هلاك العين المؤجرة
من المتفق عليه أن يدا المستأجر على العين المؤجرة “يد أمانة”، والأصل في يد الأمانة أن صاحبها لا يضمن ما يتلف تحت يده، إلا في حالة واحدة، إذا ثبت إهماله، أو تقصيره، أو تعديه، أي: إذا تلفت العين في يد المستأجر، وكانت يده عليها يد أمانة، لا ضمان عليه إلا إذا ثبت تعديه بالاستعمال، كأن يستعمل العين المؤجرة استعمالًا سيئًا، أو يقصر في صيانتها، أو يقصر في حفظها.
وذلك كمن أجر دارًا للسكنى، فاستخدمها مصنعًا من المصانع فتلفت بعض جدرانها، أو بعض أرضها، أو نوافذها؛ فإنه يضمن بلا شك؛ لأنه استعملها في غيرِ الغرض الذي أُجِّرت من أجله؛ فهو مقصر وتعدَّى فيضمن قولًا واحدًا، لكن الخلاف فيما إذا استعملها الاستعمال المسموح به، ولم يهمل، ولم يفرط، ومع ذلك تلف فيها شيء ما، هل يضمن أو لا؟
الأصل أن يد الأمين أو المستأجر “يد أمين، أو يد أمانة”؛ فلا يضمن.
لكن الفقهاء اختلفوا في تضمين الصناع، يعني: تضمين الأجير المشترك، والأجير الخاص هذا لا يضمن إلا بالتعدي -فمثلًا: أجرت شخص حارسًا لي، أو أجرت شخصًا يعمل نجارًا عندي، أو لينظف البيت، أو يخدم فيه، أو ما إلى ذلك، فهو أجير خاص- إذا أتلف شيئًا بدون تعدٍّ لا يضمنه؛ لأن يده يد أمانة، فلا يضمن إلا إذا ثبت تعديه.
لكن الأجير المشترك هذا فيه خلاف: فقد ذهب بعض العلماء، وعلى رأسهم سيدنا عمر بن الخطاب، وسيدنا علي، وشريح القاضي، وأبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة، والمالكية، إلى تضمين الأجير المشترك -تضمين الصناع- حتى ولو لم يقصر.
وقال الإمام علي عندما ضمن الصناع: “لأن هؤلاء لا يصلحون إلا بذلك”، يعني مصالح الناس لا تتحقق إلا بتضمين هؤلاء الناس، يعني: إذا نحن لم نضمنهم ما يتلفونه؛ فإنهم سرعان ما يتلفون الأشياء التي يؤتمنون عليها؛ فتضيع مصالح الناس.
لكن ذهب الإمام أبو حنيفة، وابن حزم، ومن وافقهما: إلى أن الأجير المشترك يدُهُ على ما تحت يدِهِ من صنعة “يد أمانة”، وبالتالي فهو لا يضمن إلا بالتعدي، إذا ثبت هذا التعدي، وإلى ذلك ذهب الحنابلة، والصحيح من أقوال الشافعي رحمه الله.
ورغم هذا؛ فإنني أرى أن الاتجاه الأول أقرب إلى تحقيق مصالح الناس، خصوصًا في الأزمنة الأخيرة التي إذا فُتِحَ هذا الباب للأجير المشترك بأنه لا يضمن إذا أتلف شيئًا إلا إذا ثبت تعديه، فإن كثيرًا من مصالح الناس تضيع عليهم، فحرصًا على مصالح الناس، ينبغي أن نأخذ بالرأي الذي يذهب إلى تضمين هؤلاء الصناع، وهو من باب المصالح المرسلة؛ فليس عليه دليل محدد، ولكنه يؤخذ من المصالح العامة التي يضمنها الشرع، ولا يوجد في الشريعة ما يمنع هذا، ولا ما يجيزه فهي مصلحة مرسلة.