وصف الناقة، والفرس، والقوس
وصف الناقة في الشعر الجاهلي:
من المعلوم أن العرب اهتموا اهتمامًا خاصًّا بالناقة؛ لأنها وسيلتهم في السفر والترحال في صحرائهم الشاسعة الصعبة، والإبل كانت بالنسبة لهم أغلى أموالهم وأهم ثرواتهم؛ عليها يعتمدون في السفر والرحلة والانتقال، ومنها يأخذون غذاءهم: الألبان واللحم، ومنها كذلك يتخذون كساءهم وفرشهم.
ومن هنا كانت عناية الشعر الجاهلي بالناقة، وصفها وأطال وصفها، والأوصاف العامة في الشعر الجاهلية للناقة تدور حول قوتها وصلابتها وسرعتها؛ فهي نجاء أي: ناجية، صادقة الهواجل، ذِعلبة أي: سريعة، حرف، مذكَّرة، جمالية، أمون، ذمول، صموت، وصفوها بكل هذه الأوصاف.
ولا يكاد يخلو ديوان شاعر من شعراء الجاهلية من وصف الناقة؛ وصفها طرفة بن العبد، ووصفها لبيد، ووصفها امرؤ القيس، ووصفها بشر بن أبي خازم.
وسنذكر هنا وصفًا للناقة من شعر بشر بن أبي خازم؛ فهو من الذين أكثروا في وصف الناقة وأجادوا، في إحدى قصائده يرسم لوحة لناقته ويصفها بالسرعة والقوة، ويصف فيها أعضاءها، ونرى في هذه الصورة ذنبَ الناقة في أوضاع مختلفة؛ نراه وقد تدلّى على فخذيها يشبه عرجون النخلة، ونراه وهي تحركه يمنة تارة ويسرة أخرى، وقد تدخله بين فخذيها، فنرى عجزها كالباب قد شُدّ رتاجه، ونرى أيضًا في هذه الصورة ظهرَ الناقة القوية وضلوعها الطويلة التي تُشبه قرون الوعول وقد امتدت في شريعة الماء، ونرى سنامها المرتفعة الضخمة وعنقها الطويلة الممتد، وقد علق بها الزمام ليجذب الناقة إذا تزيدت في السير، ونرى فيها أيضًا عرق الناقة متجمدًا داكن اللون، وأخفافها التي بليت ولم يبقَ منها غير بقايا كأنها زجاجٌ مهشّم، ويرتفع البصرُ قليلًا، فنرى النسيف في جنبيها كأفحوص القطاة المثلم، ثم يرتد البصر إلى أسفل الصورة حيث المناسم والنعال يرشح منها الدم، فأسفارها طويلة وطرقها صعبة، يقول بشر في قصيدته التي يصف فيها الناقة:
كأن على أنسائها عذق خصبة | * | تدلّى من الكافور غير مكمم |
تطيف به طورًا وطورًا تلطه | * | على فرج محروم الشراب مصرم |
تشبّ إلى ما أدلج القوم نيرة | * | بأخفافها من كل أمعز مورم |
وتأوي إلى صلب كأن ضلوعه | * | قرون وعول في شريعة مأزم |
تلاقت على درب الصقيع جباهُها | * | بعوج كأمثال العريش المذمم |
لها عجُز كالباب شدّ رتاجه | * | ومستتلع بالكور ضخم المكدم |
وأتلع نهّاض إذا ما تزيدت | * | يذاع بمجدول من الصوف مؤدم |
كأن بزفراها عنية مجرب | * | يحشّ بها طال جوانب قمقم |
وَقَد بَلِيَ الأَخفافُ إِلّا وَشائِظًا | * | بَقيت لَها مِثلَ الزُجاجِ المُهَضَّمِ |
وقد تخذت رجلي لدى جنب غرزها | * | نسيما كأفحوص القطاة المثلم |
إذا صام حرباء العشي رأيتها | * | مناسمها بالجندل الصم ترتمي |
إذا انبعثت من مبرك فنعالها | * | رعابيل يثرين التراب من الدم |
ومن ديوان الشعر الجاهلي كله تضح مكانة الناقة عند العرب فقد كانت سفينة الصحراء ووسيلة السفر، والمحبوبة الثانية لدى الشعراء، بل ربما كانت المحبوبة الأولى أحيانا إليها يفرون إذا غلبهم الشوق وأضناهم الحنين فيكلفونها ما بهم من هم، عامدين إلى ديار غير الديار؛ طلبًا للسلوى أو محاولة للحاق بالأحبة المرتحلين، أو قاصدين باب ملك أو كريم يؤملون عنده جزيل عطاء أو كريم لقاء.
وصف الفرس في الشعر الجاهلي:
لم يحظ حيوان من العرب بعناية تشبه عنايتهم بالناقة إلا الفرس، فقد كان الفرس عدتهم في الحروب ونجدتهم في مواطن الخطر، ويقول بشر بن أبي خازم: “به يكرون وعليه يفرون”.
وأكثر شعرائهم وصف الفرس خاصة الشعراء الفرسان، نجد مثلًا امرأ القيس في معلقته يصف جواده فيقول:
وقد أغتدي والطير في وُكناتها | * | بمنجرد قيد الأوابد هيكل |
مِكر مِفر مُقبل مُدبر معًا | * | كجلمود صخر حطه السيل من عل |
كُمَيت يزل اللبن عن حال متنه | * | كما زلت الصفواء بالمتنزل |
مسحٍّ إذا ما السابحات على الونا | * | أثرن غبارا بالكديد المركَّل |
على العقب جياش كأن اهتزامه | * | إذا جاش فيه حميه غلي مرجل |
يطير الغلام الخف عن صحواته | * | ويُلوي بأثواب العنيف المثقّل |
درير كخذروف الوليد أمرّه | * | تقلّب كفيه بخيط موصّل |
له أيطلا ظبي وساقا نعامة | * | وإرخاء سلحان وتقريب تتفل |
كأن على الكتفين منه إذا انتحى | * | مَداك عروس أو سراية حنظل |
فقد صور سرعته تصويرًا بديعًا -كما يقول الدكتور شوقي ضيف- وجعله قيدًا لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنها لا تستطيع إفلاتًا منه؛ كأنه قيد يأخذ بأرجلها، وهو لشدة حركته وسرعته يُخيل إليك كأنه يفرّ ويكرّ في الوقت نفسه، وكأنه يُقبل ويُدبر في آنٍٍ واحد، وكأنه جلمود صخر يهوي به السيل من ذروة جبل عالٍ، وإن لبده لشدة حركته ليسقط عنه وينزلق كما تنزلق الصخرة من مُنحدر بعيد، وهو يصبّ الجري صبًّا ويسبق كل الخيل سبقًا، لا يثير غبارًا ولا نقعًا، إنما هو ما إن يحركه راكبه حتى يغلي غليان القدر لا يني ولا يفتر، وإذا راكبه لا يستطيع الثبات عليه، وما أشبهه في سرعة انطلاقه بلعبة الخذروف الدوارة التي يلعب بها الصبيان؛ إذ يصِلونها بخيط ويسرعون في إمرارها إسراعًا، وهو فرس ضامر كأنه ظبي نافر، فله خاصرته النحيلتان، بل لكأنه نعامة خفيفة له ساقاها الضئيلتان الصلبتان، وهو يهوي إلى الأرض كأنه الذئب الفزع، ويقفز كأنه الثعلب الخائف، وإذا اعترضك خُيّل إليك للمعانه وبريقه أنك تنظر إلى مداك عروس أو سراية حنظل، ومداك العروس هو الحجر الذي تسحق عليه طيبها فيبرق؛ شبه به الفرس في بريقه، والسرايا حنظلة صفراء براقة.
وصف القوس في الشعر الجاهلي:
وكما وصف الشعراء الجاهليون الناقة والفرس لأهميتهما عندهم، وصفوا كذلك أسلحة الحرب، ومما وصفوه منها: القوس، وأكثر الذين وقفوا عند القوس وتأمَّلوها ووصفوها هم الشعراء الصعاليك، وأشدّ ما يهتمون به في وصفها صوتُها حين ينبضون فيها، أو حين يتهيئون للرمي؛ من ذلك قول صخر الغي:
وسمحة من قسي زارتا | * | صفراء هتوفٌ عدادها غرد |
كأن إرنانها إذا ردمت | * | هزم بغاة في إثر ما فقدوا |
وشاعر آخر منهم يقول:
وفي الشمال سمحة من النشم | * | صفراء من أقواس شيبان القدم |
تعج في الكف إذا الرامي اعتزم | * | ترنم الشارف في أخرى النعم |
وصوتها في سمع الشنفرى رنين وهتاف، ولكنه رنين حزين كصوت الشجي أثقلته شجونه وأحزانه، يقول الشنفرى:
وصفراء من نبع أبيٍّ ظهيرة | * | ترن كإرنان الشجي وتهتف |
وهم في ذلك يذكرون لونها فهي صفراء، ثم يصفون صوتها، ويذكرون أنها من نبع أبي؛ أي: من شجر النبع الأصيل. ومن ذلك أيضًا قول أحدهم:
وقاربت من كفي ثم فرجتها | * | بنزعٍ إذا ما استكره النزع مخلج |
فصاحت بكفي صيحة راجعت بها | * | أنين الأميم ذي الجراح المشجج |
ومن الشعراء الذين وصفوا القوس فأجادوا وأطالوا: الشماخ بن ضرار، وهو شاعر مخضرم عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام.