بالقناعة والرضى بما يعطيها الله تعالى.

ومن هنا يطمئن القلب فلا يضطرب، ويقرّ الوجدان فلا يقلق، وتستريح النفس فلا تذهب حسرات على فائت، أو ضائع؛ ولا يتحرك القلب سعارًا على المرموق المطلوب، قال تعالى: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23]. ولا يتعالى صلفًا وغرورًا بما أعطي قال تعالى: {وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]، فإذا أعطي الواحد من ماله شيئًا فإنما من مال الله أعطى، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]،  أما تربية الرسول للصحابة: فنلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استوعب أصحابه وهم كثيرون بالتوجيه، والتربية النموذجية في فترة تعتبر قياسية على المستوى العالمي؛ بحيث لا يستطيع جهاز أمة من الأمم في قرون أن يستوعب نفس القدر من الصحابة، وبنفس المستوى الرفيع، فما هي الميزة التي اختصر بها الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق في التربية على هذه الصورة.

يقول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي: “لقد أجاد الرسول صلى الله عليه وسلم المنهج الإسلامي في التربية، وهو أن يحسن المربّي -بكسر الباء- كيف يأخذ المربى -بفتح الباء-. هذه القضية قد تكون صعبة وللعقل فيها وقفة، ولكن لياقة المربّي وحسنَ استعداده، واتساع ثقافته تصبح كلها أدوات تعينه على أن يصل بالمُربّى إلى الحقيقة التي يريدها من أيسر طريقٍ إلى الفهم، وبأقل وسيلة في الإقناع”

وقد أخرج الإمام أحمد والبيهقي في “الشعب” عن أبي أمامة رضي الله عنه: «أن فتًى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني امرؤ أحبّ النساء فَائْذَنْ لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه فقال: ادْنُ. فدنا منه قريبًا فقال: اجلس. فجلس، فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبّه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه». قال: فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء، وقال: فو الله ما همت نفسي بمعصية من ذلك النوع إلا ذكرت أن يُفعل بأمي، أو بزوجتي، أو بابنتي فأمتنع.

إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم واجهه بتشنيع المسألة من أقرب طريق يتصل به وبكرامته، وبعواطفه، وبمكانته، وبمقامه، فإذا ما أراد أن يفعل ذلك تذكّر ما يمكن أن يُفعل به. وبهذا الأسلوب المقنع عالج الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الرّذائل التي تَفَشَّتْ في العرب لا سيما القتل؛ إذ انتشرت بينهم جريمة القتل والاعتداء على النفس، ولم يكن لهم قانون يقضي على هذه الجريمة، حتى جاء الرسول الكريم، فأوقف هذا النزيف بتربية القرآن لهم؛ حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33].

وبتربيته لهم صلى الله عليه وسلم إذ بين لهم الحقّ الذي تُزهق به النفوس في قوله عن ابن مسعود «لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة” رواه البخاري ومسلم. وهناك أحاديث كثيرة تبيّن لنا الآداب وفضائل الأعمال التي بثّها الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس الصحابة، وطهّر بها قلوبهم، ومحا ما علق بها من آثار الجاهلية.

هكذا سلك الرسول صلى الله عليه وسلم مسلكًا راقيًا في توجيه صحابته، وهذا المسلك يُعتبر من أعظم المناهج في التربية؛ لأن قَوَامه الرأفة، والرفق، والموعظة الحسنة، استطاع به أن يحوّل كثيرًا من العرب إلى رجال صالحين، ونساء صالحات بصبره عليهم، ورأفته بهم؛ فنقلهم من رعاة إبل غلاظ يُشعلون الحرب لأوهى الأسباب إلى قادة عظماء، وهداةٍ مرشدين.

ومن يقرأ كتب السُّنة يُدرك مدى جهاده صلى الله عليه وسلم في تعليم العرب رجالًا ونساء، وصبره عليهم.

error: النص محمي !!