واقع إعداد المناهج في القرن الحالي
إن بناء مناهج التعليم الجديدة خلال القرن الحادي والعشرين، ينبغي أن يركز على تغيير حياة النشء وتغيير مجتمعاتهم، حيث يجب بتلك المناهج أن تتيح للمتعلمين خبرات تعليمية، وتربوية تؤهلهم لحياة أفضل. ومن أهم الملامح التي يجب أن تبنى عليها مناهج التعليم خلال الألفية الثالثة، ما يلي: المزيد من العمق والقليل من المعالجة السطحية للأمور والمسائل والقضايا ذات الأهمية بالنسبة للطالب والمجتمع، وكذلك ينبغي التركيز على حل المشكلات التي تتطلب استخدام العديد من استراتيجيات التعلم، كما ينبغي أيضًا التأكيد على كل من المهارات والمعرفة في جميع موضوعات المنهج، وأيضًا المزيد من المواكبة والملاءمة، والعمل على تقليل الفروق الفردية بين المتعلمين، من خلال: تنويع الخبرات، والوسائل التعليمية، والتكنولوجية الحديثة والمختلفة، وكذلك توظيف واستخدام أساليب متنوعة ومتعددة للتعليم والتعلم، كما ينبغي التركيز على النقاط المشتركة، وهي الخصائص، والاحتياجات، والقدرات، والاستعدادات المعرفية والتعليمية، والخصائص والقدرات العقلية لدى جميع المتعلمين داخل الصف الدراسي الواحد.
كما ينبغي أن يكون هناك اهتمام، ومزيد من التناسق التام بين الموضوعات في المنهج الواحد، وبين موضوعات المناهج ككل، حتى يكون هناك تكامل بين المناهج، أيضًا ينبغي الاهتمام بالمزيد من التكامل الانتقائي، على مستوى موضوعات المنهج الواحد، وعلى مستوى المناهج المختلفة، أيضًا يجب التأكيد على مفهوم المنهج المتعلَّم، الذي يعني: ضرورة وصول جميع المتعلمين إلى حد التمكن والإتقان، ويشير التمكن والإتقان إلى وصول المتعلم إلى أقصى درجة من التحصيل والاستيعاب، بحيث يحصل على معيار الجودة وعلى معيار التفوق، إذا تم اختباره في المنهج الذي درس له. كما أن هناك أيضًا مزيدا من الاهتمام بالجوانب الشخصية الوثيقة، مع التوازن بين تلك الجوانب الشخصية والمستقبليات. ولذلك؛ عندما ننظر نظرة مقارنة، بين المناهج القديمة والمناهج الجديدة، نجد أن بينهما فروقًا، ولذا، فإن الاتجاهات المعاصرة في إعداد وتصميم المناهج، ينبغي أن تتغلب على بعض الملامح، وعلى بعض المشكلات التي كانت تعتري المناهج فيما مضى.
فمن حيث العمق: نجد أن المناهج القديمة كانت تتناول القضايا بسطحية، بينما المناهج الجديدة تتعمق في تناول القضايا والأمور والمعلومات.
ومن حيث المشكلات: كانت المناهج القديمة تركز على مهارات التفكير بشكل منفصل، أما المناهج الحديثة والمعاصرة والجديدة فهي تركز على مشكلات واقعية، تنطوي في سياقها على مزيد من استراتيجيات التعلم.
ومن حيث المهارات والمعرفة: نجد أن المناهج القديمة تركز على المعرفة فقط، أما المناهج الحديثة فهي تركز على المهارات والمعرفة في إطار حل المشكلات. وعند اعتبار الفروق الفردية بين المتعلمين، وكيفية مراعاتها بين المتعلمين داخل الصف الدراسي الواحد؛ نجد أن المناهج القديمة كانت تتجاهل تلك الفروق، تجاهلًا تامًّا وكاملًا، حيث يتم إعداد المنهج بطريقة واحدة لكافة أنواع المتعلمين، بغض النظر عن الفروق الفردية بينهم، أما المناهج الحديثة فهي تؤكد على ضرورة مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين.
وفيما يرتبط بنقاط التلاقي ومسارات المنهج، نجد أن المناهج القديمة كانت تركز على مسارات المنهج فقط، أما المناهج الحديثة والمعاصرة فهي تركز على نقاط التلاقي المشتركة بين جميع المتعلمين.
ومن حيث التناسق: كان هناك تناسق جزئي في المناهج القديمة، وفي إعداد المناهج سابقًا، أما إعداد المناهج الحديثة، فلا بد من التأكيد على التناسق التام بين أجزاء المنهج من ناحية، وبين المنهج والمناهج الأخرى من ناحية ثانية.
ومن حيث التكامل: فنجد أن المناهج القديمة، عبارة عن مواد منفصلة، أما المناهج الحديثة ففيها تكامل انتقائي تام.
ومن حيث محور التركيز: نجد أن المناهج القديمة كانت تركز على الأنشطة، أما المناهج الحديثة فهي تركز على مخرجات ونتائج التعلم.
ومن حيث الموارد: نجد أن المناهج القديمة كانت تؤكد على الحتمية الأكاديمية، أما المناهج الحديثة فهي تؤكد على الحاجات الشخصية الوثيقة، وغيرها من الموارد المستخدمة.
وهناك عدد من المناهج وعدد من المداخل والاتجاهات الحديثة، لبناء المناهج، وتطويرها، فعندما ننظر في أي شيء في واقعنا المعاصر نجد أن كل الأمور تتطور، فمع ما أفرزته التكنولوجيا وثورة المعلومات، وثورة الاتصالات والمعرفة، نتج عن ذلك ثورة في إعداد المحتوى، وثورة مماثلة في مجال التربية ومجال التعلم، وقد تحول مفهوم وهدف التعلم، من مجرد التمركز حول المعلم إلى التمركز حول الطالب، وإلى تعليم الطالب كيف يتعلم learn how to learn، كما تغير أيضًا هدف ومقصد المناهج في مراحل التعليم المختلفة إلى ضرورة التركيز على قياس مخرجات جديدة للتعلم من خلال إعداد وتصميم المناهج، وهي: تعليم الطالب كيف يفكر؟ وكيف يبدع؟ وكيف يبتكر؟ ولذا؛ كان لزامًا على القائمين على إعداد المناهج، أن يقوموا بسلوك المسالك والدروب التي تؤدي بهم إلى ضرورة إعداد المناهج التي تتلاءم مع الخصائص والمعطيات الجديدة، والروافد المستحدثة في عصر تكنولوجيا المعلومات، وثورة المعرفة والاتصالات.
ويعد المدخل البيئيEnvironmental Approach من المداخل، ومن الاتجاهات الجديدة والمعاصرة لبناء المناهج وتطويرها، حيث تمثل مناهج التعليم حلقة من ثلاث حلقات، تبنى عليها منظومة أية عملية تعليمية، هذه الحلقات هي: المناهج، والمعلمين، والمتعلمين، أو الدارسين، حيث تتداخل هذه الحلقات الثلاث وتتفاعل فيما بينها؛ لتحقيق غايات نظام التعليم وأهدافه، لكافة المستويات والمراحل التعليمية، ويأتي المدخل البيئي في مقدمة العديد من المداخل، التي نادت بها الحركات الإصلاحية لتطوير التعليم، وإعادة بناء مناهجه؛ لكي تتواكب مع متغيرات العصر الحديث.
وقد ارتبط المدخل البيئي في بداياته بمناهج العلوم؛ لأنها أكثر المناهج ملاءمة، من حيث طبيعتها، وموضوعاتها لهذا المدخل، حيث يمكن تضمين محتوى تلك المناهج العديد من المفاهيم، والقضايا، والمشكلات البيئية، لكن المدخل البيئي لم يتوقف عند حد مناهج العلوم، بل تجاوزها ليربط بينها وبين المناهج الدراسية الأخرى، كالرياضيات، والدراسات الاجتماعية، واللغات، والصحة، والتربية البدنية، والفنون، وغيرها من المداخل الأخرى.
ويمكن الأخذ بالمدخل البيئي في المناهج الدراسية، لجميع مراحل التعليم النظامي، من خلال عدة طرق وأساليب، من بينها ما يلي:
المدخل الأول: مدخل الدمج. ومدخل الدمج يتم عن طريقه إدخال الخبرات البيئية في موضوعات المناهج القائمة، بمعنى: تضمين محتوى هذه المناهج، وتطعيمها بمعلومات، ومفاهيم، وقضايا، ومشكلات بيئية متنوعة، وفقا لما تتيحه طبيعة موضوعات كل محتوى. وفي هذا المدخل نرى تفاوتا واضحا في إمكانية دمج الخبرات البيئية من منهج دراسي لآخر على حسب مجاله وتخصصه، فتأخذ مناهج العلوم المرتبة الأولى في هذا الإطار.
المدخل الثاني: مدخل الوحدات الدراسية؛ والذي يتم عن طريقه إدخال الخبرات البيئية في محتوى المناهج الدراسية، من خلال إضافة وحدات دراسية قائمة بذاتها، تعالج قضايا البيئة ومشكلاتها.
المدخل الثالث: الذي يتم من خلاله وهو المدخل المستقل؛ ويتم من خلاله معالجة الخبرات البيئية في مناهج أو مقررات أو برامج مستقلة قائمة بذاتها، شأنها في ذلك شأن أية مادة دراسية أخرى. وعند الأخذ بالمدخل البيئي في المناهج الدراسية عموما، ينبغي التركيز على عدة أبعاد بيئية، هي: البعد العام للبيئة، والبعد الأخلاقي للبيئة، والبعد الجمالي للبيئة، والبعد الصحي للبيئة، والبعد الغذائي والبعد الإعلامي للبيئة أيضا.
وبصفة عامة، فإن بناء مناهج دراسية على ضوء المدخل البيئي، لا ينبغي أن يتم بمعزل عن أهداف التربية البيئية، تلك الأهداف التي تتم ترجمتها إلى محتوى، يتم بالتالي تضمينه بتلك المناهج، وعلى ضوء ما جاء في ميثاق بلجراد عام 1975، وغيره من المؤتمرات التي أدت إلى بلورة أهداف التربية البيئية في خمسة أهداف، وهي: الوعي، والمعرفة، والاتجاهات، والقيم، والمهارات، والمشاركة. حيث ينبغي لمحتوى المناهج الدراسية أن يحقق تلك الأهداف، من خلال تضمينها وتطعيمها بخبرات بيئية مناسبة، تشمل المعارف البيئية من معلومات، ومفاهيم، ومبادئ بيئية، حول علم البيئة والنظم البيئية، والسكان، والموارد الطبيعية، والتنمية، والطاقة، ومصادرها، وآثارها، والصحراء، والتصحر، والماء ومشكلاته، والجفاف والتلوث بكافة أنواعه وسبله، والنتائج المترتبة عليه، إلى غير ذلك من موضوعات، ومشكلات، وقضايا ذات علاقة بالبيئة.
كما يكون من بين الموضوعات ذات الأهمية في المناهج الدراسية: الوعي بقضايا الإنسان وبيئته، وقيمه، من خلال تضمين محتوى المناهج بمعلومات عن تأثر وتأثير النشاطات البشرية والإنسانية، بالعلاقة بين الحياة ونوعية البيئة، وكيف يجب أن تكون طبيعة العلاقات بين الإنسان وعناصر بيئته. وأيضًا، استكشاف القضايا والحلول، من خلال تضمين المناهج خبرات ومهارات لازمة؛ لتدريب الفرد على اكتشاف قضايا ومشكلات بيئية، واتخاذ القرارات المناسبة حيالها، ووضع بدائل وحلول لحلها، وتقويم النتائج المترتبة على تلك الحلول. وأيضًا، الاهتمام بتضمين المناهج الحديثة أفعال المواطنة، حيث يجب تضمين المناهج خبرات مناسبة؛ لإكساب الفرد القيم البيئية اللازمة، التي ترسم أنماط سلوكه البيئي الصحيح خلال ممارساته اليومية مع البيئة ومواردها.
وقد اهتمت كثير من الدول العربية بتضمين مناهجها البعد البيئي، إلا أنها ما زالت عاجزة عن ترجمة أهداف التربية البيئية إلى سلوك فاعل، ومهارات تؤدي إلى الحفاظ على البيئة وتطويرها، وتنمية مواردها المختلفة، كما أنها ما زالت عاجزة أيضًا عن إكساب المتعلمين القيم البيئية، والخلق البيئي الذي يحكم سلوك الفرد بيئيًّا، ويحمله المسئولية البيئية تجاه البيئة التي يعيش فيها، ويحيا بداخلها. وفي مصر حاول المهتمون بقضايا التعليم، إدخال التربية البيئية في مناهج التعليم العام، خصوصا بالمرحلتين: الابتدائية، والإعدادية، حيث ظهرت بالفعل مناهج متكاملة قائمة على المدخل البيئي لهاتين المرحلتين، كما أن هناك محاولات للأخذ بالمدخل البيئي في مناهج المرحلة الثانوية، لكن الأمر ما زال يحتاج إلى وقت وجهد، فهناك صعوبات كثيرة، منها: التأكيد على الامتحانات، وحفظ المادة، بدلا من التركيز على تغيير سلوك المتعلمين نحو البيئة، ولقد قامت العديد من الجامعات أيضًا في دول العالم المختلفة باستحداث مناصب وقيادات أكاديمية تهتم في الجانب الأول بالبيئة، وأصبحت وظيفة أولئك العلماء، والخبراء، والمشتغلين هي البيئة، وذلك داخل المدارس والجامعات والكليات والمعاهد وغيرها.
وإذا كان المدخل البيئي من بين المداخل والاتجاهات الحديثة المعاصرة في إعداد المناهج، فإن هناك مدخلا آخر، وهو: مدخل التكامل، أو مناهج العلوم المتكاملة، حيث يعد هذا المدخل من الاتجاهات المعاصرة والحديثة في إعداد المناهج، ويتداخل مفهوم العلوم المتكاملة Integrated Science مع عدة مصطلحات أخرى، مثل: العلوم المندمجة أو البينية، والعلوم المتحدة أو الموحدة، حيث تأتي جميع هذه المصطلحات مترادفة على المستوى الإجرائي، لكن المصطلح الأكثر شيوعًا بين خبراء المناهج الأمريكيين، هو: العلوم المدمجة، أما المصطلح الأكثر شيوعًا في أوروبا، فهو: مصطلح العلوم المتكاملة.
وفي دول العالم العربي ومنها مصر، فإن مصطلح العلوم المتكاملة، هو المصطلح الشائع لدى العاملين في مجال المناهج والتعليم، ويعرف التكامل في العلوم Integration Science بأنه معالجة العلم بمنطوق وحدة العلوم، ووحدة المشكلات والظواهر الكونية التي يفسرها، فالتكامل هو: التجمع في كل موحَّد تعالج فيه المفاهيم العلمية بانتظام، وترابط، وتدرج، دون التقيد بحدود فروع العلم المنفصلة، وعلى ذلك، فإن العلوم المتكاملة هي مناهج ذات منظور شمولي، تتناول المعرفة والخبرات العلمية بشكل موحد متناسق دون فصل بين فروع ومجالات تلك المعرفة، حيث ينبغي لتلك المناهج أن تأخذ بأحد مداخل التكامل، كالمدخل البيئي وغيره من المداخل.
وتأتي مناهج العلوم في مقدمة المناهج الدراسية، التي أخذت بمبدأ التكامل القائم على المدخل البيئي، تلتها مناهج دراسية أخرى، كالدراسات الاجتماعية: الجغرافيا، والتاريخ، والدراسات اللغوية وغيرها، وإذا كانت مناهج العلوم قد اعتمدت على المدخل البيئي؛ لتكاملها فيه، ولوجود تكامل بينها وبينه من جهة، وفيما بينها وبين غيرها من المناهج الدراسية من جهة أخرى، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، فإن هذه المناهج سوف تزداد اندماجا وتكاملا مع مناهج أخرى، كالتكنولوجيا والرياضيات، والعلوم الاجتماعية، وعلوم البيئة، والصحة العامة، وغيرها من العلوم خلال القرن الحادي والعشرين. ولا يؤمن منهج العلوم المتكاملة، بالفصل بين العلوم داخل المدرسة، والمشكلات الحية خارجها، كما لا يؤمن بالتقسيم المصطنع بين فروع العلوم المختلفة. والعلوم المتكاملة غالبا ما تهتم بالمشكلات، التي تهم جموع الناس، ومن ثم، فهي أكثر انسجاما مع متطلبات العصر الحاضر، ويختلف منهج العلوم المتكاملة تماما عن المناهج التي كانت وما تزال تطبق في مدارسنا، تحت عنوان: العلوم العامة، تلك العلوم التي لا تحقق -على الرغم من ادعائها التكامل- سوى القدر اليسير جدًّا من التكامل.