وسائل أمريكا لتضليل الرأي العام تحت شعار محاربة الإرهاب
انتهينا بالحديث عن أن الصهيونية الصليبية قد تجذّرت في المجتمع الأمريكي، وأخذت تطفح على السطح الثقافي على كلّ المستويات الطبقية للمجتمع، ممّا جعل المجتمع الأمريكي كلّه مخترقًا من قِبل الفكرة اليهودية، ومن قِبل الفكرة الصهيونية على السواء.
وقلنا أيضًا: إنّ بعض الرؤساء الأمريكيِّين تبنّوْا هذه القضية واعتنقوها وآمنوا بها، ووجدْنا الرئيس “ريجان” يُقسِّم العالَم إلى محوريْن أو قطبيْن: قطب للشر بزعامة الاتّحاد السوفيتي، وقطب للخير بزعامة أمريكا والحركة الصهيونية المعاصرة. ووجدنا انطلاقًا من هذا التقسيم “ريجان” يُعدّ العُدّة ليقود حركة النور أو الأنوار أو أهل النور، ليقابلوا أهل الظلام أو أهل الشر في معركة فاصلة، التي أشرنا إليها فيما مضى بأنها معركة “هرمجدون”.
ولكن وجدنا أنّ التاريخ والواقع التاريخي قد أثبت كذِب هذه النبوءات من أوّلها إلى آخِرها؛ فقد سقط الاتحاد السوفيتي ولم تقم أو لم تقع معركة “هرمجدون”. وسقوط إمبراطورية الشر -التي هي الاتحاد السوفييتي- لا يعني انتهاء أهل الشر في العالم، أو نهاية إمبراطورية الشر في العالم؛ هكذا فسّر “ريجان” وفسّر أنصار الاتجاه الصهيوني الصليبي في أمريكا. فحوّروا القضية من معركة “هرمجدون” إلى ما يسمّى بمحاربة الإرهاب العالمي.
وأخذ مصطلح “الإرهاب” يحل محلّ معركة “هرمجدون”، ورُفع في أمريكا شعار: الحرب العالمية ضد الإرهاب. وانتهى من على ألْسنة السّاسة الأمريكيِّين مصطلح معركة “هرمجدون”. وأخذوا يقولون: “إن روسيا إذا كانت قد سقطت أو سقط الاتحاد السوفييتي، فإن ذلك ليس إلّا مرحلة تاريخية من مراحل الصراع بين قُوَى الخير وقُوى الشر؛ ولذلك نقلوا المعركة بكاملها من مواجهة بين الخير والشر في معركة “هرمجدون” إلى معركة تاريخية جديدة بدءوا يرفعون لها شعارًا جديدًا وهو شعار: “الحرب العالمية ضد الإرهاب”.
أبنائي وبناتي طلاب هذه الجامعة، أرجو أن نَعِيَ تمامًا الواقع التاريخي ونحن نفسِّره ليس تفسيرًا عاطفيًّا، ولكن من واقع الكتابات التي ظهرت في أمريكا تحت التأثر بالفكر الصليبي الصهيوني، وتحت فكرة أنّ أمريكا هي رسول الله إلى العالَم، لتحارب الشر في العالم، ولتعمل على سيادة الخير في العالم. وجدْنا انطلاقًا من هذا التفكير الأسطوري في سنة 1986م، لعلّكم تذكرون -أن أمريكا قد قامت بضرب ليبيا في هذا التاريخ 1986م، وكان السبب الذي ظهر في الإعلام الأمريكي تبريرًا لهذا الموقف الأمريكي من ليبيا -أنّ ليبيا بلد إرهابي، وأنّ أمريكا تحاربها من منطلق أنها مسئولة عن محاربة الإرهاب في العالم. ولكن الواقع التاريخي أثبت خلاف ذلك تمامًا؛ فلقد صرّح الرئيس الأمريكي “ريجان” -وهذا التصريح أيضًا مُعلَن في الصحف الأمريكية، ونُشر في صحيفة “سان دييجو ماجازين”، ونشرَتْه بعددها الصادر في أغسطس عام 1985م. بماذا صرّح ريجان؟ صرّح بالآتي: قال: إن “ريجان” كره ليبيا؛ لأنه يرى أنّ ليبيا واحدة من أعداء إسرائيل الذين ذكرَتْهم النبوءات الواردة في الكتب المقدسة، وأنها عدوّة لشعب الله المختار، وبالتالي يجب ضربها وإبادتها انتصارًا لشعب الله المختار، وتحقيقًا للنبوءات الواردة في الكتب المقدسة. لماذا؟ لأنها عدوّة لله. وجدنا هذا التصريح نُشر في حديث صحفي أجْرته مع الرئيس “ريجان” صحيفة “سان دييجو ماجازين” ونشرته كما قلنا في عددها الصادر في أغسطس 1985م.
يقول الصحفي الذي أجرى هذا التحقيق مع “ريجان”: “لقد انتحى بي “ريجان” جانبًا أثناء حفل العشاء، وأخذ يتحدّث إليّ عن النبوءات الواردة في الكتاب المقدس، وعن حتمية نشوب حرب مع الاتحاد السوفييتي؛ لأن السوفييت في نظره هم يأجوج ومأجوج الذين ورد ذكْرهم في الكتاب المقدس، وأنّ هذه الحرب سوف تكون آخِر حرب كبرى يشهدها العالم، وأنّ “ريجان” هو المؤهّل لقيادة هذه الحرب”. ثم التفت إلى الصحفي بحدّة وقال له: “إنني قرأت في الإصحاح 38 من “سفر حزقيال”: “أنّ أرض إسرائيل سوف تتعرّض لهجوم تشُنّه عليها جيوش الأمم الكافرة، وأنّ ليبيا سوف تكون من بين تلك الأمم”. هذا ما صرّح به ريجان لهذا الصحفي، وبناءً على هذا التصريح، وجد عنده المبرّر الذاتي لضرب ليبيا، ثم ظهر على العالم بأنه يضرب ليبيا. لماذا؟ لأنها دولة إرهابية. هذه هي السياسة الأمريكية المتأثِّرة بحركة الصهيونية الصليبية في أمريكا.
وإذا انتقلنا من الرئيس “ريجان” إلى الرئيس “جيمي كارتر”، وجدنا أنّ هذا الرئيس قد نجح إلى حدّ ما في أداء بعض الواجب المقدّس عليه الذي يؤمن به تجاه إسرائيل؛ حيث أمّن لها السيادة وحيازتها لكل الأرض المتعاقد عليها أو التي أبرم الله الوعد بيْنه وبين أنبياء بني إسرائيل من أجلها. وفرح بذلك فرحًا شديدًا، واعتبر نفسه أنه بذلك قد حقّق النبوءات التي سيسود تبعًا لتحقيقها سلام إسرائيل في العالم كله. وصرّح الرئيس “جيمي كارتر” بذلك في بعض المناسبات، وأعلن أنه إنما فعل ذلك لأن بيْنه وبين إسرائيل تاريخًا مشتركًا وتراثًا مقدّسًا مشتركًا. وهو يقول بينه وبين إسرائيل، لا يعني بينه وبين شخصه أو بين شخصه وبين إسرائيل، ولكن بين القوّة الصهيونية الصليبية التي يقودها والتي يمثِّلها في أمريكا بين هذه الحركة وبين إسرائيل تراثٌ مشتركٌ وهو: النبوءات الواردة في التوراة عن نزول المسيح في أرض إسرائيل.
وإذا انتقلنا إلى الرئيس “بوش” الابن، نجد أنه هو الآخَر لم يكتف بما فعَله الرئيس “ريجان” ولا بما فعله “بوش” الأب. ومن المفيد أن نذكر هنا: أنّ “بوش” الأب بعد حرب الخليج الثانية وبعد أن تمّ تحرير الكويت، أعلن في مؤتمر أو في حفل تحرير الكويت: أنه بذلك يعلن النظام العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا في المنطقة. تابِعوا معي هذه التصريحات وهذه التواريخ؛ لأنها على درجة كبيرة من الأهمية، لنعلم كيف تدير أمريكا وإسرائيل الحركات الانقلابية وحركة التاريخ في المنطقة العربية.
جاء “بوش” الابن -كما قلنا- ورأى أن “كارتر” لم يَقم بواجبه تمامًا تجاه إسرائيل، وأخذ يعلن ويصرّح أنه سوف يأخذ على عاتقه التمهيد الكامل لسيادة إسرائيل وسيادة أبناء النور على أبناء الظلام في المنطقة وبالتالي في العالم كلّه. وأبناء النور -كما ذكرنا من قبل- هم: الأمريكيون واليهود، وليس كلّ الأمريكيّين، بل كلّ الأمريكيين الذين وُلدوا ولادة ثانية بعد هجرة أبناء النور من أوربا إلى أمريكا.
هذه كلّها مسائل يؤمنون بأنّ التوراة قد تنبّأت بها، وأنّ مهمّة أمريكا المعاصرة -بما أنّها تمثل أبناء النور- الأساسية هي: القضاء على أبناء الظلام، على محاور الشر، وأنّ محاور الشر تتمثل عندهم في العرب وفي المسلمين بعد سقوط الاتحاد السوفيتي من أمامهم، وأنّ القضية -قضية سقوط روسيا أو الاتحاد السوفيتي- لا تعني انتهاء محاور الشر، وإنّما تعني مرحلة من مراحل المواجهة بين قوى الخير التي تمثّلها أمريكا، وقوى الشر التي تتمثّل في العرب المعادين لإسرائيل.
ولا يخفى على حضراتكم: أنّ هذا التفسير التاريخي كلّه يصبّ في صالح إسرائيل وضدّ فلسطين وضد العرب، وأمريكا الأمّة التي جعلت نفسها حامية للخير ومحارِبة للشر أعلنت: أنّ الرب قد حمّلها هذه الرسالة، وخصّها بها دون سائر الأمم. وما الذي يمكن أن تفعله إزاء هذا الاختيار الإلهي؟ هي أعلنت: أن الله اختارها لهذه المهمّة، وأنّ الرب قد قرّر ذلك، وهي لا تملك مخالفة مشيئة الرب، ولن تكفّ عن البر وتحقيق ما وعد الرب به، ولا بد من مواجهة محاور الشر وعوامل الظلام في العالم. ولتكُن البداية من المنطقة العربية. لماذا؟ لأنها تريد أن تقعّد وترسي وتضع جذور إسرائيل في المنطقة كما نبّأ بذلك العهد القديم؛ ولذلك نجد أنّ نصوص التوراة التي تردّدت على ألسنة المسئولين من الطبقة الحاكمة أو الثلة الحاكمة لأمريكا الآن تتردّد وتدور كلّها حول النبوءات الواردة في التوراة، حول ضرورة الانتصار لله ممثلًا في الانتصار لإسرائيل، وحول تحقيق وعْد الله بتحقيق قيام دولة إسرائيل، وأنّ الصيغة التي استخدمتها التوراة وصرّح بها الرب في التوراة لا بدّ أن يُحققها أبناء النور الذين هم الشعب الأمريكي.
أبنائي وبناتي، لا أريد أن أترك هذه الأمور حتى أوضّح لكم تمامًا: أنّ الواقع الذي نعيشه يحتاج إلى نظرة فاحصة في تفسير الواقع، وتفسير السياسة الأمريكية في المنطقة؛ لأن أمريكا من منطلق النبوءات الواردة في التوراة تعتقد اعتقادًا خطيرًا جدًّا أنّ المعارك القائمة في المنطقة العربية بين إسرائيل وأمريكا من جانب، وبين المسلمين من جانب آخَر هي معركة بين الرب والشيطان. ولذلك تجد في أسفار العهد القديم يأخذون منها هذه النصوص ليجعلوها شعارًا لمعاركهم ضدّ العرب يقولون: “حرّموهم بالسيف!” يعني: اذبحوهم! يعني: اذبحوا العرب! “لا تأخذكم بهم شفقة! اذبحوهم رجلًا رجلًا، وامرأة وشيخًا، وطفلًا رضيعًا!”. وفي المرات التي تقاعس فيها الشعب لأسباب متعلّقة بالكسب المادي أو انصراف بعض المسئولين عن تنفيذ أوامر الرب كانت مشيئة الرب عليهم أن ينهزموا؛ لأنهم فرطوا في أوامر الرب. ولكي يعيدوا الأمور إلى نصابها، لا بد أن يأخذوا الدرس والعبرة، فلا يفرّطوا في أوامر الرب أبدًا. ولذلك هم الآن يرفعون شعار: أنّ معارك الرب يُديرها الرب بنفسه من أعلى، ولا بد أن يتحقق النصر فيها لشعبه المختار. وأمريكا عندما تحلّت بروح التوراة وسارت على هدْيها في التعامل مع الهنود الحمر، انتصرت. وكذلك تُلقّن إسرائيل الدرس: أنها لا بد أن تتمسك بتعاليم التوراة لكي تنتصر على العرب كما انتصرت أمريكا على الهنود الحمر. ولكي تأخذ أرض العرب كما أخذت أمريكا من الهنود الحمر أرضها، ولكي تطرد العرب من أرضهم وتقتلهم وتقتل نساءهم، كما قتلت أمريكا الهنود الحمر وسَبَتْ نساءهم وجعلتهم عبيدًا في المزارع والمصانع.
هكذا نرى الواقع يشير ويؤكِّد أن العقيدة الدينية، أن الأصولية الصليبية، قد أصبحت من أهمّ العوامل المؤثرة في سياسة البيت الأبيض الأمريكي عبْر “جيمي كارتر” و”رونالد ريجان” و”جورج بوش” الأب و”جورج بوش” الابن. هذه أمور أصبحت من الوضوح والبيان بحيث لا نحتاج معها إلى أدلّة، وكلّ وقائع التاريخ المعاصر، وكلّ تصريحات الرؤساء السابقين والحاليِّين تؤكِّد لنا أنهم يتعاملون مع المنطقة من منطلق إيمانهم بهذه النبوءات. وليس أدلّ على ذلك من أن أحب الاستشهادات إلى قلوب المسيحيّين الصليبيّين -أقول: الصليبيين الصهيونيّين، ولا أقول المسيحيّين، لأن المسيحية براء ممّا تفعله الصليبية الصهيونية- أقول: أحب الاستشهادات إلى قلوبهم هو: الاستشهاد الذي لا يَملّون من تكراره، الموجود في سفر التكوين 2/ 12 و 3/ 12 وهو الذي يعلن فيه الرّب: أن الله سيجعل إسرائيل أمّة عظيمة يباركها، ويعظّم اسمها، ويجعلها بركة، ويبارك مباركيها، ويلعن لاعنيها، وتتبارك فيها جميع قبائل الأرض.
هذا النص أشبه بالدستور الديني الذي تعامل به “جيمي كارتر” و”ريجان” و”بوش الأب” و”بوش الابن” مع القضية الفلسطينية ومع شعب إسرائيل ومع الحركة الصهيونية العالمية؛ فلا نجد القضية الفلسطينية مطروحة في مجلس من مجالس الأمن أو الأمم المتحدة، إلّا بمعارضة من أمريكا ومن السياسة الأمريكية والبيت الأبيض، لدرجة أنّ البيت الأبيض قد استخدم حق الفيتو -حق النقض- 87 مرة ضد فلسطين، ولم يستعمله مرة واحدة ضد إسرائيل. ولذلك نجد أن سيطرة الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية على البيت الأبيض وعلى القرار السياسي في البيت الأبيض لا تحتاج إلى دليل أكثر من النظر إلى الواقع الذي يؤكِّد ما قلناه، ويؤكّد اعتصام البيت الأبيض بالنبوءات الواردة في التوراة ضد المسلمين والعرب، ولصالح إسرائيل وصالح شعب الله المختار.
ولعلكم تلاحظون معي، على سبيل التمثيل بأمثلة واقعية عندما يفجِّر فلسطيني نفسه دفاعًا عن أرضه وعرضه ووطنه وحريّته يسمّى: إرهابيًّا، تقوم الدنيا ولا تقعد بواسطة الإعلام الأمريكي ضدّ هذا الشخص الفلسطيني. ولكن عندما تغتال الحكومة الإسرائيلية شعبًا بأكمله وأرضًا بكاملها ووطنًا بكامله يسمِّيه “بوش” الابن دفاعًا عن النفس. هل رأيتم إرهابًا أكثر من هذا؟ يسمِّيه: دفاعًا مشروعًا عن النفس. وحين يزداد الصلف الإسرائيلي والغارات الوحشية على الفلسطينيّين، أقصى ما تفعله أمريكا هو: أن تناشد الفلسطينيِّين بهدوء النفس وضبط النفس. تناشد الفلسطينيين ولا تناشد إسرائيل. وطبعًا المقصود بضبط النفس هنا: ألّا يدفعهم الاعتداء الوحشي إلى المقاومة، وإنما يستسلموا. هل رأيتم إرهابًا أكبر من هذا؟ يلومون الحَمل ولا يلومون الذئب، يلومون الفريسة ولا يلومون المفترس. هذه هي السياسة الصهيونية ضد العرب وضد فلسطين.