وظيفة اللغة
إننا نستخدم اللغة في جميع أوجه حياتنا، فنحن نعبر بها عن مشاعرنا وأحاسيسنا، كما نقضي بها حاجاتنا، وننقل بواسطتها أخبارنا وأخبار غيرنا، ونستعلم بها عن الأمور، وبواسطتها ننفي، ونشجع، ونزجر، وننهى، وبها نقوي العزائم، وبها أيضًا نثبط الهمم، إننا نستخدمها في مراسمنا الاجتماعية، وشعائرنا الدينية، وبها نقنع الغير، ونستخدمها في الدعاية، والإعلان، والتأثير في الناس، وبها يخطب الخطباء، وبها يصاغ الشعر وينشد، وبها ننظم علاقاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما نعبر بها عن تراثنا بأشكاله المختلفة، وبها نصلح المجتمع، وبها أيضًا نفسده.
وإذا رأينا أن من وظائف اللغة الرئيسية الفهم، فإننا لم تبتعد عن الحقيقة؛ لأن الفهم هو هدف اجتماعي رئيسي للغة، وإذا رأينا أن اللغة وسيلة للاتصال بين البشر، فإن رؤيتك أيضًا صحيحة.
بل إن كثيرًا من العلماء رأوا أن وظائف اللغة مهما تعددت، فإنها تعود إلى الاتصال بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مع أن بعض العلماء رأوا أن قصر اللغة على كونها وسيلة للاتصال بين البشر أمر غير دقيق؛ لأن الحيوانات تتواصل أيضًا، فالاتصال غير مقصور على الإنسان.
كما رأوا أن الاتصال بين البشر قد يحدث بوسائل أخرى غير لغوية؛ كالعلامات، ودق الطبول، والإشارات، والصفير، والخرائط، والرسوم إلى آخره، كما رأوا أن هناك نوعًا من الكلام ليس غرضه الاتصال، ولا يهدف إليه، وإنما يؤلف حدثًا بمجرد النطق به، مثل القرارات الإدارية، وأحكام المحاكم، وغيرها.
على أية حال، إذا نظرنا في التعريفات السالفة الذكر للغة، فإنه يتبين لنا من خلالها أن وظيفة اللغة عند هؤلاء اللغويين، ما هي إلَّا التعبير عن الأفكار، والعواطف، ونقلها إلى الغير، وقد آمن بهذا كثير من اللغويين، من غير هؤلاء الذين ذكرنا تعريفاتهم للغة، وانتصر لهم أيضًا وشايعهم نفر من علماء المنطق، والفلسفة، ومنهم: العالم “جيوفنز”، الذي رأى أن اللغة تؤدي ثلاثة أغراض:
الغرض الأول: أنها وسيلة للتوصيل والتفاهم.
الغرض الثاني: أنها عون آلي على التفكير، أي: أداة صناعية تساعد على التفكير.
الغرض الثالث: أنها وسيلة لتسجيل الأفكار والرجوع إلى ما يسجل منها.
وقد نظر العالم “أوتو يسبرسون”، المتوفى: سنة (ثلاثين وتسعمائة وألف) من الميلاد، في هذه الأغراض التي ذكرها “جيفونز”، ورأى أن الغرض الثالث –وهو كون اللغة وسيلة لتسجيل الأفكار والرجوع إلى ما يسجل منها- يرجع إلى الغرض الأول، الذي هو التوصيل والتفاهم، ورفض الغرض الثاني، وهو أن تكون اللغة عونًا آليًّا على التفكير، معللًا رفضه بأن جماعة من المفكرين طالما شكوا من أن اللغة التقليدية كانت في بعض الحالات عائقًا لهم عن التفكير في شيء إلى أعمق أعماقه؛ لأن مفردات اللغة متناهية والأفكار المجردة غير متناهية.
والمتأمل بالفعل في اللغة يرى أن وظيفتها تتسع لأغراض أخرى غير نقل الأفكار، مثل التأثير على الغير؛ كالخطباء الذين يعملون على تقوية علاقة الناس بخالقهم، والصحفيين، ورجال الإعلام الذين يدعون الناس إلى تأييد رأي سياسي معين، أو دعوة اجتماعية معينة، أو الترويج لشراء سلع أو بيعها إلى آخره، وغير هؤلاء وهؤلاء ممن ترتبط أعمالهم بالاتصال بالناس؛ ولذا رأى كثيرمن العلماء أن أهم وأخطر وظائف اللغة، الوظيفة الخاصة بالإقناع والتأثير على الآخرين، وذلك بسبب وسائل الإعلام الجماهيرية المتوافرة في عصرنا الحاضر بشكل لم يسبق له مثيل، والمتمثلة في الصحافة، والأفلام السينمائية، والراديو، والتلفاز.
لقد كان الإقناع فنًّا يعتمد على المنطق، بالإضافة إلى البلاغة والفصاحة اللغويتين، وكاد الآن يصبح هذا الإقناع علمًا يعتمد على المنطق، علاوة على الدراسات الاجتماعية والنفسية، وأيضًا الدراسات اللغوية الحديثة، وخاصة الدراسات المعنوية أو الدلالية التي تحدد المفردات تحديدًا دقيقًا، وتظهر خطورة هذه الوظيفة في وقتنا الحالي؛ للتأثير على الناس اقتصاديًّا عن طريق الإعلان التجاري، وسياسيًّا عن طريق فن الدعاية، ولعلنا نلحظ أن الإعلان التجاري الآن من أهم أسس النظام الاقتصادي العالمي حرصًا على رءوس الأموال المسيرة لعجلة المصانع، وتشغيل ملايين العمال فيها، ولعلنا نلحظ أيضًا، أن الدعاية السياسية لا تقل عن الإعلان التجاري أهمية، وإن كان بعضها موضوعيًّا وأكثرها غير موضوعي، حين تستخدم هذه الدعاية؛ لتدعيم حكم ما، أو نظام ما، أو حزب ما، كما تظهر خطورة هذه الدعاية أيضًا، في أوقات الأزمات، وفي أوقات الحروب، لكل هذا رأى كثير من العلماء أن الإقناع والتأثير، من أهم وظائف اللغة في عصرنا الحالي؛ لذا اعترض بعض العلماء على قصر اللغة على نقل الأفكار، ورأوا أن استعمال اللغة للتعبير والتوصيل، لا يمكن أن يتحقق للسواد العام من الناس؛ إذ الذين يستطيعون التفكير المنظم من بني البشر قليلون جدًّا، كما أن العباقرة والمفكرين لا يقضون حياتهم كلها في تفكير علمي دقيق؛ لأنهم بشر يخضعون للظروف التي يخضع لها غيرهم من البشر؛ لذا وسع هؤلاء العلماء من دائرة وظيفة اللغة، وعدم قصرها على التعبير والتوصيل.
فقد يكون في كثير من الأحيان استجابة لنزعة الإنسان الفطرية، في أن يثبت وجوده الاجتماعي، ومن أوضح الأمثلة على ذلك: لغة التحيات، والمخاطبات الاجتماعية، ولغة الساسة، والعسكريين، والمونولوج، واللعب بالأصوات، والترنم بالكلمات إلى غير ذلك، فهل ترى فكرًا وتوصيلًا فيمن يحيي أخاه في الصباح، قائلًا: صباح الخير، فيرد عليه، قائلًا: صباح النور، وقد يكون ذلك الصباح الذي التقيا فيه صباح شر وقتام بالنسبة لهما أو لأحدهما.
وكذا الحال عندما تلقي التحية على فرد أو مجموعة من الناس في موقف يكون الغرض منه مد العون إليك، وهل ترى فكرًا وتوصيلًا في لغة أولئك الذين يحاولون باللغة إخفاء أفكارهم كالسياسيين، والعسكريين، واللصوص، والجواسيس إلى غير ذلك، لقد أخبر الله عز وجل عن أولئك المنافقين، الذين يقولون: {آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين} [البقرة: 8]، ويقولون أيضًا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 1، 2].
كما أخبر عز وجل عن أولئك المخالفين من الأعراب، الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11].
وقد ألف العلامة أبو بكر بن دريد الأزدي، المتوفى: سنة (إحدى وعشرين وثلاثمائة) من الهجرة، كتابًا سماه بـ(الملاحن)، قال في مقدمته: “هذا كتاب ألفناه؛ ليفزع إليه المجبر المضطهد على اليمين المكره عليها، فيعارض بما رسمناه، ويضمر خلاف ما يظهر؛ ليسلم من عادية الظالم، ويتخلص من جنف الغاشم”، وساق أمثلة كثيرة في هذا الكتاب؛ منها -كما قال-: “تقول: والله ما رأيت فلانًا قط ولا كلمته”، يقول ابن دريد: “فمعنى ما رأيته، أي: ما ضربت رئته، ومعنى: ما كلمته، أي: ما جرحته”، ومن الأمثلة أيضًا، يقول ابن دريد: “تقول: والله ما رأيت فلانًا راكعًا، ولا ساجدًا، ولا مصليًا، فالراكع هنا في قصد المتكلم: العاثر الذي قد كبا لوجهه، كما يقصد بالساجد: المدمن النظر في الأرض، كما يقصد بالمصلي: الذي يجيء بعد السابق من الخيل”، يقول ابن دريد: “والنِّتاج في هذا الباب كثير”.
إن اللغة في هذه المواقف وأشباهها، ما هي إلَّا أداة لقضاء مصلحة، أو لتحقيق غرض، أو وسيلة لخلق العلاقات الاجتماعية وتوثيقها، أو تلبية رغبة البشر في الاجتماع الإنساني وتحقيق التعاون بينهم.
اللغة إذًا ظاهرة اجتماعية وأداة لقضاء الحاجات، إنها جزء من نشاط المجتمع، أو السلوك الإنساني، كما يقول علماء الاجتماع ومن تأثر بهم من اللغويين، إن وظائف اللغة متعددة.
والمواقف التي يحتاج الفرد فيها إلى استعمال اللغة متنوعة، فهي تستخدم للحصول على أشياء مادية كالطعام والشراب، ويسميها العلماء وظيفة نفعية، كما تستخدم اللغة لتبادل المشاعر والأفكار، ويسميها العلماء أيضًا وظيفة تفاعلية، كما تستخدم للاستفسار عن أسباب الظواهر والرغبة في التعلم منها، وتسمى وظيفة استكشافية، وتستخدم للتعبير عن تصورات وتخيلات من إبداع الفرد وإن لم تتطابق مع الواقع.
ويسميها العلماء وظيفة تخيلية، وتستخدم لتمثل الأفكار والمعلومات وتوصيلها للآخرين، وهي وظيفة بيانية، وتستخدم اللغة للعب باللغة وبناء الكلمات منها، حتى ولو كانت بلا معنى، وتسمى وظيفة التلاعب باللغة، كما تستعمل للتعبير عن السلوكيات.
وهكذا تتعدد المواقف وتتنوع الأنشطة التي يحتاج الفرد فيها إلى استخدام اللغة باختلاف البيئة، واختلاف المواقف الحياتية، إنها تُكَوِّن العلاقات الاجتماعية وتحتفظ بها، وأنها تعبرعن استجابات الفرد للأشياء، وأنها تستخدم لإخفاء نوايا الفرد، وأنها تستخدم لطلب المعلومات وإعطائها، وأنها تعلم طريقة عمل الأشياء أو تعليمها للآخرين.
وأنها تستخدم للمحادثة عبر الهاتف، وأنها تخلص الفرد من متاعبه، وأنها تحل المشكلات، وأنها تناقش الأفكار، وأنها تلعب الأدوار الاجتماعية، وأنها تُرَوِّح عن الآخرين، وأنها تحقق للفرد إنجازاته، وظائف كثيرة لا تعد ولا تحصى، وإن رآها بعضهم أنها لا تبعد كثيرًا عن الوظيفة الأصلية في نظرهم، وهي الاتصال بين البشر.
ولا تنسَ وظيفة اللغة في شقها المكتوب، وأنها تستخدم في شكلها المكتوب؛ لتدوين ما تريد من صكوك، ومعاهدات، ووثائق، وتراث سواء كان هذا التراث أدبيًّا، أو علميًّا، أو فنيًّا، أو دينيًّا، أو قانونيًّا، ويُنقل هذا التراث إلى الأجيال، ثم تضيف إليه الأجيال ما تتوصل إليه عقولهم أيضًا؛ فيتكون من كل هذا ما يسمى بالحضارات، إن كثرة بني آدم في الأرض وتفرقهم فيها، وذهابهم في أطرافها، يقتضي منهم تسجيل اللغة بالكتابة حتى تتواصل الأجيال السابق منها باللاحق.
وحتى يتواصل أبناء الجيل الواحد في أرض الله الواسعة، وتنتقل أخبار بعضهم إلى بعض؛ إذ اللغة المنطوقة من الناحية الفيزيائية لا تدوم، فالأصوات لا تمكث في الهواء زمانًا طويلًا إلَّا ريثما تأخذ المسامع حظها من الطنين، كما يقول إخوان الصفاء، ثم تضمحل تلك الأصوات من الهواء الحامل لها المؤدي إلى المسامع، ولما كانت الأصوات على هذا النحو لا تمكث في الهواء إلَّا ريثما تأخذ الأسماع حظها ثم تضمحل؛ احتاج بنو البشر إلى أن يقيدوا اللغة المنطوقة بصناعة الكتابة.
وإذا صرفنا النظر عما يثار الآن في الدراسة الفيزيائية الصوتية من أن الذبذبات الصوتية لا تفنى، أو أن الصوت لا يضمحل، فإن اللغة المكتوبة تميزت عن اللغة المنطوقة فترة طويلة من الزمن إلى بداية القرن العشرين، بإمكان انتقالها من مكان إلى آخر وعبر مسافات بعيدة، وبثباتها؛ حيث لا تتعرض للتغيير المستمر الذي يصيب اللغة المنطوقة.
ومن ثم أمكن تسجيلها ونقلها عبر أجيال متعاقبة من البشر، وقد تضاءلت هاتان الميزتان للغة المكتوبة حين ابتكرت، وانتشرت الأجهزة التي سجلت الأصوات، ونقلتها من مكان إلى آخر عبر مسافات بعيدة، مثل: الاسطوانات، والمسجلات الصوتية، والهاتف، والبرق، أعني: التلغراف، والمذياع، والتلفاز، والأفلام الناطقة.
وهو الأمر الذي أدى إلى قيام جدل عنيف في البلدان الغربية حول الكتابة وأهميتها؛ حيث قلل بعض العلماء من أهمية الكتابة، ورأى أنها لا تمثل لغة الحديث، وأنه لا يحق تسميتها لغة، ودعا هؤلاء إلى إهمال قواعد النحو المبنية على لغة الكتابة؛ لأنها غير عملية.
وقد ظهرت آثار ذلك في إهمال تدريس الهجاء، وعلامات الترقيم، والأصول النحوية في مدارس الغرب، وظهرت آثار ذلك أيضًا في إعراض الجيل الجديد عن القراءة والكتابة، كما يقول العالم “ماريوباي” في كتابه: (لغات البشر). ولكن مع قرب انتهاء القرن العشرين الذي رحل عنا، هيأ الله للكتابة أن تحتفظ بمكانتها حين ابتكرت الأجهزة الناقلة للكتابة عبر الهواء، مثل: “الفاكس ميل”؛ حيث ينقل المرء بواسطته ما يشاء من رسائل مكتوبة متخطية حدود الزمان والمكان، وحين ابتكرت أيضًا الأجهزة التي تصور اللغة المكتوبة بسهولة وسرعة، ولعلنا نلحظ النقلة الحضارية التي مكنت الكتابة من الانتقال السريع بواسطة شبكة الإنترنت، أو ما يسمى بالشبكة العنكبوتية، كل هذا جعل اللغة في شقها المكتوب لا تقل أهمية عن شقها اللغوي المنطوق.