هل بيْن “السُّنّة” و”الحديث” فَرْق، ومعنى: “السُّنّة” في اصطلاح المحدِّثين، والفقهاء، والأصوليِّين، والعقَدِيِّين
هل بيْن السُّنّة والحديث فَرْق؟
هذه المسألة ممّا وقع فيه خلاف بيْن العلماء؛ ولكن بعد البحث والنّظر، وجدْتُ أنه يُمكن إرجاع الأقوال في ذلك إلى قوليْن:
القول الأوّل: أنهما مختلفان:
وأصله: أنّ عبد الرحمن بن مهدي البصري “ت 198هـ” سُئل عن سفيان الثوري, والأوزاعيّ, ومالك، فقال: “سفيان: إمام في الحديث وليس بإمام في السُّنّة. والأوزاعيّ: إمام في السُّنّة وليس بإمام في الحديث. ومالك: إمام فيهما جميعًا”.
ثم انقسم أصحاب هذا القول إلى فريقيْن:
الفريق الأوّل: يرى أنّ السُّنّة أعمّ من الحديث، والحديث داخل فيها. قال عبد الرحمن بن مهدي: “لم أرَ قطّ أعْلم بالسُّنّة ولا بالحديث الذي يدخل في السُّنّة مِن حمّاد بن زيد”.
وقد اختلفوا في تعليل ذلك على أقوال:
- فقال بعضهم: لأنّ الحديث هو: ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط، أمّا السُّنّة فهي: ما كان عليه العمل المأثور مطلقًا في الصدر الأول؛ سواء أكانت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة.
دليل هذا القول:
- قول عليّ بن أبي طالب, لعبد الله بن جعفر، لمّا جلَد شاربَ الخمْر أربعين: “جلَد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وكمَّلها عُمر ثمانين؛ وكُلٌّّ سُنَّة”.
ب. قول الإمام مالك -رحمه الله-: “والسُّنّة عندنا: أنّ كلّ مَن شرِب شرابًا مُسكرًا فسَكر أو لم يَسْكر، فقد وجَب عليه الحدُّ”.
- لأنّ الحديث ينصرف عند الإطلاق إلى ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد النُّبوّة -البعثة- والسُّنّةُ شاملة لما كان قبل النّبوّة، ولِما كان بعْد النّبوّة. وهذه عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى: 18/6)، ولكنّ ذلك لا يدلّ على أنه يرى التّفريق.
- لأن الأحاديث هي: الألفاظ، والسُّنّة هي: مدلولات تلك الألفاظ. وهذه عبارة المعلّمي “ت 1386هـ”، كما في (الأنوار الكاشفة: 27)، ولكنه لم ينصّ على مسألة التّفريق.
الفريق الثّاني: يرى أنّ الحديث أعمّ مِن السُّنّة، وتعليل ذلك:
- أنّ السُّنّة هي: ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط، أمّا الحديث فهو: ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين؛ وهو ما يُطلق عليه: “الخبَر”، في أحد الأقوال.
قال الكتّاني: ومنها كُتب تُعرف بـ”السُّنَن”، وهي في اصطلاحهم: الكتب المُرتّبة على الأبواب الفقهيّة مِن الإيمان، والطهارة، والصلاة، والزكاة، إلى آخِرها… وليس فيها شيء مِن الموقوف؛ لأنّ الموقوف لا يُسمَّى في اصطلاحهم: “سُنَّة”، ويُسمَّى: “حديثًا”.
- أنّ الحديث يشمل كلّ ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن قوله، أو فِعْله، أو تقريره، أو وصْفِه، حتى الحركاتِ والسكناتِ يقظةً ومنامًا. والسُّنّة لا تشمل هذا كلّه؛ فهو أعمّ منها. قاله السخاوي في (فتح المغيث: 1/9).
القول الثاني: أنهما مُترادفان: فالسُّنّة والحديث بمعنًى واحِد، وإن اختلفَت الأسماء.
قال السخاوي: “كثيرًا ما يقع في كلام أهل الحديث ما يدلّ لترادُفِهما”. وهذا هو مذهب أكثر العلماء.
خامسًا: معنى “السُّنّة” في اصطلاح المحدِّثين، والفقهاء، والأصوليِّين، والعَقَدِيِّين
قبل الخوض في ذلك، فإنّ السُّنّة إذا أُطلقت لا تكاد تنصرف إلاّ إلى سُنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقال مثلًا: فلان صاحبُ سُنّة، والإسلام: كتابٌ وسُنّة، وعليك بالسُّنّة, وأصبْتَ السُّنّة، ونحو ذلك…
وإلاّ فإنّ السُّنّة قد تُطلق على: السُّنّة الإلهية، كقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. وتُطلَق على: فِعل الخلفاء: ((عليْكم بِسُنَّتي وسُنَّة الخلفاءِ الرّاشِدِين…!)) وتُطلق على: سُنّة القبيلة، وهي ما تُسمَّى بالعادات والأعراف. وتُطلَق على: ما يُقابل “البِدعة”. وتُطلَق على: فعْل الصحابة مطلقًا. كما أنّ تعريف السُّنّة يختلف بحسب اختلاف علوم المعرِّفين أنفسهم: فهي عند المُحدِّثين غيْر ما عند الفقهاء، غير ما عند الأصوليِّين، غير ما عند العَقَدِيِّين.
والسبب في هذا يعود إلى اختلاف أنظار هؤلاء واهتماماتهم:
فالمُحدِّثون نظروا إلى الرسول مِن حيث إنه الهادي القُدوة الأسوة في كلِّ شيء؛ فنقلوا كلَّ ما يتعلّق بذلك، سواء أثْبَت حُكمًا أم لا.
والفقهاء نظروا إلى أقواله وأفعاله التي تدلّ على حُكم شرعيّ.
والأصوليّون نظروا إلى الرسول الُمشرِّع الذي يضَع القواعد للمجتهِدين مِن بَعْده.
والعَقَديُّون نظروا إلى أنه صاحب الهدْي الأقوم والطريق الأمثل، فما كان موافقًا لعملِه فهو الصحيح المقبول، وما خالَفه فهو المذموم المردود.
معنى: “السُّنَّة” في اصطلاح المُحدِّثِين:
هي: “كلّ ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن قول، أو فعْل، أو تقرير، أو صِفة خلْقيَّة أو خُلُقيِّة، أو سيرة؛ سواء أكان ذلك قبْل البعثة أمْ بَعْدها”.
تعريف: “السُّنّة” عند الفقهاء: هي: “كلّ ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن مِن باب الواجب”. أو هي: “ما في فعْله ثواب، وفي ترْكه عتابٌ لا عقاب”. أو هي: “ما يُثاب فاعلُه ولا يعاقَب تاركُه”.
ولها مُسمَّيات أخرى عند بعض الفقهاء: فهناك سُنّة الهدى “المؤكَّدة”، كالأذان، والإقامة، والسُّنن الرواتب. وهناك السُّنن الزائدة على الهُدى “غيْر المؤكَّدة”، كصلاة الليل، والضّحى، والسّواك المُطلق. وسُنّة العيْن، كالسّنن الرّواتب. وسُنّة الكفاية، كسلام واحد مِن جمْع. وسُنّة عبادة واتِّباع، كالطلاق في طُهرٍ بلا وطء. وسُنّة المشايخ، كالعدد المُعيَّن في السِّواك.
تعريف: “السُّنّة عند الأصوليِّين: هي: “كلّ ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن قول، أو فعْل، أو تقرير، ممّا يصلح أن يكون دليلًا لِحُكم شرعيّ”.
تعريف: “السُّنّة” عند العَقَديِّين: هي: ما يقابل البِدعة. والبدعة: كلّ ما أحدثه الناس في الدِّين ممّا لم يُؤثَر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، سواء أكان قولًا، أو فِعلًا، أو اعتقادًا. ومنه قولهم: فلان على سُنّة، إذا عمل وفْق هدْي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وبهذا يتّضح مِن خلال التعريفات السابقة: أنّ اصطلاح المحدِّثين أوسع الاصطلاحات في تعريف السُّنّة وأجْمعُها وأشملُها.