هل يشترط في المجمِعين أن يبلغوا حد التواتر؟
مفهوم التواتر:
التواتر لغةً: التتابع.
المتواتر في الاصطلاح: الخبر الذي يرويه جمعٌ تحيل العادة تواطؤهم أو توافقهم على الكذب.
وذكرنا هناك أن من شروط المتواتر: أن يرويه جمع غير محصور، وأن تحيل العادة تواطؤهم أو توافقهم على الكذب، وأن يكونوا بهذه الصفة من أول السند إلى منتهاه، وأن يكون منتهى استنادهم الحسّ، كأن يقول الراوي: “سمعت” أو “رأيت”.
2. سبب الخلاف في هذه المسألة:
سبب الخلاف في هذه المسألة: الاختلاف في حجية الإجماع: هل هي ثابتة بدلالة العقل أو بالأدلة السمعية -يعني الشرعية؟ وهل العقل هو الذي قضى بأن الإجماع حجة ودليل ومصدر تشريعي، أم أن نصوص الشرع هي التي أثبتت حجية الإجماع وأنه دليل شرعي؟
فمن قال: إنَّ حجية الإجماع ثابتة بدلالة العقل، قال: لا بد من وجود عدد التواتر في المجمعين، وذلك لتصور الخطأ على من دون عدد التواتر، يعني عقلًا.
ومن قال: إنَّ حجية الإجماع ثابتة بالأدلة السمعية، يعني من الكتاب والسنة، كما هو مذهب الجمهور، ومنهم ابن قدامة؛ حيث اختلفوا في الجواب على هذا السؤال: هل يشترط في المجمعين أن يبلغوا حد التواتر؟ على مذهبين:
المذهب الأول: عدد التواتر ليس شرطًا في المجمعين، وهذا المذهب هو مذهب جمهور الأصوليين.
المذهب الثاني: عدد التواتر شرط في المجمعين.
3. العدد الذي يتحقق به التواتر:
اختلف العلماء في ذلك، والراجح: أنه لا يشترط في رواة المتواتر عدد معين.
4. الآراء في اشتراط عدد التواتر في المجمعين:
المذهب الأول –مذهب الجمهور: لا يشترط في المجمعين أن يبلغوا حد التواتر:
الدليل الأول: إنَّ الأدلة ثبت بها كون الإجماع حجةً أدلةٌ عامة، تشمل المجتهدين في حال بلوغهم حد التواتر وعدمه، وهذا صحيح، فالأدلة التي ذكرناها عند إثبات حجية الإجماع في نحو قول الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} وفي نحو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) أو ((… على ضلالة)) كما جاء في روايات الحديث، هذه الأدلة التي أثبتنا بها أن الإجماع حجة: هي أدلة عامة تشمل المجتهدين في حال بلوغهم حد التواتر، وفي حال عدم بلوغهم حد التواتر، والمجتهدون مهما كان عددهم أقل من عدد التواتر فيصدق عليهم أنهم مؤمنون: {وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ويصدق عليهم كذلك أنهم أمة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي)).
وعلى ذلك تكون أدلة الإجماع موجبةً لعصمتهم عن الخطأ، ويجب علينا اتباعهم فيما أجمعوا عليه، وما دامت حجية الإجماع قد ثبتت كرامةً لهذه الأمة؛ فإنَّها تثبت لأهل الإجماع، قلوا عن عدد التواتر أو بلغوه.
الدليل الثاني: إنَّ الإجماع حجة كالسنة -وهذا كلام صحيح- والسنة متى وصلتنا، ولو عن طريق الآحاد، وجب علينا العمل بها -كما هو مذهب أهل الحق- قالوا: فكذلك الإجماع بلا فرق.
وهذا قياس الإجماع على السنة، فالأصل في هذا القياس هو السنة، والفرع هو الإجماع، والسنة حجّة، والإجماع كذلك يكون حجةً، والسنة متى وصلتنا ولو عن طريق الآحاد يجب على الأمة العمل بها، فكذلك الإجماع لو وصل إلينا عن طريق الآحاد يجب العمل به، ولا فرق بين السنة وبين الإجماع في العمل به؛ لأن كلًّا منهما دليل ومصدر تشريعي تبنى عليه الأحكام الشرعية.
المذهب الثاني: يشترط في المجمعين أن يبلغوا حد التواتر:
الدليل الأول: إننا -معشر المسلمين- قد كلفنا الشارع الحكيم بالعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، وكلفنا كذلك بأن نقطع ونجزم بصحة قواعد هذه الشريعة في جميع الأعصار، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فلو اعتمدنا عليه في الإجماع لم يحصل العلم بواسطته؛ وعلى ذلك فيشترط في المجمعين أن يبلغوا حد التواتر.
وقد أجاب الجمهور عن هذا الدليل: بأننا نتّفق معكم ونسلِّم لكم التكليف بالقطع بصحة قواعد الشريعة؛ لكن نقول لكم: يكون هذا التكليف عندما يتحقق سببه، كتوفر حد التواتر في المجمعين، وإذا لم يتوفر سبب التكليف -كأن يكون المجتهدون أقل من عدد التواتر- يسقط هذا التكليف بالقطع، ولا سبيل حينئذٍ إلا إلى الظن، ولا عجب في ذلك؛ فإنَّ التكليف كثيرًا ما يسقط لعدم سببه أو عدم توفر شرائطه.
الدليل الثاني: إنَّ الإجماع دليل قطعي، ويحكم به على الكتاب والسنة المتواترة، ودليل هذا شأنه كيف يثبت بالخبر الواحد مع أن خبر الواحد ظنيٌّ؟! وعليه فلا بد في المجمعين أن يبلغوا حد التواتر…
معلوم عند الأصوليين وعند العلماء أنَّ دلالة الإجماع على الحكم دلالة قاطعة لا تحتمل ولا تقبل النسخ، بخلاف دلالة نصوص القرآن ونصوص السنة على الأحكام؛ فإنها قد تكون قطعيةً وقد تكون ظنيةً.
وقد أجاب الجمهور عن هذا الدليل: إنَّ حجية الإجماع وقطعيته مصدرهما اتفاق أهل الحل والعقد كرامةً لهذه الأمة، وهذا أمر تعبدي لا دخل فيه لعدد المجمعين قلوا أم كثروا، ثم إن خبر الواحد دليل يُعمل به.
إذن قولكم: “إنَّ الإجماع دليل قطعي يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة” ودليل بهذا الشأن لا بد أن يثبت بطريقة التواتر، كلام غير مسلم؛ لأن خبر الواحد مع أنه ثابت بطريق ظنيّ إلا أنه يجب العمل به عند جمهور العلماء.
الدليل الثالث: إنَّ المجمعين إذا لم يبلغوا حد التواتر لم يؤمَن تواطؤهم على الكذب، بل لا يؤمن أن يعلنوا بعد انعقاد الإجماع فسقَهم أو ضلالَهم، أو حتى ردَّتهم -والعياذ بالله- كما ذكر ذلك السرخسي في (أصوله).
أجاب الجمهور عن ذلك بوجهين:
الوجه الأول: لا نسلم حصول الفسق من المجمعين الذين لم يبلغوا حد التواتر، فضلًا عن الضلال أو الردة منهم؛ فإن الله تعالى قد عصمهم من الإجماع على ذلك، فإن حصل شيء من ذلك من أفرادهم؛ فالإجماع حجّة عليهم، فنصوص القرآن والسنة التي أثبتت حجية القرآن أثبتت عصمةَ هذه الأمة من الخطأ ومن الضلال.
الوجه الثاني: لو سلّمنا جدلًا حصول ذلك منهم، فإن الله -جلّت قدرته- يقيم آخرين مكانهم، وفي مقامهم؛ ليكون الحكم الشرعي ثابتًا بإجماعهم؛ فَلَو سلمنا جدلًا حدوث الفسق أو الضلال من بعض المجمعين؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يقيم آخرين مكان هؤلاء حتى تثبت الأحكام الشرعية؛ لأنَّ هذه الشريعة محفوظةٌ بحفظ الله تعالى إلى قيام الساعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله)).
الترجيح: بعد عرض المسألة نرجح مذهب جمهور أهل العلم؛ نظرًا لقوة ما استدلوا به على ما ذهبوا إليه -والله تعالى أعلم.
الخلاصة:
ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يشترط في المجمعين أن يبلغوا حد التواتر؛ وذلك لأن أدلة حجية الإجماع لا تفرّق بين العدد القليل والكثير، فلو تُصُوِّر مثلًا أن عدد المجتهدين نَقَصَ عن حد التواتر، فإن اسم الجماعة والأمة لا يفارقه، هذا مذهب جمهور أهل العلم. وذهب قوم إلى أنه يشترط في المجمعين أن يبلغوا حد التواتر؛ لأن استحالة الخطأ على المجمعين من جهة حكم العادة، فلا بد من عادة تحيل العادة اتفاقهم على الكذب، وهذا المذهب فاسد؛ لأنَّ عصمة الأمة عن الخطأ ووجوب اتباعها ثابت بالشرع لا بالعادة.
فائدة الخلاف:
قال بعض أهل العلم: يترتب على القول بعدم اشتراط بلوغ المجمعين حد التواتر -وهو مذهب الجمهور- أمران:
الأمر الأول: لو لم يكن في العصر إلا اثنان من المجتهدين، فهل يكون إجماعهما إجماعًا معتبرًا له قوة الإجماع الشرعي؟: وفي ذلك خلاف:
فالبعض يرى أنَّ ذلك الاتفاق بين اثنين من المجتهدين خلا العصر عن غيرهما لا يكون إجماعًا، نظرًا لأنَّ أقل ما ينعقد به الإجماع ثلاثة؛ إذ الإجماع مشتق من الجماعة، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، هذا رأي البعض.
الأمر الثاني: إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد، فهل يكون قوله حجةً أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: قالوا: نعم، يكون قوله حجة؛ لأنَّ الأدلة السمعية التي دلّت على حجية الإجماع تفيد عدم خروج الحق عن هذه الأمة، من غير تفصيل بين أن يكون واحدًا أو أكثر، أي: أن النصوص الشرعية التي جاءت في بيان أن الحق لا يخرج عن أمة النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله)) هذه الأدلة السمعية لم تفصل بين أن يكون أهل الحق واحدًا أو أكثر، ثم إن لفظ “الأمة” يطلق على الواحد أيضًا، كما في قوله تعالى: {إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً} [النحل: 120] وعليه؛ فلو خلا العصر من المجتهدين إلا مجتهدًا واحدًا فقوله حجة؛ لأن الأدلة الشرعية التي أثبتت حجية الإجماع تفيد عدم خروج الحق عن هذه الأمة، من غير تفصيل بين أن يكون واحدًا أو أكثر، هذا فضلًا عن لفظ “الأمة” قد يطلق على الواحد أيضًا، كما في قول الله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم رضي الله عنه: {إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً} هذا هو القول الأول في المسألة.
القول الثاني: لا يكون قول المجتهد الواحد حجةً؛ لأن المنفي عنه الظاهر الاجتماع، و{سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] المراد به في الآية إنما هو الإجماع أيضًا، والآيات التي أثبتت حجية الإجماع أثبتتها للأمة أو للمؤمنين، والواحد فقط لا يسمى “أمة” ولا يسمى “مؤمنين” وأما إطلاق الأمة على سيدنا إبراهيم رضي الله عنه فهذا من باب المجاز، ولا يلزم من إطلاق الأمة على سبيل المجاز في حقِّ سيدنا إبراهيم رضي الله عنه للتعظيم، إطلاقه في حق غيره، ولعل الأقرب إلى الصواب أن قول الواحد أو الاثنين حجة، لكنها حجة ظنية.
5. المعتبر قوله في الإجماع:
ثم شرع ابن قدامة -رحمه الله- يتكلم في المعتبر قولُه في الإجماع؛ قال: ولا خلاف في اعتبار علماء العصر من أهل الاجتهاد في الإجماع.
ومعنى هذا: أنه لا نزاع في أن من بلغ من العلماء درجة الاجتهاد في الأحكام الشرعية يعتبر من أهل الإجماع، هذا محل اتفاق.
ثم قال -رحمه الله- بعد ذلك: وأنه لا يعتدُّ بقول الصبيان والمجانين. فلا نزاع بين أهل العلم في أن الصبيان والمجانين ليسوا من أهل الإجماع، وعليه فإجماعهم غير مؤثر، موافقتهم أو مخالفتهم.
وكذا الكفار ليسوا من أهل الإجماع؛ لأننا في تعريفنا للإجماع قلنا: “اتفاق المجتهدين من أمة محمد” إذن المجتهدين من غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا وزن لاتفاقهم أو لاختلافهم.
6. العوام من المسلمين لا يعتبر قولُهم في الإجماع:
وهنا مسألة أسهب فيها ابن قدامة -رحمه الله- بعض الشيء:
وعوام المسلمين يعني: من لم يبلغوا درجة الاجتهاد في الأحكام الشرعية.
اختلف أهل العلم في عوام المسلمين:
– فذهب الجمهور إلى أنهم لا يعتبرون من أهل الإجماع؛ وذلك لأن العامي ليست عنده آلة هذا الشأن، يعني ليست عنده قدرة على النظر والاستدلال في الأدلة لاستنباط الأحكام، ولو أفتى بغير علم ضل وأضل. هذا الرأي الأول في المسألة، وهو رأي الجمهور.
وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: فأما العوام فلا يعتبر قولهم عند الأكثرين.
وقال قوم: يعتبر قولهم. ومن هؤلاء القوم أبو بكر الباقلاني الشافعي، قال: يعتبر العوام في الإجماع.
ودليليهم على ذلك: قالوا: لدخولهم في اسم المؤمنين، يعني الوارد في قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] قالوا: كلمة {الْمُؤْمِنِينَ} في الآية تشمل العوام؛ كما أنَّ لفظ “الأمة” -يعني الوارد في حديث: ((لا تجتمع أمتي…))- يشمله؛ إذن العوام قولهم معتبر في الإجماع.
وهذا المذهب أو القول فاسد؛ لأنَّ المفهوم من عصمة الأمة عن الخطأ هو عصمة جماعة أهل الحل والعقد؛ إذ هم المتأهلون لاستنباط الأحكام.
وعليه؛ فالراجح في المسألة أنَّ العوام قولهم غير معتبر في الإجماع.
7. المعتبر قوله في الإجماع من العلماء:
أ. هل يُعتدُّ بقول العامي في الإجماع؟
في المسألة رأيين:
الرأي الأول: رأي الجمهور، واختاره ابن قدامة: أن من يعرف من العلم ما لا أثر له في معرفة الحكم فهو كالعامي، لا يعتد بخلافه.
والرأي الثاني: أنَّه يُعتد بخلافه؛ فالإجماع لا ينعقد بدونه.
والرأي الثاني رأي غير صحيح؛ لأن المتأهل لإدراك الأحكام -الذي نسميه نحن بالمجتهد- هو من عرف جميع هذه المواد.
رد الجمهور على أدلة أصحاب المذهب الثاني:
يقول ابن قدامة -رحمه الله: وأما الصحابة الذين ذكروهم: العباس، وطلحة، والزبير، فقد كانوا يعلمون أدلة الأحكام وكيفية الاستنباط، وكونهم لا يعرفون أو لا يحفظون الفروع الفقهية، فإنما استغنوا بغيرهم، طالما أن غيرهم يفتي في المسائل؛ فهم يمسكوا، لكن إذا ما اضطروا إلى بيان حكم الشرع في بعض الوقائع، فإن هذا من الأمور السهلة بالنسبة لهم؛ فهؤلاء الصحابة كانت لهم دراية، ولهم قدرة على النظر في الأدلة، وعلى استنباط الأحكام من هذه الأدلة.
ثم ذكر ابن قدامة -رحمه الله- عقب ذكر المذهبين في المسألة قال: فإن قيل: فهذه المسألة -دخول الأصولي الذي لا يعرف الفروع، ودخول الفقيه الذي لا يعرف الأصول- اجتهادية أم قطعية؟:
قرر العلماء أنَّها مسألة اجتهادية؛ لأننا إذا جوزنا أن يكون قول واحد من الأصوليين أو الفقهاء معتبرًا في انعقاد الإجماع؛ فأعلن هذا الأصولي أو هذا الفقيه مخالفته لذلك الإجماع؛ صار الإجماع مشكوكًا فيه عند مخالفته، فلا يصير حجة قاطعة، إنَّما يكون حجة قاطعة إذا لم يخالف هؤلاء أو واحد منهم.
ب. هل يُعتدُّ بقول الكافر المجتهد في الإجماع؟
قال ابن قدامة -رحمه الله: ولا يعتد في الإجماع بقول كافر، سواء كان بتأويل أو بغير تأويل، والكافر المجتهد قسمان: كافر غير متأول، وهو المعاند، وهو الكافر الأصلي، وهم اليهود والنصارى والمرتدون عن الإسلام، هذا يسميه أهل العلم كافر غير متأول، يعني ليس له تأويل سائغ حتى من وجهة نظره، وهناك كافر متأول، وهو الذي كفر بسبب بدعة أو شبهة، مثل الخوارج والجهمية ونحوهم، فإن هذيْن الكافريْن لا يُعتد بقولهما مطلقًا عند ابن قدامة -رحمه الله- وعند بعض أهل العلم؛ ودليل ابن قدامة ومن وافقه؛ لأنه لا يدخل في عموم لفظ: {الْمُؤْمِنِينَ} يعني الوارد في قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]. وكذلك لا يدخل في عموم لفظ ((الأمة)) الوارد في الحديث: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) فالكافر غير المتأول لا يدخل في عموم الآية، ولا يدخل في عموم الحديث، وعليه؛ فلا يدخل في الأمة المشهود لها بالعصمة، وعلى ذلك فيكون قوله غير مؤثر وغير معتبر، ولا يلتفت له.
ج. هل يُعتدُّ بقول الفاسق في الإجماع؟
يفهم من كلام ابن قدامة -رحمه الله- أنَّ الفاسق المجتهد قسمان:
القسم الأول: فاسق بسبب الاعتقاد، كالرافضي، ونحو ذلك.
القسم الثاني: فاسق بسبب فعل وعمل؛ كالزاني، والسارق، وشارب الخمر، والقاتل، ونحو ذلك. وقد اختلف أهل العلم: هل يعتد بقولهما في الإجماع أو لا؟ على المذاهب التالية:
المذهب الأول: ذهب إليه القاضي أبو يعلى من الحنابلة، أنه لا يعتد بهما، وهذا المذهب قول جماعة من العلماء؛ وعلى ذلك فلو كان هناك فاسق باعتقاد أو بفعل وخالف المجتهدين، فلا اعتبار بخلافه، والإجماع ينعقد بدونه.
الأدلة:
استدل القاضي ومن وافقه على أن الفاسق باعتقاد أو فعل لا يُعتد بقولهم في الإجماع بالأدلة التالية:
الدليل الأول: قول الله تعالى -كما في سورة “البقرة”: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ} [البقرة: 143] أي عدولًا، وهذا -يعني الفاسق- غير عدل؛ فلا تقبل روايته، ولا شهادته، ولا قوله في الإجماع.
الدليل الثاني: ذكره ابن قدامة -رحمه الله- قال فيه: ولأنَّه لا يقبل قوله منفردًا؛ فكذلك مع غيره، أي: أنه لا يعتد بقول الفاسق في الإجماع إن كان منفردًا؛ وذلك نظرًا لفسقه.
المذهب الثاني: قال أبو الخطاب من الحنابلة: يعتد بقول الفاسق باعتقاد أو بفعل، فالفساق عند أبي الخطاب يُعتد بأقوالهم في الإجماع، وهذا الرأي أو المذهب ذهب إليه أيضًا إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي.
الأدلة:
استدل أصحاب هذا المذهب على أن الفاسق باعتقاد أو فعل يُعتدُّ بقول في الإجماع بالأدلة التالية:
– استدلوا بدخول الفاسق في قول الله تعالى: {وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) فإن الفساق يدخلون في عموم لفظ: {الْمُؤْمِنِينَ} في الآية، يعني في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] ويدخلون أيضًا في عموم لفظ ((الأمة)) في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)).
فهذان اللفظان: {الْمُؤْمِنِينَ} و((الأمة)) يشملان الفاسق، وعليه؛ فقول الفاسق في الإجماع معتبر وله أثر.
الترجيح:
المذهب الأول هو الأصح، أي: أن الفاسق لا يقبل قوله في الإجماع، لأنه بفسقه سقط عن رتبة جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين.
د. هل يعتد بقول صاحب البدعة في الإجماع؟
ذهب الجمهور إلى عدم الاعتداد به في الإجماع؛ لأنَّه متهم في الدين، وخالف أيضًا أبو الخطاب، وقال: يعتد به، لأنَّ لفظ: ((الأمة)) يشمله، والأول هو الأصح؛ لأنَّ المبتدع ساقط عن رتبة جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين.
هـ. هل يعتد بقول التابعي في عصر الصحابة؟
في المسألة مذهبان ذكرهما ابن قدامة -رحمه الله- في كتاب (الروضة):
المذهب الأول: التابعي المجتهد الذي بلغ رتبة الاجتهاد معتبر عند انعقاد الإجماع، هذا مذهب الجمهور من الشافعية والحنفية وأكثر المتكلمين.
المذهب الثاني: لا يُعتد بالتابعي ولو كان من المجتهدين في عصر الصحابة مطلقًا، وعلى ذلك ينعقد إجماع الصحابة ولو كان المجتهد من التابعين مخالفًا لهم، وهذا المذهب الثاني هو رواية عن الإمام أحمد رضي الله عنه والرواية الأخرى عن الإمام أحمد كالمذهب الأول.
الأدلة ومناقشتها:
وقد استدل أصحاب كل مذهب على ما ذهبوا إليه بأدلة، ولنبدأ بأدلة الجمهور:
1. أدلة الجمهور:
استدل جمهور العلماء على ما ذهبوا إليه بأكثر من دليل:
الدليل الأول: التابعي من جملة الأمة:
قال ابن قدامة في (الروضة): ووجه الأول -أي: الدليل على المذهب الأول، مذهب الجمهور، على أن التابعي إذا بلغ رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة فإنه يعتد بخلافه ووفاقه في إجماعهم- قال: ووجه الأول أنه إذا بلغ -أي: التابعي- رتبة الاجتهاد، فهو من الأمة، وستلاحظون أن كلمة ((الأمة)) وكلمة {الْمُؤْمِنِينَ} ترد كثيرًا في مبحث الإجماع؛ أما كلمة ((الأمة)) فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) وأما كلمة {الْمُؤْمِنِينَ} فلورودها في قول الله تعالى: {وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الآية التي أثبتنا بها حجية الإجماع.
فابن قدامة -رحمه الله- يقول: إنَّه إذا بلغ رتبة الاجتهاد، يعني التابعي، فهو من الأمة، التي قال فيها النبي: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) فإجماع غيره لا يكون إجماع كل الأمة، يعني: لو أجمع الصحابة وخالف التابعي، فلفظ ((الأمة)) لا ينطبق والحالة هذه؛ لأن التابعي فرد من أفراد الأمة، وإذا لم يوافق الصحابة فإن هذا اللفظ لا ينطبق على مجموع الصحابة والتابعي المخالف في هذه الحالة. يقول: إذا بلغ التابعي رتبة الاجتهاد، فهو من الأمة، فإجماع غيره لا يكون إجماع كل الأمة، والحجة بإجماع الكل؛ لأننا عرفنا الإجماع بأنه اتفاق جميع المجتهدين، وقد قررنا أن هذا التابعي مجتهد؛ فالإجماع والحجة إنما تكون بإجماع الكل.
قال: نعم، لو بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم، يعني حال إجماع الصحابة، كان التابعي لم يصل بعد إلى رتبة الاجتهاد، فلو بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماع الصحابة فهو مسبوق بالإجماع، فهو كمن أسلم بعد تمام الإجماع.
انتهى كلام ابن قدامة -رحمه الله- ومعناه: أن الأدلة الدالة على حجية الإجماع؛ كقول الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]؛ وكذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على الخطأ)) وغيرهما مما سبق ذكره عند الاستدلال على حجية الإجماع، تدل على أن المتبع هم كل المجتهدين، من المؤمنين ومن الأمة، الموجودين حين حدوث الحادثة في عصر واحد، وهذا الاسم، وهم “المؤمنون، والأمة” لا يصدق مع خروج التابعي المجتهد عن الصحابة؛ لأن التابعي المجتهد من الأمة في زمن نظر الصحابة رضي الله عنهم في حكم الحادثة، فلو نظر المجتهدون من الصحابة في هذه الحادثة دون ذلك التابعي المجتهد، وأجمعوا على حكمها، فإنه لا يقال: إجماع جميع مجتهدي الأمة، بل إجماع بعضهم، وإجماع البعض لا يكون حجة، وعليه فالحجة هي إجماع الكل، فلا بد من الاعتداد بقول التابعي المجتهد، حتى يكون الإجماع من كل مجتهدي الأمة الموجودين حين حدوث الحادثة، وهذا ما تدل عليه الأدلة على حجية الإجماع.
أيضًا هذا التابعي المجتهد، لا يختلف عن الصحابة إلا في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم فالصحابة لهم شرف الصحبة وفضيلة الصحبة، ويتميزون بأنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، لكن هذه الخصوصيات للصحابة لا تمنع أن يكون رأي التابعي معتبر في الإجماع، ولا تمنع من أن رأي التابعي معتد به وأن الإجماع لا يتحقق إلا إذا وافق التابعي الصحابة رضي الله عنهم.
الدليل الثاني: الصحابة رضي الله عنهم سوَّغوا اجتهاد التابعين:
يقول ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة): ولا خلاف أن الصحابة رضي الله عنهم سوغوا اجتهاد التابعين، يعني: الصحابة أجازوا للتابعين أن يجتهدوا في وجودهم؛ ولهذا ولى عمر رضي الله عنه شريحًا -وهو من التابعين-القضاء، وكتب إليه في رسالته: ما لم تجد في السنة فاجتهد رأيك، وهذا إذنٌ من عمر لشريح بأن يعمل رأيه وفكره ونظره فيما لم يجد فيه حكم في القرآن والسنة، وقد علم أن كثيرًا من أصحاب عبد الله -أي: ابن مسعود- كعلقمة، والأسود، وغيرهما، وسعيد بن المسيب، وفقهاء المدينة، قد كانوا يفتون في عصر الصحابة، وهؤلاء جميعًا من التابعين، علقمة، والأسود، وسعيد بن المسيب، وفقهاء المدينة، كانوا يفتون في عصر الصحابة رضي الله عنهم فكيف لا يعتد بخلافهم؟!.
وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- في كتاب (الزهد): أن أَنَسًَا -يعني: ابن مالك- سئل عن مسألة، فقال: اسألوا مولانا الحسن –يعني: الحسن البصري، وهو من التابعين- فإنه غاب وحضرنا، وحفظ ونسينا. فهذا الدليل الثاني الذي أورده ابن قدامة -رحمه الله- دليل على أن خلاف التابعي معتبر، وأن إجماع الصحابة لا ينعقد إذا كان التابعي الذي بلغ رتبة الاجتهاد مخالفًا للصحابة فيما اتفقوا عليه.
الدليل الثالث: الإجماع لا ينعقد مع خلاف واحد من الصحابة؛ فكذلك التابعي:
الإجماع لا ينعقد مع خلاف واحد من الصحابة، فكذلك لا ينعقد الإجماع مع خلاف التابعي الذي أدرك عصر الصحابة؛ لأنه من علماء ذاك العصر، وشرط الإجماع: هو اتفاق المجتهدين، أعني: جميع المجتهدين، ويؤيد هذا أن عمر بن الخطاب وعليًّا { قلدا شريحًا القضاء بعدما ظهر منه مخالفتهما في الرأي، وإنما قلداه القضاء ليحكم برأيه.
2. أدلة أصحاب الرأي الثاني:
الدليل الأول: قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)) وواضح أن أصحاب المذهب الثاني يستدلون بالأحاديث الواردة في الأمر باتباع سنة الصحابة رضي الله عنهم والحرص عليها، وإذا كان الأمر كذلك، يعني النبي أوصى باتباع سنة الصحابة؛ فلا شك أن رأي غيرهم لا يؤثر؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)) دليل على أن قول الصحابة رضي الله عنهم هو المعتبر وهو المعول عليه.
الدليل الثاني: قال صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بكر وعمر: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) فهذا أمر للأمة بالاقتداء برأي أبي بكر ورأي عمر رضي الله عنهما.
الدليل الثالث: قال صلى الله عليه وسلم: “أصحابي كالنجوم؛ بأيهم اقتديتم اهتديتم”؛ فهذه عدة أحاديث دلت على أن قول الصحابة هو المعتبر وقول التابعي غير معتبر.
الدليل الرابع: استدلوا من المعقول بأن الصحابة رضي الله عنهم لهم مزية الصحبة، وشاهدوا التنزيل، وأنهم مرضي عنهم من الله تعالى، كما قال تعالى: {لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ} [الفتح: 18] فهذه شهادة من الله -تبارك وتعالى- للصحابة رضي الله عنهم. وأيضًا قد مدحهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن غيرهم، -من التابعين وأتباع التابعين إلى قيام الساعة: ((لو أنفق ملء الأرض ذهبًا لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) فهذا مدح من رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم وكل هذا إن دل على شيء فإنَّما يدل على قيمة واعتبار رأي الصحابة، وأن رأي غير الصحابة غير معول عليه أمام رأي الصحابة رضي الله عنهم وذلك كله يدل على أن الحق معهم وليس مع مخالفيهم.