وصية أمامة بنت الحارث
وهي وصية امرأة عوف بن محلم الشيباني أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس عند زواجها: قالت لها: “أي بنية”:
أي: أداة نداء، وبنية: تصغير ابنة، والتصغير في هذا المقام يدل على الإشعار بقرب البنت من أمها، وأنها تدلّلها؛ لأنها ما زالت صغيرة، لم تقل: يا ابنتي، وإنما قالت: “أي بنية”، وتستخدم “أي” للنداء على القريب، فالنداء بأي والتصغير كلاهما يدلان على قرب البنت من أمها قربًا حقيقيًّا مكانيًّا وقربًا نفسيًّا معنويًّا.
ثم ساقت الكلام في أول وصيتها بأسلوب مؤكد، فقالت: “إن الوصية لو تُركت لفضل أدبًا تركت لذلك منك”:
فأثنت بذلك على ابنتها ومدحتها بأنها مؤدبة، ولو أن الوصية تركت لأدب أحد لتركت بسبب أدبها، ثم استدركت وقالت:
“ولكنها -أي: الوصية- تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل”:
وبهذه الحكمة العالية من المرأة استأنست بنتها وجعلتها مستعدة لقبول نصيحتها، فلم تنفّرها منها، ولم تشعرها بأن الوصية لها؛ لأنها ناقصة في الأدب، لم تفعل شيئًا من ذلك. ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنتِ أغنى الناس عنه؛ إذًا لو كانت الوصية تترك لزيادة الأدب لتركت وصية هذه البنت. ولو كانت امرأة تستغني عن الزوج لغنى أبويها وحاجتهما إلى البنت لكانت هذه البنت أغنى الناس عن الزواج.
واستدركت أيضًا وقالت: “ولكن النساء للرجال خلقنَ، ولهن خلق الرجال”:
هذه سنة الحياة، خلق الله سبحانه وتعالى النساء ليتزوجن الرجال، وخلق الرجال للنساء، وما دامت هذه سنة الله في خلقه فإنك -أيتها البنت الغالية الكريمة العزيزة المؤدبة- ستتزوجين.
ثم تكرِر النداء بصيغة التصغير: “أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجتِ، وعُشك الذي فيه درجتِ”: شبهت البيت الذي ستخرج منه بالعش الذي تبدأ فيه الطيور حياتها.
“إلى وكرٍ”، وكلمة “وكر” معناها أيضًا: عش.
“إلى وكر لم تعرفيه”، ستتركين بيتك الذي نشأت فيه إلى بيت جديد عليك.
“وقرينٍ”، المراد به الزوج الذي ستعاشره.
“لم تألفيه”، ونلاحظ بين الجملتين سجعًا، وبين تعريفه وتأليفه جناسًا.
ثم توصيها بما يجب عليها أن تكون عليه؛ فتقول: “فكوني له أمة يكن لك عبدًا”:
كوني: فعل أمر، والياء اسم كن، وأمَة: خبرها، وجملة: “يكن لك عبدًا”؛ يكن: فعل مضارع مجزوم في جواب الأمر، أي: إن تكوني له أمَة يكن لكِ عبدًا، فالجملتان مرتبطتان ببعضهما ارتباط الجواب بالشرط، ونلاحظ المقابلة بين الجملتين: “كوني له أمَة، يكن لكِ عبدًا”، والمراد التشبيه؛ يعني: كوني مثل الأمَة مطيعة منقادة يكن لكِ مثل العبد المملوك.
“واحفظي له خصالًا عشرًا يكن لك ذخرًا”:
هنا سجع بين جملة احفظي له خصالًا عشرًا يكن لكي ذخرًا، نهايتا الجملتين متفقتان في الراء المفتوحة.
“أما الأولى والثانية: الصحبة بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة”:
أيضًا نلاحظ السجع بين الجملتين.
“وأما الثالثة والرابعة: فالتفقُّد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح”:
أيضًا نلاحظ السجع بين الجملتين.
“وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن حرارة الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة”:
نلاحظ الأسلوب المؤكد بـ”إن” في قولها: “فإن حرارة الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة”، ونلاحظ السجع بين الجملتين.
“وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله، والإرعاء على حشمه وعياله”:
أيضًا نلاحظ السجع بين الجملتين: “الاحتفاظ بماله، والإرعاء على حشمه وعياله”.
“ملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير”:
أيضًا المناسبة بين التقدير والتدبير.
“وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرًا، ولا تفشين له سرًّا؛ فإنك إن عصيتي أمره أوغرتي صدره، وإن أفشيتي سرّه لم تأمني غدره”:
نلاحظ السجع بين الجمل: “فلا تعصين له أمرًا، ولا تفشين له سرًّا”؛ “فإنك إن عصيتي أمره أوغرتي صدره”: هذا أسلوب شرط؛ “إن عصيتي أمره” هذا هو الشرط، وجوابه: “أوغرتي صدره”، “وإن أفشيتي سره لم تأمني غدره”.
“ثم إياكِ والفرح بين يديه إذا كان مغتمًّا، والكآبة بين يديه إذا كان فرحًا”:
هذا أسلوب تحذير، “إياكِ” أي: احذري أن تفعلي هذا، يحذرها من الفرح أمام زوجها إذا كان حزينًا، وتحذرها من الكآبة عنده إذا كان فرحًا، وهذا أمر تقع فيه كثير من النساء. لا تبالي بالحالة النفسية لزوجها، فتُظهر الغم في وقت فرحه، وتظهر الفرح في وقت حزنه، وذلك من قلة العقل عند المرأة التي تفعل ذلك، هذه المرأة العربية في العصر الجاهلي تحذّر ابنتها من أن تقع في هذا، وفي هذا الكلام في هاتين الجملتين مقابلة بين الفرح بين يديه إذا كان مغتمًّا والكآبة بين يديه إذا كان فرحًا.
“واعلمي، أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاكِ، وهواه على هواكِ فيما أحببتِ وكرهتِ”:
نلاحظ الجناس بين رضاه ورضاكِ، والطباق بين أحببتِ وكرهتِ، والجناس أيضًا بين هواه وهواكِ.
وأنهت الوصية بقولها: “والله يخير لكِ”:
أي: الله يختار لكي الخير.
ثم قالت في نهاية الوصية: “واعلمي، أنكِ لا تَصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاكِ، وهواه على هواكِ فيما أحببتِ وكرهتِ والله يخير لكِ”:
علقت وصولها إلى ما تحبه من السعادة مع زوجها والراحة عنده على إيثارها رضا زوجها على رضاها، وتفضيلها هواه على هواها؛ فيما أحبت وفيما كرهت، ونلاحظ في هذه الخاتمة أنها ساقت المعنى -الذي أشرت إليه- في أسلوب صارم: “لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه…” إلى آخر ما قالت، وأنهت الوصية بالدعاء لها بأن يختار الله لها الخير بقولها: “والله يخير لكِ”.
هذه وصية غالية من امرأة حكيمة لابنتها عند زواجها، وما أحرى نساءنا في هذا العصر أن يتعلمن من هذه الوصية ما فيها من حكم بالغة، وأن تأخذ كل امرأة نفسها بها، وأن توصّي بها ابنتها إذا أوشكت على الزواج.
والحق: إن ما جاء في هذه الوصية من نصائح أسدتها الأم لابنتها- يتفق مع ما جاء به الإسلام من ضرورة رعاية الزوجة لحقوق زوجها، وطاعتها له، والمحافظة على بيته وولده وماله، فهذه الرعاية وتلك المحافظة هما سبيل المرأة إلى امتلاك قلب زوجها والحصول على تقديره واحترامه وحبه وإكرامه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته))، ومن ضمن من خصهم بالذكر في هذا الحديث الشريف المرأة؛ حيث قال: ((والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها، ومسئولةٌ عن رعيتها)). ومن هذه الوصية وغيرها من النصوص التي درستها لك في هذا الدرس تعرف أن العرب لم يكونوا جميعًا أشرارًا، وأن حياتهم لم تكن شرًّا مطلقًا، بل كان فيهم مَن يحرص على الخير ويدعو إليه ويوصي به، وقد جاء الإسلام فأقرّهم على ما فيهم من خير، ودعاهم إلى الاستزادة منه، وربط هذا الخير الذي فيهم فطرةً وجبلة بالدين، ودعاهم إلى الرغبة فيما عند الله عز وجل من الجزاء على التمسك به ونشره والعمل به.