Top
Image Alt

هل خالف الشعراء النظام اللغوي المألوف؟ وما موقف النحاة من هذه المخالفة؟

  /  هل خالف الشعراء النظام اللغوي المألوف؟ وما موقف النحاة من هذه المخالفة؟

هل خالف الشعراء النظام اللغوي المألوف؟ وما موقف النحاة من هذه المخالفة؟

لقد خالف بعض الشعراء النظام اللغوي الذي بناه أئمة النحو واللغة، وقد اضطروا إلى ذلك بسبب وزن الشعر وموسيقاه, وعلماء النحو وبخاصة في المدرسة البصرية لم يخطئوا هؤلاء المضطرين؛ لأن هؤلاء العلماء ربطوا السليقة اللغوية بالجنس والوراثة؛ فلم يعترفوا بما يسمى بضرورة الشعر؛ فتلمسوا لهم المعاذير, وتكلفوا في التأويل والتخريج ما لا يحتمل تأويلًا وتخريجًا.

وقبل أن نسوقَ بعض الأمثلة التي تُشير إلى مخالفة الشعراء للنظام اللغوي، نودُّ أن نفصل القول بعض الشيء في معنى السليقة اللغوية:

إن اللغويين العرب القدماء يرَوْن أن السليقة مرتبطة بالجنس والوراثة -كما يقول الدكتور رمضان عبد التواب- أي: إنه لا يتصور أن يسيطر على اللغة العربية غير العربي، كما أنه لا يمكن أن يتقنها إتقان العربي لها، ويقول: وهم بذلك كأنما قد تصوروا أن هناك أمرًا سحريًّا هو سر السليقة, ذلك هو الجنس؛ فكأن الأمهات يرضعن السليقة في ألبانهن، وكأن تلك السليقة تتصل اتصالًا وثيقًا برمالهم وآثارهم وأطلالهم.

ثم يذكر معنى السليقة في رأي المحدثين، فيرى أنها لا تعدو أن تكون مرحلة من مراحل إتقان اللغة، عندها لا يكاد يشعر المتكلم بخصائص كلامه من حيث الأصوات وأبنية الألفاظ وتراكيب الجمل؛ فهو يؤدي الكلام بصورة آلية دون أن يكون له أي اختيار في هذه النواحي، بل تصدر منه دون تكلف أو تعمد، وإنما على حسب ما سمع في صغره ممن حوله من الكبار, وعلى نفس النهج الذي يسلكونه.

وينتهي إلى أن اكتساب اللغة يبدأ بالتقليد وكثرة المِران؛ فاللغة مِلك من يتعلمها ولا أثر للوراثة أو الجنس فيها؛ فالطفل الذي يولد من أبوين مصريين ثم ينشأ بعيدًا عنهما في بيئة إنجليزية، يشب وينمو كالإنجليزي تمامًا من حيث اللغة، وليس في السليقة اللغوية لدى المحدثين شيء غامض أو أمر سحري؛ كما كان علماء العربية القدماء يظنون, حين ربطوا بينها وبين البَداوة حينًا أو الجنس العربي حينًا آخر؛ إذ لم يتصوروا أن الأجنبي عن العربية يمكن أن يتقنها كأبناء العرب, مهما بذل من جهد أو صرف من زمن.

وقد اقتبس كلامه هذا من الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه (مستقبل اللغة العربية), وقد أكد الدكتور كلامه أيضًا في معنى السليقة بكلام العلامة ابن خلدون في مقدمته, الذي يفيد أن اللغة لا تتحصل إلا بالمران والدُّرْبة.

إذن: القدماء ذهبوا إلى أن اللغة العربية تجري في دماء العرب؛ لذلك حين رأوا الشعراء يخالفون النظام اللغوي صرفًا ونحوًا؛ لم يخطئوهم، ولم يعترفوا بما يسمَّى بضرورة الشعر، وإنما تلمسوا لهم المعاذيرَ، وتكلفوا في التأويل والتخريج.

ومن الأمثلة التي تشير إلى وقوع الشعراء في مخالفة النظام اللغوي المألوف لضرورة الوزن، تسكين بعض الكلمات في الأبيات الشعرية، من ذلك قول امرئ القيس:

فاليوم أشربْ غيرَ مستحقبٍ

*إثمًا من اللهِ ولا واغلِ

“أشربْ” بتسكين الباء، والقياس المعروف: “أشربُ”.

وقول لبيد بن ربيعة:

ترَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أرضَهَا أو

*يرتبطْ بعضَ النفوسِ حمامُها

هكذا “يرتبطْ” بسكون الطاء.

وقول آخر:

ومن يتقْ, فإن الله معه

*ورزق الله مؤتابٌ وغادي

هكذا بسكون القاف “يتقْ”.

فسكن هؤلاء الشعراء هذه الكلمات في تلكم الأبيات لضرورة الوزن، وسيبويه يرى أن ذلك شبيه بتسكين عين نحو: فخِذ وعضُد، عند من يسكنها فيهما.

وذكر سيبويه أيضا أن بعضهم يسكن في الشعر مع الإشمام، وذكر قول امرئ القيس السابق.

وقد يخالف بعض الشعراء اللغة المألوفة ونظامها المعروف؛ حيث يضطر الشاعر بسبب الوزن والموسيقى إلى تحريك ما يجب إسكانُه, وعندئذٍ يتأوله النحويون واللغويون؛ لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بأن الشاعر قد يفعل ذلك محافظةً على موسيقى الشعر وإن كان يخالف اللغة المألوفة، من ذلك ما رواه أبو زيد الأنصاري من قول الشاعر:

من أي يوميَّ من الموت أفر

*أيوم لم يقدرَ أم يوم قدر؟

ففي “لم يقدرَ”، حرك الشاعر الراء بالفتح مع وجود أداة الجزم، والقياس “لم يقدرْ”, لكن النحاة يرون أن الشاعر أراد النون الخفيفة فحذفها, أي: إن هذا الفعل مؤكد بنون التوكيد الخفيفة التي حذفت, وبقيت الفتحة في الفعل دليلًا عليها؛ فهو يريد أن يقول: “لم يقدرَنْ”، ويرى بعض النحويين جواز ذلك، وجواز قلب هذه النون ألفًا في الوقف.

ولقد رفض ابن جني -وهو يعلل لفتح الراء من “يُقدر” في البيت الذي رواه أبو زيد- أن تحذف نون التوكيد, وعلل ذلك بأن حذفها فيه نقض الغرض؛ إذ كان التوكيد من أماكن الإسهاب والإطناب، والحذفُ من مظانّ الاختصار والإيجاز، ثم لا يعترف ابن جني بعد ذلك بالضرورة التي ألجأت هذا الشاعر إلى نصب المجزوم؛ بل يرتكب مشقة كبيرة في التخريج والتأويل، كما يذكر الدكتور رمضان عبد التواب. وهذا الرأي قد وصفه الدكتور رمضان عبد التواب بأنه رأي عجيب.

ولا تقتصر الضرورات الشعرية على الإعراب وحده؛ بل تمتد إلى بنية الكلمة نفسها فتصيبها بالتغير والتحول، فقد تقصر الحركات الطويلة، ومثال ذلك قول الشاعر:

كفاك كف لا تليق درهمًا

*جودًا, وأخرى تعطِ بالسيف الدم

“تعطِ” هكذا بكسر الطاء، والقياس: تعطي؛ فاضطر الشاعر إلى قصر هذه الحركة الطويلة من “تعطي” لكي يحتفظ بموسيقى الوزن, وهو أمر لا يجوز إلا إذا جاء في الكلام ساكن بعد هذه الحركة الطويلة؛ فإنها تقصر عندئذٍ في النطق لا في الكتابة، مثل: يدعو المؤمن إلى الحق، فإن الأصل رسم اللفظ، أي: كتابته بحروف هجائية يلفظ بها, مع تقدير الابتداء به والوقوف عليه.

وكما تقصر الحركات لضرورة الوزن، فإنها تتطول أحيانًا لهذا السبب، مثال ذلك قول الفرزدق:

تنفي يداها الحصى في كل هاجرة

*نفي الدراهيم تنقادُ الصياريفُ

ففي هذا المثال أصبحت الدراهم “الدراهيم”, وأصبحت الصيارف “الصياريف”.

وهكذا نرى أن الشعراء خالفوا اللغة المشهورة نحوًا وصرفًا، وقد حرص اللغويون على عدم تخطئة هؤلاء الشعراء، ملتمسين لهم العلل والمعاذير لما وقعوا فيه من أخطاء لغوية؛ بسبب ضرورة الوزن.

ونتساءل: هل جميع العلماء وقفوا هذا الموقف, موقفَ الملتمس العذر لهؤلاء الشعراء؟

الحق أن التراث اللغوي سجل قلة نادرة من اللغويين, لم يغالوا في تقدير كل ما وصل إلينا من كلام الشعراء الأقدمين؛ بل اعترفوا بأن هناك ضرورات للوزن الشعري, تلجئ الشاعر أحيانًا إلى مخالفة المألوف من ألفاظ اللغة وقواعدها, ومن هؤلاء: حمزة بن الحسن الأصفهاني، والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، وابن فارس اللغوي، وابن شرف القيرواني.

error: النص محمي !!